|
عن متلازمة ستوكهولم
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 7043 - 2021 / 10 / 10 - 21:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يهيأ لي أن هناك التباس في فهم واستعمال مصطلح متلازمة ستوكهولم.
المصطلح والمفهوم ولدا، كما هو معروف، نتيجة وبناء على وقائع حادثة سطو مسلح على أحد البنوك في العاصمة السويدية " ستوكهولم" عام 1973 واختطاف أربعة موظفين فيه كرهائن.
بعد سنوات على الحادثة سوف يوجه نقد للمفهوم وسيقال أن تأويل الحادثة كان مبالغا فيه، وأنه كان من صنع الإعلام والسياسة أكثر منه تشخيصا علميا. وبغض النظر عما ذهب إليه التأويل والنتائج العلمية التي وصل إليها، فان للحادث حيثيات يبدو لي أنها هي التي حددت طبيعة الواقعة ومسارها، كان أولها وأهمها شخصية الخاطف، "يان أولسون".
حين تبلغت الشرطة بحادث السطو والاختطاف بحثت عن هوية وخلفية الخاطف، ولأنه حدد شخصيته بطلبه اطلاق سراح صديقه المسجون، الذي التحق به لاحقا بعد أن جاءت به الشرطة من السجن، توصلت الشرطة، بناء على سوابق "يان" الجنائية، إلى قناعة أن المخطوفين سيكونون في أمان وأن حياتهم لن تتعرض للخطر. وهذا الاستنتاج قدمه الخبير النفسي المرافق للشرطة والذي نحت المصطلح لاحقا. ففي سجل "يان" الجنائي توجد حادثة ملفتة، هي إن "يان" كان قد سطا ذات ليلة على فيلا يسكنها عجوزان، واثناء عملية السطو وقع العجوز صاحب الفيلا بأزمة قلبية، فتوقف "يان" عن اكمال "إجراءات" السرقة، وانشغل بالعجوز، أعطاه الدواء وقام بإسعافات أولية للرجل ساعدته على النجاة من أزمته واستعادة هدوئه، وبعد أن اطمأن "يان" إلى حالة "مضيّفه" الصحية واستقرارها، أكمل سرقته وخرج.
ومن هذه الملاحظة بنت الشرطة استنتاجها أن "يان" سوف لن يؤذي رهائنه، وهذا ما وقع فعلا.
لقد كان الموظفون المختطفون يتعاونون معه لأنهم لمسوا طيبته وحسن أخلاقه في التعامل معهم. مثلا، تطوع أحد الموظفين، وبالاتفاق مع "يان" الذي نام من فرط التعب، بربط يديه ووقف في مكان ظاهر أمام الشرطة، وكان يحذر الشرطة من الاقتراب حين كانوا يتبادلون معه الإشارة.
في اعتقادي ان حالة التعاون والتآلف بين الخاطف والمخطوفين سببها نوع من الحميمية قد نشأ بينهم خلال عملية الاختطاف التي استمرت ستة أيام. وأعزوا ذلك الى شعور خفي بالحميمية غالبا ما يولد بتلقائية بين الناس عند تواجدهم في مكان مشترك محدد المساحة والاتجاه.
مثلا عند السفر في القطارات يُلاحظ أن الأُلفة بين الجالسين في المقصورة تولد وتنمو مع الوقت. فعادة يشعر المسافر في البداية، حين يدخل المقصورة، بنوع من التوتر والتهيب من المسافرين الآخرين، لكن مع مضي الوقت، وبعد أن تلعب لغة العيون والجسد دورهما في إشاعة جو من الاستئناس بين الحاضرين، يعود عندها الاسترخاء للجالسين، ويتبدد شعور التوتر والتهيب عندهم ويتلاشيان. وكلما طالت الرحلة ازدادت الأُلفة. وكم من المرات (شهدتها وعشتها شخصيا) التي نشأت فيها صداقات وعلاقات خاصة من هكذا رحلات. بينما لا يمكن أن يحدث الأمر ذاته في الرحلات القصيرة والمستعجلة؛ في الباصات والمترو وغيرها مثلا.
ولو كان الخاطفون في حادثة ستوكهولم قد أنهوا عملية السطو بسرعة، خلال ساعات معدودة، لما اهتم بهم موظفو البنك ولما تعاطفوا معهم، لكن لأن عملية الاختطاف استمرت أياما، فقد نشأت بينهم وبين خاطفيهم هذه الأُلفة التي صاحبتها المودة وعززتها طبيعة شخصية الخاطف "يان"، الذي أكد عند محاكمته بعد الحادث أنه كان حريصا على سلامة المخطوفين ما أثر في حكم المحكمة، المخفف نسبيا، عليه.
وقد يتساءل أحد: كيف يمكن أن يكون لمجرم صاحب سوابق هذا القدر من السلوك الحسن وغير العنيف؟
أقول: إن العنف والقسوة يتطلبان عادة تكوينا نفسيا واستعدادا داخليا خاصا، ولهذا ليس كل المجرمين، في عالم الجريمة الواسع، لديهم الاستعداد لممارسة القسوة والعنف، وكثير منهم يتعفف عن هذه الممارسات ولا يقوى عليها، بينما يلجأ اليها آخرون حتى دون أسباب تستوجبها، فهناك، كما نعرف، قتلة ساديون يمارسون القتل والعنف لذاتهما. وينسحب الأمر بقدر ما على السياسة والسياسيين، فليس كل حاكم دكتاتور لديه الاستعداد والقدرة على ممارسة القسوة والعنف في مواجهة مخالفيه، فلمثل هذه الدوافع في السياسة أسباب عديدة لها صلة، فيما عدا التكوين الأيدلوجي، والصورة الذهنية لنظام الحكم، بالسمات الفردية والاجتماعية للحاكم، وبخلفيته الحضرية والأسرية وغيرها.
ولو كان " يان" مجرما من النوع العنيف والقاسي، لما أخذت الحادثة مسارها ذاك، ولما ولد عنها المفهوم والمصطلح الذي شهرها، ولما استخدمه البعض بطريقة غير مناسبة دفعتني لكتابة هذا المقال.
لهذا أتصور أن التأويل الواسع للمصطلح الذي نتج عن الحادثة، والذي يذهب حد إيجاد نوع من الانجذاب أو التعلق العاطفي بين الضحية والجلاد، على مستويات الحكم والسياسة، هو أمر مبالغ فيه وتعميم فضفاض لا ينسجم مع طبيعة الواقعة واحتمالاتها الواقعية. ولعل كثير من المشاهدين الذي شاهدوا الفيلم السويدي الذي استلهم الحادثة وجسدها قد تعاطفوا، مثلي، مع "يان" وتضايقوا هم أيضا، مثلما تضايقت، من الشرطي الذي ضربه بأخمص بندقيته في بطنه عند اعتقاله.
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المساواة الحقة!!
-
في أصل الدمج وفصله
-
استراتيجة (ثلاثية الأبعاد)
-
خواطر عن المثلية
-
في مواجهة الوباء
-
تداعيات محلية لوباء عالمي
-
كورونا
-
ساندرز والانتخابات الأمريكية
-
الثار والانتقام ( تأملات وتساؤلات)
-
(كاتمين على انفاسنا)
-
أحصنة طروادة
-
عوامل نجاح واخفاق انتفاضة تشرين
-
نبوءة النحس في فارنا
-
أهل الخارج
-
هويات الارهاب المتعددة
-
زيت وماء
-
العنف في السياسة 22
-
العنف في السياسة 1-2
-
لمحة سريعة عن الازمة الوزارية في السويد
-
التحولات السياسية في الانتخابات السويدية
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|