بحث في الحرية والديموقراطية ( /1)
من المسائل الهامة والأساسية ذات التأثير المصيري في تطور الشعوب والمجتمعات أشكال أنظمة الحكم التي تسود فيها . هناك أشكال من أنظمة الحكم تركز صنع القرارات في المجتمع بيد فئة ضيقة من المتنفذين الموالين لملك ، أو إمبراطور ، أو ديكتاتور ملهم ، لتختزل طاقات وإبداعات الشعب في رؤية تلك الفئة التي مع مرور الزمن ترى نفسها منزهة، لا تخطئ ، وهكذا تلتقي هذه الأشكال من أنظمة الحكم في صيغة لتأليه الحاكم ، الذي لا يتقن وسيلة أخرى في الحياة غير تبوأ منصب الحاكم لشعب مكبل بآليات قمعية تحد من حرياته وإبداعه .. وهناك أشكال أخرى من أنظمة الحكم يقتنع حكامها أنّهم جزء من الشعب ، يمكنهم أن يكونوا حكاماً ومواطنين عاديين كجميع أفراد الشعب الذي يستطيع أن يختار حكامه وممثليه وفق آلية اصطلح على تسميتها بالديموقراطية .
وللتعرف على الديموقراطية كشكل من أشكال الحكم ، ودورها في تقدم المجتمعات ، سنلقي نظرة تاريخية على أشكال الحكم المختلفة التي عرفتها المجتمعات البشرية ، ونتعرف بشيء من التفصيل على أشكال الحكم الديموقراطية ، ومثالبها والتحفظات عليها ، وتفنيد تلك المثالب ، ونظرة مختلف المفكرين الليبراليين والاشتراكيين إلى الديموقراطية ، علنا نبين مكانة وأهمية الديموقراطية بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية ، التي تُعد الديموقراطية من ألح المطالب الضرورية لها ، ويعد التقصير في تطبيقها فرصة من الفرص الضائعة في تاريخ العرب .
ـ 1 ـ
أنظمة الحكم والديموقراطية
نظرة تاريخية
عرفت البشرية في مراحل تطورها المتتالية أشكالاً مختلفة من أنظمة الحكم ، وكما كانت اليونان والساحل السوري وبلاد الرافدين ومصر وفارس مهداً لأهم الحضارات القديمة ، فإنّها عرفت أقدم أنظمة الحكم ، تلك الأنظمة التي ارتبطت تسمياتها بطبيعة الفئة الحاكمة فيها.
وكما تبين المراجع التاريخية فقد عرفت أثينا اليونان في العهد القديم أنظمة الحكم التالية : الأرستقراطي Aristots أي الأفضل ، و Kratia أي حكم (القلة الفاضلة ) والأوليجاركي Oligos القلة الغنية ـ حكومة الأقلية الغنية التي تحكم لصالحها الخاص ، والتيراني Turanos (التوليتاري) الطغيان ، والديموغاجية Demagoge التي تعني قيادة الجماهير ، وكذلك الحكم الملكي أو الفردي Monarchy المونارخي .. والديموقراطي Demokratia (Democratic) المكونة من كلمتيDemos أي الشعب ، و Kratia أي الحكم ، فهي حرفياً حكم الشعب كله .. الخ
ويبين المؤرخون أنّ سيراقوصة ( مدينة في صقلية ) انتقلت من الحكم الأوليغارخي إلى الحكم الملكي .. ثم توالى عليها الطغاة من ديونسيوس الأول ( أو الكبير ) إلى ديونسيوس الثاني أو الابن وكان أفلاطون يحاول مع الأب ثم الابن أن يحقق دولته المثالية ، لكنه يفشل ويتآمر عليه الطاغية حتى ينتهي الحال على أن يباع الفيلسوف في سوق الرقيق لولا أن تعرف عليه أحد تلامذته فاشتراه وأعتقه .
كما عرفت مصر وبابل وفارس وشعوب الشرق أنظمة حكم ، منها الملكية والأرستقراطية والثيوقراطية ـ و " الثيوقراطية Theocracy مصطلح يوناني الأصل أيضاً، مؤلف من Theos بمعنى إله ، و Kratia بمعنى حكم ، فهي تعني حرفياً "حكم الإله " إما مباشرة أو من خلال رجال الدين ..
فالديموقراطية شكل من أشكال الحكم ، ظهرت معه ، وقبله ، وبعده ، أشكال أخرى كثيرة من الحكم طوال مسيرة تطور المجتمعات البشرية .. وقد بدأت الديموقراطية عند اليونان ، كما بيّنا ، ولا تزال تحمل الاشتقاق اللغوي الذي يدل حرفياً على حكم الشعب كله ..
فالديموقراطية كما تبين المراجع التاريخية بدأت بتجربة في مدينة أثينا التي كان يجتمع فيها الشعب كله بذاته ، في " جمعية شعبية Ecclesia " ، تضم مواطني أثينا الأحرار الذكور الذين بلغوا العشرين من العمر .. وتقوم هذه الجمعية بمهام التشريع ومراقبة أعمال الحكومة ، وتنتخب ضعف العدد المطلوب من أعضاء الحكومة وممن يشغلون الوظائف العامة : كالموظفين العموميين والقضاة وقادة الجيش والضباط .. الخ ، يتم اختيار العدد المطلوب من بين المنتخبين بالقرعة .(1)
ويؤخذ على ديموقراطية أثينا أن مفهوم الشعب فيها لم يكن محدداً تحديداً صحيحاً ، فقد هاجم أفلاطون وتلميذه أرسطو الديموقراطية لأسباب منها أن كلمة الشعب Demos اليونانية نفسها تعني الغوغاء أو الفقراء أو من لا يملك شيئاً ، وهذا يضم بالضرورة الأميين والدهماء وغير الأكفاء بالتالي تقود ـ حسب زعمهم ـ إلى حكم الغوغاء والرعاع والدهماء ومن على شاكلتهم .. فضلاً عن أنّه في ديموقراطية أثينا افتقدت الحريات الشخصية (العقيدة، الانتقال، السكن..)
لقد طورت المجتمعات البشرية التجربة الديموقراطية التي بدأت عند اليونان ، إلى درجة يمكن القول فيها أنّ الأنظمة الديموقراطية التي تضع أدوات الحكم تحت رقابة المواطنين وسيطرتهم تختلف اختلافاً جذرياً عن التجربة القديمة ، خاصة من حيث تحديدها لمفهومي الشعب والحرية ، فالديموقراطية هي نتيجة وزبدة تراكم عمليات تحول اجتماعي وفكري طويلة الأمد على الصعيد البشري الإنساني ككل ، وليس في مجتمع أو شعب أو عرق محدد .
وكما تعددت أشكال الحكم في أثينا قبل وبعد معرفتها للديموقراطية ، فقد عرفت دول العالم ، العديد من الأشكال المختلفة لأنظمة الحكم بما فيها الأنظمة الديكتاتورية والملكية المطلقة والثيوقراطية قبل معرفتها للديموقراطية ..
ولم تصل الشعوب ، بما فيها الأوروبية ، إلى الأنظمة الديموقراطية بسهولة ، بل عبر صراع شاق لم يخل من إراقة الدماء ، كما سنبين عند بحثنا بالتفصيل لمسيرة الديموقراطية في أوروبا ، ذلك الصراع الذي ترافق مع صراع فكري بين تيارات متعارضة بعضها يبرر الحكم المطلق ويباركه كهوبز (1588-1679) في إنجلترا والأب جاك بوسويه ( 1627-1704) في فرنسا وآخر يدعو إلى القضاء على الظلم وطغيان الحكم المطلق ، وفي طليعتهم المفكر الإنجليزي جون لوك ( 1632-1704) والمفكران الفرنسيان مونتسكيو وروسو .
وتركز الصراع الفكري حول أنظمة الحكم بين مذهبين أساسيين :
ـ مذهب الحكم المطلق الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض ، ويستند في أيديولوجيته إلى العهد القديم من الكتاب المقدس ، الذي يعد النظام الأبوي البطريارخي Patriarchalism هو النظام الطبيعي للمجتمع وهي الأيديولوجيا المفضلة للملوك لتبرير سلطانهم بزعمهم أنّهم يستمدونه من الله مباشرة ، وأنّهم ظل الله على الأرض ، أو يحكمون باسمه ، وهو من يحاسبهم على أفعالهم وليست الشعوب ..
ـ مذهب " العقد الاجتماعي " Social Contract الذي يفسر نشأة الدولة على أساس تعاقد بين الأفراد كجماعة ، أو بينهم وبين الحكام ، وكان لهذا المذهب آثار فائقة الأهمية على صعيد تطور أنظمة الحكم والمجتمعات البشرية . وأصبحت نظرية " العقد الاجتماعي " سلاحاً فعالاً في وجه مزاعم المذهب البطريارخي ، ووسيلة لتفنيد وإنكار الصيغة الدينية وغير الدينية التي ابتدعها الحكام لإضفاء القداسة على الحاكم ، انطلاقاً من أنّ الناس ولدوا أحراراً متساوين أمام الله وأمام القانون الطبيعي ، بالتالي فسلطة الحاكم ، بصفة عامة ، تنبع من إرادة وموافقة الشعب في إطار تحقيق وحماية اهتماماته ، وفي نفس الوقت يؤسس الشعب المجتمع المدني نفسه كوسيلة لحماية هذه الاهتمامات وصيانتها من طغيان الحاكم والإرادات الأنانية ، وبما أنّ المجتمع المدني هو من صنع الإنسان وليس مجرد نمو طبيعي كخلايا الكائنات الحية ، فالحكام كغيرهم من البشر يجب أن يخضعوا لبنود العقد الذي تخطه الشعوب ومفكروها .. فسلطة الحكام يجب أن تكون مقنونة وليست مطلقة .. ويمثل ذلك نقلة نوعية باتجاه الحكم الديموقراطي ، حكم الشعب الحر ..
الشعب :
الديموقراطية تُعرَّفُ بأنَّها " حكم الشعب " ؛ فما المقصود بمفهوم الشعب ؟
تطور مفهوم الشعب تاريخياً ، ففي عهد أفلاطون (427-347 ق.م.) قصد بالشعب العامة من الغوغاء ، وفي هذا السياق جاء فهم أفلاطون لمعنى كلمة الشعب في إطار النظام الديموقراطي ، ثم تطور هذا المفهوم في عهد تلميذه أرسطو (384-322 ق.م.) " ليشمل جماهير الفقراء " في المدن .
وفي اليونان حيث ابتكرت الديموقراطية أو " حكم الشعب " ، كان الحكم يُقَرَرُ من قبل المواطنين الذكور الأحرار الذين بلغوا سن العشرين .. فمفهوم الشعب كان قاصراً على هؤلاء المواطنين دون غيرهم .. فالعبيد والنساء والمقيمين لم يدخلوا في مفهوم الشعب ، فالسلطة السياسية كانت بيد المواطنين الأحرار وحدهم الذي يشكلون حوالي عشر السكان أو ثلثهم وليست بيد الأغلبية ..
مما تقدم يتبين أنّ للشعب مفهومين أساسيين : اجتماعي وسياسي .
الشعب في دولة ما ، في المفهوم الاجتماعي ، يشمل جميع المواطنين الذين ينتمون لهذه الدولة ، بمن فيهم الأطفال والشيوخ والرجال والنساء والمجانين والمرضى ، والمساجين ومن إليهم ممن فقدوا الأهلية السياسية ، والأجانب الذي أمضوا فترة محددة على وجودهم على أرض هذه الدولة حسب دستورها .
أما في المفهوم السياسي ، فالشعب يقتصر على من يملكون حق الانتخاب ، أي ممارسة الحقوق السياسية .. فصاحب السلطة ومصدر السيادة في النظام الديموقراطي هم هيئة الناخبين الذين يطلق عليهم اسم الشعب حسب المفهوم السياسي ..
وقد مرت هيئة الناخبين بمراحل مختلفة حيث حدد أعضاؤها في بعض الدول انطلاقاً من اعتبارات مادية .. واعتبرت بعض الدول مبدأ الانتخاب حقاً وواجباً من يتخلف عنه يتعرض لعقوبات مادية ..
ومن الأمور التي أعاقت شمولية مفهوم الشعب لجميع المواطنين نظام العبودية الذي استمر طوال العصور الوسطى ، وتعزز وتوسع انتشاره ليشمل أمريكا منذ القرن السادس عشر مع ظهور تجارة الرقيق المبنية على " صيد " الأفارقة واستعبادهم .. ثم تلاه النظام الإقطاعي الذي ترافق بنظام القنانة " رق الأرض Serfdom " التي تعد الفلاح القن جزءاً من ملكية سيده الإقطاعي ..
ومع تطور نضال الشعوب في سبيل الحرية والديموقراطية ساهم المفكرون في هذا النضال بدعوتهم لإلغاء الرق واحترام الإنسان بما هو إنسان وإعطائه حقوقه المدنية ، وكان في طليعة هؤلاء المفكرين مفكرو التنوير في مطلع القرن الثامن عشر ، الذين دعوا إلى التحرر من الظلم والاستبداد ، وقد انبثق هذا التيار من أشهر فلاسفة العصر وفي طليعتهم فولتير (1694-1778) وجان جاك روسو (1712-1778) ومنتسكيو (1689-1755) الذي حمل في كتابه " روح القوانين " على جميع مظاهر الرق مفنداً المصادر الثلاثة التي وضعها فقهاء الرومان للرق وهي : الحرب ، البيع ، الميلاد .. وسنتعرف لاحقاً على فكرهم بتفصيل أكبر ..
" إنّ مبدأ كمبدأ الاقتراع كان يحمل خطراً بالنسبة لحكم الجماهير لنفسها ، لذا وقع اختيار جيفرسون على المزارعين وتجاهل البروليتاريا المدينية إلى حد بعيد ، في حين وضع روبسبير ثقته في عماله الباريسيين أكثر مما وثق بالمزارعين المتخلفين . هكذا كان بالإمكان إساءة استعمال مفهوم الشعب ، وتأويله وفق مصالح الحزب الحاكم ... هكذا صرخ أحد الصحفيين الجمهوريين ـ بعد انتصار الانتفاضة في شوارع باريس عام 1848 في وجه رجال الانتفاضة الذين لم يطردوا برلمان لويس فيليب من المجلس ـ قائلاً : " هذا هو بالتأكيد الشعب الغلط ، سأذهب لإحضار الشعب الحقيقي "(2)
الحرية
سيبقى السؤال الأساسي حول أسباب فشل مشاريع النهضة العربية يهيمن ويطغى على جميع المفكرين العرب والباحثين عن أفق ومستقبل الأمة العربية ، ولعل غياب الحرية في مختلف مفاصل المجتمعات العربية يشكل أهم عراقيل نهضتها . فالحرية هي بمثابة الروح في النظام الاجتماعي القابل للتطور والتقدم . وتبقى أية معالجة للمسألة الديموقراطية قاصرة إن لم تأخذ الحرية بالحسبان .
من هنا يتبادر سؤال عن ماهية الحرية ، هذه القضية التي رافق البحث عن حقيقتها ومداها الإنسان منذ بدأ يعي صراعه مع الوجود . ومع التطور الاجتماعي عُرِفَ مستويان للحرية : مستوى ذاتي ، ومستوى اجتماعي . فعلى الصعيد الذاتي يبقى سؤال إن كان الإنسان مسيراً أم مخيراً ، من أكثر الأسئلة صعوبة ، وقد خلق البحث في هذا السؤال مدارس فكرية متناقضة ، أما في المستوى الاجتماعي فنتعرف على الحريات الدينية والثقافية والسياسية، وغيرها من الحريات في نطاق علاقة الفرد والجماعة بالمجتمع .. وتؤكد دقة وصعوبة هذه المسألة ضرورة معالجتها نظرياً وغرسها في الوعي الفردي والاجتماعي ، وفي نفس الوقت مقاربتها موضوعياً وعملياً بالاستناد على التاريخ والواقع ..
وفي سياق البحث في مسالة الحرية تطرق علماء الاجتماع إلى الحرية بمعنييها الإيجابي والسلبي ؛ فالحرية بمعناها الإيجابي تعني مساهمة الفرد في وضع القوانين التي تشرِّع خطاه وسلوكه ، أو ما يسمى بـ" التحديد الذاتي ". فالحرية الإيجابية تعني أنه عندما يحكم الفرد نفسه بنفسه يكون حراً ، وهذا أرفع شكل من أشكال الديموقراطية .
أما الحرية بمعناها السلبي فهي التحرر من القيود ، وعدم التدخل في سلوك الفرد من قبل أية سلطة ، مادام هذا السلوك لا يضر الآخرين .(3)
والحرية قضية مركبة متكاملة في مختلف جوانبها الشخصية والاجتماعية والإنسانية العامة ، إذ أننا عندما نتحدث عن الحرية أول ما يتبادر إلى الذهن الحرية الشخصية التي تحدد حياة وأفعال الإنسان الفرد ، وتشمل طيف واسع من حرية الفعل الذي يشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية كحرية الفكر و الحركة والاعتقاد والتعبير والاجتماع والتجمع والعمل والمعرفة وحرية المرأة .. وغيرها
وتبقى الحرية الشخصية ناقصة إن لم تعززها بنى اجتماعية قائمة على الحريات الاجتماعية والسياسية ، تتضمن حرية تشكيل الجمعيات والأحزاب وحرية التعبير والتباين والاختلاف ، كل ذلك يندرج في إطار السلطة التي يقرر فيها الشعب مصيره ..
وفي نفس الوقت تبقى الحرية الشخصية والحريات الاجتماعية والسياسية مشوهة وغير ناجزة إن لم يكللها التحرر من مختلف أشكال التدخلات الدولية الخارجية التي تنتقص من قدرها سياسياً أم اقتصادياً أم عسكرياً أم روحياً .. كما أنّ الحريات الإنسانية العامة ستبقى مقيدة في قوى الطبيعة وامتداداتها إن لم يتم فهمها وفهم قوانينها وضروراتها . من هنا أتى تعريف ماركس المشهور للحرية بأنّها فهم الضرورة .
نظرة تاريخية :
لقد عرف العرب تاريخياً وعالمياً بحبهم للحرية ، ولقد تحدث أكثر من مفكر عالمي عن هذه الصفة التي امتاز بها العرب والتي يضحون بحياتهم في سبيلها ، ولعل ظاهرة الشعراء الصعاليك وأشعارهم من أهم المصادر الثقافية والفكرية حول مفهوم العرب للحرية ، والتراث العربي غني بالنفحات التي تدعو للحرية ، والتي عبّر عنها الصحابي الفذ عمر بن الخطاب أحسن تعبير عندما قال : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ". كما عالج المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمون مسألة الحرية بشكل مستفيض ، وتأسست مدارس متصارعة حول مسألة الحرية و الجبرية ، ولعل موقف ابن رشد كان أقرب المواقف من علم الاجتماع الحديث عندما قال : إنّ الإنسان غير مطلق الحرية تماماً ولا مقيدها تماماً . وذلك لأنّه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه فهو حر مطلق لأنّ نفسه مطلقة الحرية في جسمه ، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيداً بها لما لها من تأثير على أعماله . وتتلخص فلسفة ابن رشد الأخلاقية باعتبار الإنسان حراً في أعماله .(4)
وفي أوروبا ومنذ بدايات عصر النهضة ، ومع تحرر الفكر من قيود العصور الوسطى اللاهوتية ، وبدء معالجة الموضوعات السياسية والاجتماعية من منطلق مستقل عن الدين ، أخذت مسألة الحرية بمعناها السياسي لا اللاهوتي تشق طريقها لتحتل مكانة مرموقة في الفكر والممارسة الأوروبية ؛ ولعلّ أول من تطرق إلى حرية الإنسان في بدايات عصر النهضة الأوروبية كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) الذي عرّف الإنسان الحر بأنّه " الإنسان الذي لا تعوقه العوائق عن فعل ما يرغب في فعله " ، وكان هوبز أول من بحث في إمكان قيام نظم اجتماعية على أسس وقواعد راسخة في حدود قدرات الإنسان وتقضي على الفوضى .. منوهاً إلى أنّ عجز الإنسان عن تحقيق فعل يفوق طاقته لا يعني انعداماً للحرية ..
وأكد جان جاك روسو (1712-1778) أنّ فقدان الحرية يعود إلى الأنظمة السياسية السيئة التي تكبل الإنسان بالأغلال .. ويقول " في الحرية العامة ليس لأحد الحق في أن يفعل ما تحرمه عليه حرية الآخرين .. الحرية بدون عدالة تناقض حقيقي ، فلا حرية بغير قوانين ، ولا حرية عندما يكون شخص فوق القانون .. والشعب الحر بطبعه يطيع لكنه لا يخدم .. وهو لا يطيع شيئاً سوى القوانين .." وفي مكان آخر يقول :" لا بد لنا أن نضيف أن الإنسان يكتسب من المجتمع المدني الحرية الأخلاقية ، وهي وحدها التي تجعل الإنسان سيد نفسه ، ذلك لأنّ سلوك الإنسان لو حكمته الشهوة وحدها فهذه هي العبودية ، في حين أنّ الحرية هي طاعة القانون الذي نلزم به أنفسنا "(5)
ويربط " هيغل " (1770-1831) طاعة الإنسان للقانون بمدى مساهمته في سنّه كأنّه يطيع نفسه ، ولتصبح الحرية هي التحديد الذاتي Self-determination كما يقول هيغل .. و المجتمع المثالي هو مجتمع الأحرار كما يقول كانط (1724-1804) الذي تفهم الحرية لديه انطلاقاً من اعتبار الإنسانية في الذات الشخصية غاية وليست وسيلة ، ومن تناغم السلوك الذاتي مع القانون ، فنحن لا نضع قانوناً إلاّ لأنّه التعبير الضروري عن طبيعتنا باعتبارنا موجودات عاقلة ..(6)
وعلى الرغم من النواقص الفظيعة في كتاب جاء جون ستيوارت مل (1806-1873) عن الحرية ، والذي صنف فيه الشعوب حسب درجات الرشد ووافق على استعباد من هم في سن القصور من الهمج ـ حسب قوله ـ يبقى كتابه مرجعاً تاريخياً هاماً عمّا كتب عن الحرية .. التي تشمل لديه حرية الضمير والفكر والشعور والرأي والعاطفة ؛ وهذا ما صنفه في مجال الوعي الباطني ، بالإضافة إلى حرية ممارسة العمل الذي نهواه طالما لا يضر بالآخرين ، مع تأكيده على حرية الاجتماع والتنظيم .. ومهما يكن نظام الحكم في المجتمع الذي لا تراعى فيه هذه الحريات ، لا يمكن أن يكون مجتمعاً حراً ، ولا تشفعه الألقاب والنعوت التي يتغزل بها ..
يُعدُّ " مل " من أكبر المدافعين عن المذهب الليبرالي الفردي ، المبني على المصلحة ، في القرن التاسع عشر .. ويؤكد أنّه إذا كان هدف الحكومة تحقيق السعادة للناس جميعاً .. فإنّ ذلك التقدم وتلك السعادة لا يمكن أن تتحقق إلاّ عن طريق الحرية التي جوهرها حرية السعي وراء مصالحنا الخاصة ، مع عدم حرمان الآخرين من هذه الحرية ..
ومن القضايا التي لا يمكننا الاتفاق فيها مع مل : تبريره لاستعباد الشعوب الضعيفة، واعتقاده بالحرية المطلقة ، وعدم تقديره للضرر الذي تلحقه بالمجتمع على سبيل المثال الحرية الجنسية المثلية وحرية تحول الرجل إلى امرأة .. وأثرها على الأسرة .
إنّ فهم الإنسان للحرية يتجدد ويتطور باستمرار مع تطور الحياة الاجتماعية متأثراً بمجمل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والواقع المحيط .. ففي بداية القرن العشرين ومع تزايد الاهتمام بالعلاقة بين الفرد والمجتمع ، ارتبط مفهوم الحرية بقضية المساواة ، وتحقيق العيش الرغيد .. وكان ذلك نتيجة للتراكم الطويل في نضال الشعوب في سبيل الحرية والديموقراطية ، والذي كان أهم مفاصله التاريخية : الرقي في مفهوم الشعب ليشمل مجموع المواطنين ، هذا الرقي في المفهوم الذي دشنته الثورة الفرنسية ، وتلا ذلك إعلان تحرير العبيد في الأول من يناير 1863 بعد نضال مرير وحرب الانفصال في أمريكا التي قادها "ابراهام لنكولن " .. وتطور نضال الطبقة العاملة في سبيل تحررها من الاستغلال الرأسمالي الذي حقق مكاسب هامة على الصعيد العالمي .. ومن الجوانب الهامة في نضال البشرية في سبيل الحرية مسألة حرية المرأة ، ويعود الفضل لمل في الدعوة لأول مرة لعقد جلسة لمجلس العموم البريطاني لمناقشة حقوق النساء عام 1868 .. وكانت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 هي أول من أعطى المرأة حريتها في أوروبا ، في حين حصلت المرأة الإنجليزية على حقوقها في عام 1918 ، والأمريكية 1920 ، والفرنسية 1944 ، والإيطالية 1945 ، وتأثرت بعض الدول العربية بالتطور العالمي ، ونالت فيها المرأة بعض حقوقها ، إلاّ أنّ البعض بقي يفسر الآيات القرآنية المعارضة حصول المرأة على حقوقها السياسية " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة " ( البقرة 228) " الرجال قوامون على النساء " ( النساء 34 ) على الرغم من أنّه يمكن فهم هذه الآيات على أنّها تتحدث عن تنظيم علاقة الرجل مع المرأة داخل الأسرة .. ولا تحجب حقها في النظام الاجتماعي ، وكما أنّ دور الرجل داخل الأسرة لا يحرمه حقوقه الاجتماعية في النظام الاجتماعي والدولة فإنّ ذلك ينطبق على المرأة أيضاً .. (7)
وعلى الرغم من الإنجازات الكبرى التي حققتها البشرية على طريق الحرية ، ومع ازدياد قناعتنا بالقول الحكيم الذي يرى أنّ " الحرية كالفضيلة ، حيث أننا نصير فضلاء بممارسة الفضيلة " ، فإنّها ، أي الحرية ، تبقى إشكالية صعبة لما تحمله في ثناياها من أهمية وتناقضات تجعلنا نريدها ونهاب تبعاتها ونتائجها في آن واحد .. كما تتجلى إشكاليتها في عزوف من يدعو إليها عن السماح بممارستها بعد حصوله على ثمارها .. فتقوم الكثير من التنظيمات والأحزاب التي يتشدق قادتها بالحرية طالما هي تحقق لهم مطامحهم ، ولا يتوانون عن حجبها عن الآخرين إن كان في منحها انتقاص من مصالحهم .. وينطبق ذلك على الدول أيضاً التي تنادي بحق الشعوب في تقرير مصيرها طالما كانت هذه الدعوة تلبي مصالحها ، وتحجب هذا الحق عن شعوب أخرى .. أو إباحة الحريات الجنسية واللواط ، وحجب حرية التعبير والاجتماع ..
ولما كان مفهوم الحرية يرتبط بعوامل مختلفة ، تبدأ من الذات والمجتمع ، لتنتهي بالعالم والطبيعة وامتداداتها ، فإن مجمل هذه العوامل تؤثر في الحرية ، وقد تتحول إلى عوائق في طريقها ، إنّ المنطلق الأساسي للحرية هو الذات الشخصية ، ومن ثم الأسرة والمدرسة ، وفي هذه المستويات إما تتكرس الحرية أو العبودية ، ليطغى أحدهما على سلوك الإنسان ويصبح عادة تجري في دمه .. وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل الذاكرة الاجتماعية التي اصطلح على تسميتها بالتراث ، الذي يمكن أن يكون قيداً أو سلاحاً في سبيل الحرية ، مع العلم بأنّ جميع أنواع التقديس هي عوائق في طريق الحرية .. وعلى الصعيد الاجتماعي فإما أن يكون النظام الاجتماعي مساعداً على تفتح الحرية ، وإما نظاماً استبدادياً ، يتجلى بوصاية الحاكم على الوطن والرعية ، مشكلاً أكبر عائق للحرية .. كل ذلك يجري في إطار عالمي تطغى عليه في هذه الأيام هيمنة الاحتكارات الرأسمالية المالية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ، ممهدة لأنظمة تتجاوب مع مصالح هيمنتها ، وهذه الهيمنة تخنق الحرية على مختلف الصعد .. وتؤسس لمناخ فاسد في مختلف جوانبه ..
يدَّعي قادة بعض المجتمعات من مناوئي حق الشعوب في الحرية أن استقرار المجتمع وحمايته من العدوان الخارجي يتطلب قوانين استثنائية تحد من بعض الحريات .. ويدعمون آرائهم بتصورات يتبنونها كحقائق ثابتة ، كالقول بأنّ السلطة القوية تتطلب الحد من الحريات التي تهدف إلى مشاركة الجميع في اتخاذ القرار ، في حين أنّ القرار القوي لا بد أن يتخذ من قبل سلطة تعتمد على الخبراء المختصين ، كما أنّ تنفيذ تلك القرارات يتطلب التنظيم والقيادة الصارمة التي تلم بمصلحة الرعية ، بعيداً عن التسيب والتحلل الذي يقود إلى الضعف أمام العدو الخارجي .. والقول بأنّ البلد الآمن وإن عاش في شيء من الضيق أفضل من البلد الذي ترتع فيه الجرائم في ظل الحرية .. ولا يكتفي هؤلاء بالطعن في حق الشعوب بالحرية الاجتماعية والسياسية بل يذهبون إلى الدعوة لتقييد الحرية الشخصية بحجة حماية الأخلاق العامة وحماية الأجيال الشابة ، هكذا تزداد الممارسات الاجتماعية والسلطوية المقيدة للحرية ، ووضع حواجز كبيرة أمام حصول المواطن على أبسط حقوقه ، واستسلامه لهذه القيود عن طريق تخديره باللهث وراء تفاهات الحياة اليومية وعراقيلها غير المعقولة ، وإتمام اللوحة بإطار من أجواء الرعب والقمع لتبليد مشاعر المواطن والانحطاط به إلى درك الحيوان المجتر .. الذي ينوب عنه راعيه بتأمين وممارسة مختلف حقوقه وطموحاته التي لا تتعدى تأمين براد وغسالة وفرن غاز إن أمدّ الله في عمره ..
فمنطلق الحرية هو الوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه ، ولن تتحقق الحرية إلاّ في مجتمع ذي بنيان وطبيعة يرتضيها أبناؤه ، وتنسجم مع ذاكرتهم ، وخصالهم النفسية ، وتطلعاتهم الإنسانية .. مجتمع يتجاوز كل أشكال الصراع ، وتعالج التناقضات التناحرية في داخله .. لخلق فضاء تترعرع فيه الحرية في أعلى درجاتها .. في إطار هكذا مجتمع نستطيع معالجة علاقة الحرية بالمصلحة ، وحدود تلك المصلحة والحرية الملازمة لها .. لتغرس الحرية فيه بالتربية والممارسة اليومية لتصبح عادة ضرورية ملازمة لدم الإنسان يضحي بحياته في سبيلها ، إذ أنّ حياته من دونها ليست حياة إنسان بل وجود مسخ سيان وجد أم لم يوجد ..
مع الأخذ بعين الاعتبار المناخ الدولي الذي ليس بالضرورة في صالح مجتمعاتنا .. والذي يدعو باسم الحرية لسياسات غير قانونية ، وإلى احتلال الدول ، وغيرها بحجة الحرية الاقتصادية لهيمنته على خيرات بلداننا .. فإنّ هذا لا يعني الانغلاق على العالم ، بل لا بد من الانخراط في العلاقات الدولية ، مع وضع مصالح شعوبنا في قمة الأولويات .. وهكذا تبقى مسألة التحرر الوطني والقومي من أسمى أسس الحرية .. مع رفض كافة أشكال الاستبداد الداخلي بحجة مقاومة الخطر الخارجي ..
من كل ما تقدم يتبين أنّ مسألة الحرية بدءاً من الحرية الشخصية والإرادة وعلاقة الفرد بالمجتمع والبيئة والطبيعة والكون ، تستدعي فلسفة متكاملة تبحث في هذه الأسئلة للوصول إلى المناخ والوسط الاجتماعي السليم الذي يمكن للحرية أن تنمو وتترعرع بشكل سليم في حناياه .. ولعل أفضل صيغة ،عرفتها البشرية ، في الحكم تلازم الحرية وتحققها لأبناء المجتمع هي الصيغة الديموقراطية .. (يتبع .. )
طرطوس 2002