غربة الله

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)

الحوار المتمدن-العدد: 7064 - 2021 / 11 / 1 - 13:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

أركيولوجيا العدم
١٠٢ - تقلص النور الإلهي


إذا كنت تريد أن تخلق عالما من لاشيء، فإن المهارة الأولى التي ستحتاجها هي مهارة التزمزم tsimtsum أو Tzimtzum وتتمثل في قدرتك على التواجد في غيابك. إذا أتقنت ذلك، وأضفت القدرة على إنشاء وإبداع شيء ما من لا شيء، فإن الباقي سيكون أمرًا في منتهى السهولة، وبذلك تكون إلها حسب الكابالا الصوفية. أما فويرباخ فإنه يرى أن الله هو "الفراغ" الذي ينعكس فيه تاريخ الإنسانية، وهذا الفراغ قد يكون رمزا للعدمية قابلا لإحتواء الله والعالم وتاريخ البشرية. أما في التراث اليهودي فإن الله في البداية كان يحتل الكون بأسره، فقد كان كمالا وامتلاء مطلقا ولم يكن هناك مكان لشيء غير الله أو لأي شيء يحد من لا نهائيته المطلقة. ولكي يخلق الله أي شيء، مهما كان صغيرا، كان عليه أن يترك مكانا وفراغا أو عدما لهذا الشيء الذي سيخلقه. وهذه العملية تسمى צימצום - ‎ - tzimtzúm - تزيمتزوم - بمعنى التقلص أوالإنقباض والإنكماش في ذاته. في نهاية الأمر الكينونة المطلقة -آين سوف ـ تتقلص لكي تترك مكانا لكينونة جديدة نابعة منها. فالكينونة والعدم مرتبطان بصورة مطلقة، لا كينونة بدون عدم، ولا عدم بدون كينونة، هما شيء واحد ولا يوجد تناقض بينهما، ووجود الله او عدم وجوده لن يغير من الأمر شيئا (الله بكماله المطلق لا يحتاج إلى الوجود).Tsimtsum تعني حرفيا "الاختزال"، بالنسبة للقباليين، فإن tzimtzum هو عملية انخفاض في الطاقة الإلهية التي تخلق العوالم، مثل المحولات الكهربائية التي تقلل من جهد التيار الكهربائي الناتج عن مولدات التوربينات الضخمة، حتى يصبح منخفضًا بدرجة كافية ليتم إستعماله لإضاءة لمبة بجانب السرير دون أن تحترق. وبالمثل، يجب أن تتضاءل الطاقة الإلهية وتختزل حتى يمكن للعوالم أن تحتملها. يشبه Tzimtsum أيضًا خفض درجة صوت مكبرات الصوت، أو السماعات عالية الجودة في أي منظومة لسماع الموسيقى على سبيل المثال: عندما تكون السماعات جيدة حقًا، لا يتم فقد أي شيء من إشارة الصوت، يؤدي انخفاضه فقط إلى جعل أجزاء منه غير مسموعة لآذاننا. وبالمثل ، كلما زادت درجة التزمزم tzimtzum كلما قل وعي الكائنات الناتجة عن هذه العملية بالطاقة الإلهية التي أنتجتها وتحافظ عليها في الوجود. بمعنى أن إختزال وتخفيض قوة النور الإلهي حتى لا يحترق العالم، هو سبب عدم إدراكنا مباشرة لوجود هذه الطاقة. إن هذه الفكرة الجريئة والجهنمية، تفترض وجود المطلق وتبرر عدم وعينا لهذا الوجود. ويستحضر الكباليون عدد لا حصر له من هذه tsimtsumim وهي صيغة الجمع بالعبرية، والتي تولد عوالم وكينونات لا حصر لها. وعالمنا الذي نعرفه، هو الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة، حيث أن درجة tzimtzum في هذه المرحلة شديدة، لدرجة أن الطاقة الإلهية غير محسوسة تقريبًا، وتكاد تتلاشى. يترتب على ذلك أن عالمنا يحتوي على كائنات مخلوقة تشعر أنها موجودة لمجرد وجودها وغير واعية بالسبب الذي كونها. لو زاد التقلص أوالإختزال درجة أخرى فقط، لأستحال وجود أي شيء. ذلك أن الوجود يتطلب بعض الارتباط بالمصدر الأولي لكل شيء، أي بالخالق، تحتاج لهذا الخيط العنكبوتي المتين، والذي يكاد لا يرى بالعين المجردة ليربط الكينونة بالمكون.
هناك نوع آخر من التزيمزوم، وصفه الحاخام إسحاق لوريا وسماه التزيمزوم الأصلي، وهو يختلف عن جميع tzimtzumim الأخرى. ذلك أن نظرية الخلق قبل Louria وفقًا للقبالة ما قبل اللوريانية ووفقا لتعاليم الزوهار Zohar، تفيد بإن ظهور العالم الإلهي والأرضي ينبع من إنبثاق فكرة أولية idée primordiale داخل الألوهية الأبدية، أي إرادة خلق شيء ما، شيء آخر غير نفسه. لتبرير ظهور الواقع، يسأل لوريا أولاً سؤالًا منطقيًا : كيف يمكن للإله أن يتخيل خلق شيء ما مغاير لنفسه عندما لم يكن هناك أي شيء، لا مكان ولا زمان، إلا نفسه؟ قبل أن يتم تصور مثل هذا السيناريو، يجب بالضرورة أن تكون الألوهية قد خلقت فضاء أو مساحة تحتوي على شيء آخر غير الجوهر الخالص للألوهية. وهذا هو ما يسميه tzimtzum أي عملية إنشاء مساحة فارغة بواسطة تقلص الألوهية وإنسحابها داخل نفسها. في المدراش Midrach، استخدمت هذه الكلمة فيما يتعلق بانكماش الله داخل قدس الأقداس في هيكل القدس. يستخدمه لوريا بشكل مختلف تمامًا : فهو يرى أن التزمزوم هو انكماش ذاتي يتسبب في نداء للهواء ويسمح بإنشاء فراغ. إلى حد ما، يمكن إعتبار عملية التسيمتزوم كشكل من أشكال النفى والإغتراب، كما لو أن الحدث الأول في تاريخ الخلق لم يكن سوى غربة الله ذاته ونفيه إلى ذاته. إبتداء من هذا الحدث، يمكن لعملية التكوين والخلق أن تستمر على صورة الانبثاق أو الفيض من المطلق أو اللامتناهي.

يتبع

#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات