|
نقد المعارضة الجذرية
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 7040 - 2021 / 10 / 7 - 13:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إذا حررنا مصطلح الجذرية أو الراديكالية السياسية من حمولته التاريخية، أي من تاريخ نشوئه وارتباطاته بالصراعات السياسية الانغلوساكسونية أو الفرنسية في القرن التاسع عشر، يمكن تحديد الجذرية السياسية، في العموم، على أنها الموقف الذي يرى حاجة إلى التغيير الجذري للواقع القائم ويرفض المساومة، وعينه على النهاية التي يرسمها منطقه وقناعاته، أي أن سعيه يتمحور باتجاه فرض النظام السياسي الذي يريد، على صورة معدة مسبقاً. ويتولد عن هذا بالضرورة الحاجة إلى وسائل تغيير لا تستبعد العنف بل ترجحه بالأحرى. مخطط المعارضة الجذرية إذن يقوم على ثلاث ضرورات متكاملة، ضرورة التغيير الجذري، ثم ضرورة الحزم وعدم المساومة، والضرورة الثالثة التي تنبع من سابقتيها هي ضرورة امتلاك وسيلة التغيير المناسبة لإحداث التغيير الجذري وتجنب الاضطرار إلى المساومة. الضرورات الثلاث، كما هو واضح، لا تنطوي على أي تحديد سياسي، فيمكن أن تكون باتجاه اليمين نحو نظام حكم إسلامي، أو باتجاه اليسار نحو نظام حكم علماني ملحوق بصفة اشتراكي أو ديموقراطي. هذا ما جعل بعض الباحثين يعتبرون أن ما يميز الجذرية ليس مبادئها بل كيفية تطبيق هذه المبادئ. في المخطط الجذري بساطة ونقاء وقوة، وهذه تشكل عناصر جاذبة للجمهور الذي يعاني من الواقع القائم، والذي يتوق في معاناته إلى أمرين متلازمين، الأول هو تحميل مسؤولية بؤس الواقع إلى جهة مجسدة لكي يجري تفريغ شحنة الرفض والمعاناة فيها، والثاني تقديم وعد بواقع جديد ممكن وفي المتناول ما أن يتم الخلاص من العقبة التي تجسد السبب المسؤول عن صنوف التخلف والبؤس والمعاناة. هذا بالضبط ما توفره المعارضة الجذرية. الواقع الجديد الذي تقترحه المعارضات الجذرية هو واقع ُمتَخيَّل ضعيف التحديد ولكنه مشحون بالأمل والتوق إلى الخلاص. وقد يكون في ضبابية هذا الواقع المقترح (إسلامي أو ديموقراطي أو اشتراكي سابقاً) ما يشد الجمهور أكثر، فالضبابية تنطوي على "حرية" تسمح للخيال المعذب في أن يرسم الصورة التي يشاء ويهوى. تحمّل المعارضة الجذرية السلطة السياسية القائمة المسؤولية الكاملة عن بؤس الواقع الحاضر، وهي بهذا تحقق غايتين، الأولى هي تحويل البؤس العام إلى طاقة سياسية تخدم في إسقاط السلطة القائمة بوصفها مصدر البؤس. والحق أن السلطة القائمة ليست سوى التكثيف السياسي لتكوين اجتماعي توضع واستقر مع الزمن ويتحمل الجميع مسؤوليته. ونعتقد أن الجمهور يحمل في نفسه "شعوراً" بهذه المسؤولية. يمكن أن نقول مثلاً إن الغضب والعنف الأهوج الذي مارسه الليبيون على القذافي حين تمكنوا منه، هو في حقيقته غضب محوَّل، غضب وانتقام من أنفسهم ومن استسلامهم المديد وتمجيدهم الذليل للسلطة، ومن البنية الثقافية التي استوعبت استبداده والتي لا تموت بموت المستبد. كأنهم كانوا بقتله إنما ينتقمون من أنفسهم عبره، مثلما كانوا ينتقمون منه. كان سيكون مصير صدام حسين مشابهاً، لولا الحضور المسيطر للسلطة الأميركية. والحقيقة أنه لا القتل "الشعبي" للقذافي، بدون محاكمة، ولا قتل صدام حسين بمحاكمة "أمريكية"، كان خطوة لصالح تحرير العلاقة بين السلطة والمجتمع. والغاية الثانية من تحميل السلطة القائمة كامل مسؤولية البؤس، هي إيهام الجمهور أن برعم الواقع الجديد "المتوهَّم" سرعان ما يتفتح ما أن نزيل العقبة، أي السلطة القائمة. في كل غاية من هاتين تختبئ خديعة. ندرك الخديعة الأولى إذا أدركنا أن بؤس الواقع ليس سوى نتيجة لتكوين اجتماعي سياسي اقتصادي ثقافي عام يتكامل في دعم البؤس والتفاوت والتمييز وتعزيزه، وليست السلطة القائمة سوى تتويج بائس لهذا التكوين الذي يحتاج إلى تفكيك عام طويل الأمد وليس إلى "ضربة حاسمة"، كما توحي تعبئة المعارضة الجذرية. والخديعة الثانية تتجلى في أن الواقع الموعود أو البديل ليس إلا وهم، ولا يمكن أن يكون، والحال هذه، سوى تنويع على البؤس القائم وقد يكون أشد مرارة. يبدو أصحاب المعارضة الجذرية، في رفضهم الكلي للواقع القائم ورفض المساومة معه، أنقياء من وسخ هذا الواقع الرديء. وإذا أضفنا إلى هذا الوسيلة الثورية "السحرية" التي سوف تنفي الواقع الراهن (الجاهلي أو الاستغلالي الرأسمالي أو المتخلف ... الخ) وتحل الواقع الجديد، واستعداد أصحاب المشروع الجذري إلى التضحية حتى الموت في سبيل مشروعهم المخلِّص، يصبح هؤلاء الجذريون أقرب إلى الأنبياء منهم إلى السياسيين. والحقيقة أن المعارضة الجذرية، إذا ما قورنت بالمعارضة الإصلاحية، أكثر بساطة وسهولة بسبب تخففها من تعقيدات الواقع وترفّعها عن الخوض في تفاصيله المتعبة. تتخفف المعارضة الجذرية من كل هذا العبء عبر الرفض الكلي، أي رمي الواقع القائم بكليته، بتفاصيله وتعقيداته، بوعد أن تحل محله واقعاً تخاله نظيفاً وعادلاً وممكناً في الواقع. غير أن هذه السهولة تلازمها صعوبة من نوع آخر، إنها صعوبة المواجهة مع السلطات القائمة التي سوف ترتد ضد هذا النوع من المعارضات بالقمع، كما ترتد ضد غيرها من المعارضات، غير أن التعبئة الجذرية والسمات النبوية لأصحاب المشروع الجذري، تجعل مواجهتهم مع السلطات "جذرية" بدورها، وتقود إلى بطش شديد من طرف السلطات القائمة، وإلى تضحيات تزيد في القيمة المعنوية لهؤلاء الأبطال وتراكم في الخسائر والضحايا، دون أن يقود هذا إلى تراكم رأسمال سياسي مكافئ. صحيح أن جذرية المعارضة الجذرية في رفضها الواقع أو "النظام"، هي انعكاس لجذرية النظام في رفضه أي معارضة. ولا يخرج عن المنطق القول إن أي مواجهة مع أنظمة شبيهة بنظام الأسد مثلا، سوف تقود بصورة تلقائية إلى مواجهة شاملة وجذرية، بمعنى أنه لا بد من كسر إرادة النظام لإحداث تغييرات مهمة. لكن ينبغي النظر إلى هذا على أنه خطوة للبدء بعملية معقدة مضمونها هو إصلاح واقع شديد الثبات والمقاومة (أو ثورة إصلاحية كما يسميها البعض بحق) وليس إحلال واقع جديد موهوم على أنه بديل جاهز وفي المتناول. الخلاصة أن المعارضات الجذرية يمكن أن تفيد في التعبئة والحشد وأن تخدم بالتالي في كسر إرادة النظام القائم، ولكنها لن تكون مجدية في تطوير العلاقة بين السلطة والمجتمع، وقد تكون ضارة من حيث أنها تزيد حدة الاستقطاب في المجتمع وتعبئ الجمهور بوهم سرعان ما يتكشف ويمهد بالتالي لتكريس تقييد المجتمع.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على ضوء الحاضر السوري الكئيب
-
بين سجنين، أبطال في أمة مفككة
-
ضرورة التمييز ومعرفة الفروق
-
درعا، قليل مما يمكن قوله
-
الحديقة في المنفى
-
أصوات سورية تعلو بالخيبة
-
أفغانستان وظاهرة التنكر الوطني
-
موت البرامج السياسية
-
انقسام جديد بين السوريين
-
لكي تكون الديموقراطية ممكنة
-
في الحاجة إلى مركزية مضادة
-
العرض التونسي للمشاهد السوري
-
-نريد وطناً-
-
هل يمكن تجاوز الانقسام السوري؟
-
بين إرهاب قادر وإرهاب قاصر
-
عن العنف وصعوبة السياسة
-
الجزائر اليوم، سوريا المستقبل
-
بين الكميون والبرميل
-
كيف صارت سوريا إلى ما هي فيه؟
-
خدعة التبسيط وبؤس الجذرية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|