|
المتّة
منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 7074 - 2021 / 11 / 11 - 16:40
المحور:
الادب والفن
يُحكى أنّ سفينة مُحمّلة بالمتّة الأرجنتينية من نوع «أماندا» غرقت مقابل ساحل طرطرس، فاستلّ المواطنون مصاصاتهم وصاروا يشربون ماء البحر. هذه طُرفة طرطوسيّة تُبيّن، في ذات الحين، شغف السوريين بعرقرة أو قرقعة شراب المتّة. سوريو جبل الدروز والمناطق الغربية وصولاً إلى الساحل، بما في ذلك القلمون وبعض مناطق ريف دمشق يستهلكونها، وعديدهم يدمنونها، إن توافرت هذه الأيام. في المحافظات الشمالية والشرقية لا يتعاطاها، تقريباً، أحد. ولأنني أنتمي إلى شرق البلاد، فقد حصل شرف التعارف في دمشق، حينما تذّوقتها لأوّل مرّة لدى زميلي القادم من حصين البحر. فيما بعد، وإبّان دورة المشاة في مدرسة المسلمية، كان الزملاء من الساحل يتناوبون على المصّاصة فماً فماً بعد «فركة» سريعة بطرف السترة الكاكيّة، ثمّ سرعان ما ينضمّ إليهم فتيان السويداء. البقيّة فضّلوا الشاي والقهوة، وخريجو الإتحاد السوفياتي التزموا جانب العرق، الأقرب إلى مزاج الڤودكا.
قبل نحو ثلاثين سنة، تناولت وجبة سوشي في مطعم ياباني في كوبنهاغن، فقامت السيدة هيروي (مديرة المطعم) بتقديم إبريق شاي أخضر. ذكّرني المذاق مُباشرة بالمتّة، فطلبت منها قليلاً من السكّر. كانت على وشك القيام بصفعي على هذا الطلب الكافر. في اليابان يُشرب الشاى الأخضر دون إضافة المُحليّات. وعلى ذكر السويداء، تحضرني قصّة شاب كان أسمه مجد، لم يكن يعرف من اللغة العربية سوى العديد من الشتائم تعلّمها من أشقياء زملاء الدورة. الشاب وُلد في فنزويلا من أبوين من جبل الدروز، جاءا في زيارة لسورية، بينما بقي مجد هناك لخوض إمتحانات الجامعة، في زمن خلا من الإنترنيت والهواتف الذكية. لم يسمع من والديه لفترة طويلة. قلقَ، فحمل حقيبة نصف محتوياتها كانت أكياس متّة، وجاء إلى مطار دمشق. هناك قالوا له أنت مطلوب لخدمة العلم، وساقوه مخفوراً. التقينا به، بعد فرزنا إلى الإدارة السياسية في دمشق، حيث كان يعمل في قسم اللغة الإسبانية الذي كان يشرف عليه رفعت عطفة، وقاموس لغته العربية لم يكن قد تجاوز الشتائم التي كان يُطلقها بلكنة الفرنجة.
لـ yerba mate عدّة تسميات في موطنها اللاتيني الأميركي، لكن يبدو أنّها مُشتقّة من لهجة الپاراغواي الإسبانية وتعني «القرعة»، وهي نوع من نبات تكثر زراعته في تلك الأنحاء. وقد تعاطاه السكان الأصليون (الغواران والكانغاغ) منذ الاف السنين. لتحضير الشراب: ضع كمية من المتّة تُعادل ثلث القرعة أو الإبريق، أضف القليل من الماء البارد للنقع، ثم السكّر. يُسخّن الماء حتى درجة ٨٠ مئوية كحد أقصى، ثمّ يُضاف إلى الجوزة. درجة غليان الماء ستحيله مزيجاً مُرّاً مُزعجاً، علاوة على أنّه سيدمّر فيتاميناته. في سوريا يقوم البعض بإضافة الهيل وألاعيب اخرى تُبعده عن الطعم الأصل. إذا زرت بيتاً أرجنتينياً، يقولون لك Hola (مرحباً)، ثم يتبعونها بـ«unos mates¿» (هل ترغب بشرب المتّة؟).
وشجرة المتّة دائمة الخضرة، أوراقها تنمو على نحو متناوب على الساق وشكلها بيضوي مُدّبب تزهر في تشرين الثاني وكانون الأول، ولون أزهارها حمراء تُشبه الفلفل. وقد اعتبرها السكان الأصليون هدية وهبة من الآلهة. أما الغزاة من أوروبا في القرن السادس عشر فقد تعلّموا أيضاً شرب منقوعها.
هنا قد لا أكون مُخطئاً تماماً من ناحية المذاق، لأن عملية تحضيرها تُشبه الشاي الأخضر، بحيث تُحمّص أوراقها بدرجة حرارة عالية لإيقاف مفعول الأنزيمات، مّما يوقف، بدوره، عملية التخمير وتبقى الأوراق خضراء اللون. من الموكّد أنّ الهجرة السورية (سوريا الكُبرى) إلى أمريكا اللاتينية، والتي ارتبطت بأمرين، الفرار من العثمانيين، ثمّ الفقر والقحط والأزمات الإقتصادية التي نجمت عن ضعف الإمبراطورية، إلى جانب النمو المُذهل في اقتصاد تلك القارة، خاصّة الأرجنتين. كان ذلك بدءاً من العام ١٨٥٠. وأذا كان المُهاجرون العائدين لزيارة الأهل والوطن هم من رسّخ شعبيتها في سوريا، فإن إنتشارها في أنحاء العالم في السنوات الأخيرة يعود إلى نجوم رياضة كرة القدم بالدرجة الأولى، خاصّة «ميسي» التي يحمل جوزته في دهاليز ما قبل الدخول إلى حلبة الملاعب.
من طقوسها السورية أن تقول «كراسي»، إن لم ترغب بشرب المزيد، ومن الواضح أن الكلمة مُستنبطة من «گراسياس»، وتعني شكراً بإسبانية أمريكا اللاتينية. گراثياس بإسبانية شبه الجزيرة الإيبيرية. جرت العادة أن يكون لكلّ شارب جوزته، لكن في السويداء والقلمون، يشرب المجتمعون، عادةً، من جوزة واحدة.
سوريا كانت المستورد الأكبر من الأرجنتين (٩٩,٧٪)، بمقدار ٣٤,٥ طن عام ٢٠١٨. وقد حاول بعض الروّاد زراعتها في البلاد، إلّا أنّ الفكرة فشلت، ويعود هذا إلى المناخ والشروط الزراعية، لأن شجرة المتّة تنمو في بيئة المناطق الإستوائية. أزمة عام ٢٠١٧ يعرفها مدمنو المتّة جيداً، فقد حصلت مواجهة بين وزارة التجارة والتجّار الذين رفعوا سعر العبوة إلى خمسائة ليرة، لكن الوزارة حدّدتها بنصف المبلغ. وكما جرت العادة، فقد قام التجّار باحتكارها، ممّا أدى إلى غضب مُستهلكي هذه العشبة السّاحرة، واحتجاج معمل تعليبها في يبرود. الآن وبسبب المقاطعة وندرتها (مازالت متوفرة عن طريق المهربين) ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. بالرغم من ذلك يقوم المواطنون بتخزينها وشراء كميات كبيرة منها، تحسّباً للأوقات الأكثر صعوبة.
تحتوي المتّة على مادة الكافايين (إلى ١,٧٪)، والتيوفيللين، التيوبرومين، البوتاسيوم، المغنيزيوم، المنغنيز، الصوديم، الفوسفور، الكالسيوم، فيتاميات ب ١ وب٢، فيتامين سي، النياسين، الكاروتين، الأحماض الأمينية، مُضادات أكسدة، التانينات والعديد غيرها. مدّرة للبول، وتساهم بإنقاص الوزن إلى جانب العديد من الفوائد الاخرى. إذا أخبرك أحدهم أن لها مفعول الڤياگرا، أطلق عليه رصاصة.
وكما جرت العادة، فقد بحثت عن قصائد تتحدّث عن المتّة، واخترت هاتين القصيدتين.
لقد قطعنا شوطاً طويلاً لدمج جذورنا معاً بعيداً عن المنزل: شجيرة، قرعة، قش، يربا متّة، رفاقي وأنا. (الشاعرة الأوسترالية هيلين راموتساكي).
ضع الغلاية على النار ضع الغلاية على النار هو الجواب البريطاني لهَرمَجَدّون. لا تهتم بارتفاع الضرائب لا تفكر مطلقًا في تأخّر القطارات شيء واحد يمكنك التأكد منه وهذا هو غلاية المتّة. (الشاعر جون أغارد، ولد في غوايانا ١٩٤٩).
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صابون
-
الخنزير
-
سپاگيتي
-
ليس «هاپي اندينغ»
-
ثقافة التواليت اليابانية
-
ماكس، الكلب
-
نهر التمساح
-
صفصاف مازدا
-
جلد عميرة
-
النبيذ
-
الشاي
-
الترفل والكمأة
-
إشكالية أسمهان
-
الدجاج
-
ما صحّ عن الأثداء
-
آيا صوفيا
-
دليلي احتار
-
إلى أرمينيا
-
دمشق
-
الأطلال
المزيد.....
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|