|
المجتمع بين العقل والغريزة
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 1652 - 2006 / 8 / 24 - 09:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تظهر المجتمعات البشرية في صورتها الاولى محكومة من خلال قوانين الطبيعة وما تضفيه هذه الاخيرة من نظام اجتماعي يستوجب القبول والطاعة وممارسة الفعل الاخلاقي عن طريق آلية الغريزة غير المشبعة بمتتاليات مستمرة من الفهم والاستيعاب ومن ثم تحقيق التجاوز او المقاومة على نطاق الافراد كمعطى اولي ، فالمجتمعات البدائية لا يوجد لديها القوانين إلا وهي مرتبطة بقدرة الافراد ومدى إحاطتهم لسلوكيات الكل الاجتماعي عن طريق التمثل الاعمى ، وذلك الاخير من شأنه ان يحافظ على بقاء اللحمة الاجتماعية متكاتفة ومترابطة دخل المجتمع ، بحيث يمكننا تشبيه ذلك المجتمع بخلايا النحل او بقرى النمل التي يشكل نسيجها الاجتماعي من خلال ذلك الارتباط الغريزي التعاوني الى حد بعيد ، وهكذا يغدو المجتمع ضمن تشكله الاولي محاط بنظام التلقي الغريزي لاشكال الحياة والطبيعة والمجتمع ، ولكن لنتسائل هنا هل تغيرت المجتمعات البشرية بعد ان تجاوزت المراحل الاولى بعد انتقالها الى الازمنة الزراعية المدينية من حيث القدرة على الاستقرار والتطور والتجاوز ، اي هل تجاوزت الغريزة كمحرك نهائي لكثير من الافراد داخل المجتمع ، وهنا نقول ان المجتمعات التي تجاوزت المراحل الاولى وحتى الحديثة منها ماتزال تحكمها الطبيعة وتحيط نظامها رغم تغير هذه الاخيرة من شكل الى آخر ، فالعقل استطاع ان ينبثق ويؤسس الانظمة والقوانين الجديدة لدى الكثير من المجتمعات ، ولكن كل ذلك اي العقل يجري في بداية امره مستوعبا ومحصورا لعناصر كثيرة من التطورات والتغيرات التي تجري على الارض الاجتماعية ومن ثم هنالك التقبل الذي يجري ترسيخه بفعل انتصار الغريزة اي ان اثر الافكار يبدو في البداية مفهوما ومستوعبا ولكنه فيما بعد يتحول الى اطار او شكل غرائزي مقبول من قبل الجميع كقانون يضمن بقاء الالتحام الشعبي داخل المجتمع . ان المجتمع في نظر برجسون ماهو إلا " دائرة مركزها الفرد وبين المركز والمحيط قد وجدت دوائر مركزية آخذة في الاتساع ، تمثل الطوائف المختلفة التي ينتسب اليها الفرد ، وكلما اقتربنا من المحيط الى المركز ضاقت الدائرة "( هنري برجسون / منبعا الاخلاق والدين / الهيئة المصرية للاعمال والنشر / 1971 ص 24) ، وهذه الرؤية تبدو صحيحة من حيث إعتبار الفرد محاط بدوائر مركزية متعددة مرتبطة بالطوائف والاختلافات الاثنية والفكرية داخل المجتمع ، ولكن مادام الفرد يقف مركزا لدائرة متسعة وذات دوائر متسعة بشكل مستمر ، هل يسعه ان يحيط الاشياء جميعا بالتفكير والتأثير وممارسة الفعل التغييري على من حوله ، ومن ثم يحرر ذاته من قدرة الاستلاب الذي تضفيه قوى اللاعقل المرتبطة بنظام المجتمع او القانون الذي يحكم في كثير من الاحيان ؟ وهنا نقول ايضا ان الفرد يدرك ذاته بأن هنالك واجبات وقوانين لايمكن الفكاك منها يحاول دائما المقاومة والتصدي لآثارها التي تحاول زعزعة حريته الفردية وعدم جعله مصدرا للالغاء والتماهي مع قدرة الانساق المحيطة به ، اي قدرة المحيطات والدوائر المتسعة التي تشي بالاحاطة الدائمة لقدرته ودوره في الخلق والابتكار ان المجتمعات قد تصاب في كثير من الاحيان بظاهرة السرنمة ( السير نوما ) من قبل الايديولوجيا التي تبثها الانساق النهائية السائدة ، وخصوصا لدى تلك المجتمعات التي لا يوجد لديها مخزونا احتياطيا من التطور بجميع اشكاله وبمختلف المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية ، ومجتمعاتنا لا تخرج من ذلك الاطار الذي يضفي نموذجا واحدا في الوعي والمعرفة والحقيقة والادراك .. الخ ، بحيث تكون الواجبات والقوانين ذاتها محملة من خلال الكثير من الشروط السلطوية التي تتجاوز ذهنية الافراد الواقعين تحت سيطرتها ، ولنأخذ مثالنا هنا من خلال جماعة بشرية تعيش ثقافة واحدة نهائية في الطاعة والتقبل متمثلة بالجماعة المنخرطة ضمن الثكنة العسكرية ، كيف يجري ذلك او كيف تتجلى الطاعة وفي الازمات والحروب على وجه الخصوص ، وهنا نقول ان الواجبات والقوانين تتم في البداية من خلال نسق سلطوي مرتبط بالدولة من خلال مجردات كثيرة تتعلق بالوطن والامة والمجتمع والاعداء وو.. الخ او من خلال ظواهر تتعلق بالاكراه الجسدي العنفي ، كل ذلك من شأنه ان يجعل هذه الجماعة تعيش ظاهرة السرنمة بشكل نهائي ناهيك عن الجماعات المنخرطة في توجهات واحزاب شمولية يتداركها ذات النسق وذات النظام ان العقل البشري استطاع منذ عصر النهضة ان يحدث تجاوزا كبيرا في مستويات التقبل والخضوع ، حيث تحولت العلاقة من طبيعة تسيطر على الانسان من حيث قدرة الطبيعة واثرها على الانسان ماديا ومعنويا اي ان الافكار التي لا تشي بالمظهر الانساني اي لاتوجد مصادر حقيقية تؤكد دور المعرفة البشرية وتأثيرها على ما يعيشه الانسان من طبيعة وانظمة فكر .. الخ تحولت الى عقل – انسان يحاول ان يسيطر على الطبيعة ويخضعها لارادته ، هكذا كانت مقررات عصر النهضة المرتبطة بالعقل والتقدم المرافق للتطورات الصناعية والعلمية المنجزة حينئذ ، كل ذلك ادى الى تنوع اشكال الطبيعة وتغيرها بعد ان كانت تشي بالثبات المطلق بالشكل النسبي اي بطء التطور او عدم ظهور التغييروالحركة كمفهوم راسخ لدى البشرية ، ولكن ذلك العقل الذي ابتدعه عصر النهضه تم تأليه فيما بعد لتنصر الغريزة بدورها من خلال عملية التألية ذاتها ، من خلال الاحاطة الدائمة للمجتمع بشروط المجتمع التقدمي العلمي المنجز للخير البشري بكافة اشكاله ، وذلك ماثل امام انظارنا من خلال انتصار الانساق السلطوية الشمولية التي اضفت وعي نهائي على مجتمعاتها بحيث تحولت المعرفة ذاتها الى ديكورات واشكال قالبية مدعاة للزيف والخداع البشريين ، وذلك الامر ما تزال تمارسه الدولة الحديثة ايضا من خلال توجهاتها إزاء الرأي العام من خلال إفراغ الجانب الروحي والانساني لدى الاكثرية المجتمعية ومن ثم سيادة ثقافة التخصص المعرفي والعلمي التي من شأنها ان تغيب المعرفة والثقافة بمعناها الانساني . ان عملية تجاوز الغريزة او التقبل الاعمى لدى الاكثرية الاجتماعية لايتم إلا من خلال ظهور العقل داخل المجتمع ، وذلك الاخير لا تشوبه " المركزة " اي النهائية والجمود المعرفي ليصل الامر الى التقديس والتماهي ، رغم صعوبة ما نطرحه في أزمنة مفرغ منها ذلك العقل بواسطة متتاليات كثيرة من الانساق السلطوية التي تمارس حضورها داخل اكثر المجتمعات ، وذلك العقل يظهر من خلال تعددية اشكال الحقيقة المتسامحة والمؤسسة داخل المجتمع والدولة على المعرفة الشكية المتواصلة والتي تشي بإعتبارات الرفض والسؤال الى حد كبير .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتابة السلطة – سلطة الكتابة
-
تاريخية العنف في المجتمعات العربية الاسلامية
-
سلطة الايديولوجيا
-
المصالحة الوطنية بين الوهم والحقيقة
-
نحو رسم خارطة جديدة للمواجهة مع القوى الكبرى
-
العلمانية المنفتحة - خيارا بشريا جديدا لدى المجتمعات العربية
...
-
جاهزية الخطاب الفضائي محاولة لبناء مجتمع عراقي تواصلي
-
الحداثة المسلّحة بأشكالها الثلاث
-
العنف المنزلي .. سلطة ذكورية أم خضوع نسائي
-
صورة أميركا في العراق
-
الرأي العام وآيديولوجيا الدولة
-
في التربية والعولمة - نحو تربية حداثية جديدة
-
الحداثة والتراث في مقاربة جديدة
-
أسس الانتماء الى الثقافة والمثقف
-
الحريات السياسية ضمن جدلية البناء والتغيير
-
الارهاب والطائفية في العراق - نحو إعادة تشكيل الواقع السياسي
...
-
المعرفة وأدوات البناء في المؤسسة التربوية العراقية
-
أخلاقيات السجن - أخلاقيات العذاب
-
الاعلام العربي .. الى اين
-
مشروع الدولة في العراق بين الطائفة والعرق
المزيد.....
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. ترامب يفرض رسومًا جمركية على المكسي
...
-
وسائل إعلام: ترودو يعقد اجتماعا طارئا بشأن رسوم ترامب
-
ترامب يوقع أمراً بفرض رسوم جمركية على السلع المستوردة من كند
...
-
فنزويلا تفرج عن 6 مواطنين أمريكيين بعد لقاء مبعوث ترامب بالر
...
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة لعقد اجتماع هام مع ترامب
...
-
مسؤول مصري: لا أحد يستطيع الاقتراب من الحدود.. حدودنا مؤمنة
...
-
إيلون ماسك يحصل على الحق في الوصول إلى نظام الدفع الفيدرالي
...
-
الحدث البركاني الأقوى في النظام الشمسي!
-
محاذير تناول المكسرات
-
أنباء عن تأجيل مفاوضات صفقة التبادل إلى ما بعد اجتماع نتنياه
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|