أحمد جدعان الشايب
الحوار المتمدن-العدد: 7023 - 2021 / 9 / 18 - 19:09
المحور:
الادب والفن
أعظم الأخطاء، التمسك بالآراء القديمة , واتهام آراء الآخرين.
هناك من قال: الأغبياء وحدهم لا يغيّرون آراءهم .
_____________________________
ألقى أمين بحمله المجهِد على عاتق الشركة الغذائية، أحسّ أنه استعاد شيئا من كرامته ، التي أراقها على أبواب الوزارات والمؤسسات والشركات الخاصة .
بدا مرتاحا من مدير الشركة ، الذي تنمّ هيئته عن اتزان ووقار ، وأضافت لحيته متوسطة الطول ، مسحة من الهيبة والهدوء والإقناع . في حين كان أمين رجلا يمتلك شخصية إشكالية ، لا يكتفي بما ينمّ عنه الشكل الخارجي فقط ، علّمته تجارب الحياة ، وأكسبته وعياً في تحليل ما يبدو أمام عينيه ، من شكل وقول وسلوك .
لا يركن لأمر دون مناقشته وتقليبه على أوجه مختلفة ، وكثيرا ما يكتشف غير ما يبدو له في الظاهر ومع أنه أحسّ بما يبدو من المدير من بساطة وتسليم ورضى ، ظلّ في حذر حتى يختبره ليتيقن .
هو يعرف شيئا عن ماضيه ، ويعرف أصدقاءه الثلاثة ، الذين اعتزلهم منذ مدة ليست قصيرة ، بعد أن التفت إلى جمع المال عبر الشركة التي خلفها له أبوه .
كانوا يتسترون بغطاء العادات والقيم السائدة ، ويفعلون ما يرضيهم ، دون إحساس بالخطيئة تحت جنح الليل، يقولون ما لا يفعلون .
أمجد واحد منهم ، ينقل لأمين كل ما كان يدور بينهم يروي له مغامراتهم العجيبة ، ورغم فارق العمر، يرتاح لأفكاره وآرائه .
هو يعلم أن في مجتمع كهذا ، ليس كل ما يقال يفعل ، وليس كل ما يرى يقال فيه , وبودّه أن ينفّذ كل ما يقوله , ويفضح كل ما يراه .
مثل سجّان أتقن العسف ، يتقنون التعسّف في معاملة زوجاتهم وبناتهم ، يمنعونهنّ من مواجهة الحياة ، أو من أداء دورهنّ الطبيعي بإرادة حرّة ، فينقلب الحرص الزائد، والتشدد في المحافظة إلى ردات فعل لإثبات الذات خفية ، بينما كان أمين مختلفا ، يمنح زوجته الثقة، يأخذها معه حيثما ذهب إلى الأماكن العامة كالمسرح ، والحفلات ، والأمسيات الثقافية ، والبحر أحيانا ، وظل يسعى ويشجّعها حتى تسلّمت وظيفة تتفق مع الشهادة التي تحملها .
توطدت العلاقة بين أمين ومدير الشركة ، الذي صار يستشيره في كل ما يخص العمل ، والعلاقات العامة ، وثق به حتى تحولت العلاقة بينهما إلى صداقة شخصية ، فأثنى عليه ، ومدحه ، وأبدى امتنانه له بأنه موظف كفء لعمله، وأعطى لنفسه الحق بأن يتدخل في خصوصياته العائلية ، كأن ينصحه بالاهتمام بزوجته ، بلباسها وخروجها معه إلى إي مكان، فهذا من وجهة نظره لا يتفق مع شخصية أمين , ومع أخلاقه العالية ، وكان أمين يبتسم وهو يشكره على نصائحه ، ولكنه في النهاية يؤكد له أن اللباس ليس سبباً لبناء الأخلاق والوعي ، لكن الحرية والثقة هي التي تصنع الوعي والأخلاق.
دعاه مرة مع زوجته لزيارتهم في البيت ، كان يظن أن وجود زوجة أمين مع زوجته لبعض الوقت ، وفي عدة لقاءات عائلية ، تتأثر بطبيعة حياتها، ونوع لباسها، وبالتالي بسلوكها ، الذي هو راض عنه تماما وأي شيء يختلف مع هذا النمط ، يشعره بأنه طعن في الأخلاق ، أو في السياق السائد في المجتمع ، وبما أنه يحب أمين ويقدره ، كإنسان يتحلى بالوعي والأمانة والصدق واحترام العمل ، فعليه أن يسعى لإصلاح شأن بيته من حيث السلوكيات الشكلية.
في تلك الزيارة تبادلت النساء أرقام الهواتف ، وتعرفت زوجة المدير على عنوان الشقة التي يسكنها أمين .
حين كانت تقدم لهما الضيافة ، تختلس نظرة ترافقها ابتسامة إلى أمين ، الذي يشكرها بأدب عالٍ .
ابتسامة امرأة غانية ، هي لا تظهر على أحد من الرجال الغرباء ، ولكن أمين لم يعد غريبا ، هو أخ عزيز للمدير ، وهذه زوجة أخيه ، كما صارت زوجة أمين أختاً للمدير أو زوجة أخيه ، هكذا قرر أخيراً ، كان أمين حيادياً ، حتى تلك اللحظة ، بل إنه جامل مشاعر المدير الطيبة ، وسُرّ لهذه الأخوّة . اجتاحت نفسَها مشاعرُ جارفة نحو أمين ، دهشت لوسامته ، وشبابه ، وأناقته ، واتزانه ، لا يكاد ينظر إليها وهي تبتسم له ، ابتسامات ملغّمة ، ذات معان يفهمها هو تماماً .
الصراع في نفسها يشعل جمر الرغبة المكبوتة ، تحسد زوجته ، شيء ما يعتمل في داخلها ، يجعلها ترسم خططاً للإيقاع به ، لتذوقه ، وتستمتع به ، ترى ميزاتها تؤهلها لامتلاكه ولو لساعة ، وإذا لم توفَق ، فهي بشوق لرؤيته ، لمجالسته ، يأسرها جرس صوته الشهي ، تشعر بأنها الساحة التي تضفي في فضائها الألق ، تتحول إلى طغيان الشهوة بامتلاك المدهش ، لأنها أيضاً مدهشه ، غانية في سجن ، مثل نبتة رُوِيت من ماء البحر، فتغضنت وحاصرها العطش ، فأخذت تتطلع إلى مناخها وتربتها الحقيقية، ولكن بأية طريقة ، بعد افتقادها حرية الاختيار، وإثبات كيانها .
تهاجمها أسئلة حيرى : (لماذا حرمت حقي في اختيار رجل يناسبني ، أحبه ، لأنه يمنحني الحرية والثقة، ويروي غليل عواطفي وروحي ؟ ) .
سئمتْ نمط الحياة الرتيبة ، المليئة بالمواعظ الجافة . قالت لزوجها:
- منذ مدة طويلة لم يزرنا أمين وزوجته.. سأتصل بها ليأكلوا معنا كنافة هذه الليلة .
قال:
- هي ليست هنا..
- ذهبت لزيارة أختها في حمص ، أمس أخبرني أمين .
أرهجَها الخبر، فتنها ، فكرت في قضاء ساعة في بيته ، ساعة يخرج زوجها إلى الشركة ، ستمضي إلى بيته وسترمي بنفسها ورغبتها وشوقها في حضنه ، ستذوب في عنفوان تميزه .
طمأنت نفسها بأنها غانية ، يميل الرجال إليها لمجرد أن يروها ، فكيف إذا انفردوا بها ؟.
اتصلت بزوجته ، بثتها شوقاً ومحبةً ، تأكّد لها غيابها لأيام قادمة .
حل المساء ، فحلّت ضيفةً على باب أمين ، فوجئ بها حين فتح الباب ، ارتبك، لم يتوقع حضورها وفي غياب زوجته، رحب بها ، وداور ذهنه أن شيئاً ما قد حدث للمدير، جاءت تعلمه به ، لجأت إليه ، احتاجته ليعينها، قال بلهفة:
- خيراً.. هل حدث شيئ لزوجك؟.. أين هو؟.
سحرُ ابتسامتها ، جعلته يهتز إلى الوراء ، قالت :
- جئت أزوركم
- أنا وحدي في البيت
- ليكن.. جئت أزورك وحدك في البيت.
أسقط رأسه على صدره , أخذ يفكر، أرخى زفرةً باردة.
- أهلاً وسهلاً
وهي تدخل الشقة ، يحتك جسدها به ، وتنتشر روائحها في فضائه .
- أهلاً وسهلاً وتتركني واقفة هنا !؟..أنت بخيل ؟
تغلق الباب بيدها ، تجلس ، يقف قبالتها حائراً ، خائفاً ، لكنه شرح رأيه صراحة ، رفض حضورها إليه بهذه الطريقة ، بعد أن غدا أخاً لزوجها .
طرحت نفسها عليه ، راودته ، بكت ، سال حرمانها على لسانها ثائرًا ، مستعطفا، بثته إعجاباً ورغبةً وشهوة .
خلعت عنها بعض لباسها ، فأضاء جسدها برقاً في عينيه ، وسقط على أريكة مثل عامود تداعى، حضن رأسه بكفيه ، ومايَزَ بين ما رأى وبين دكنة زوجته، وبين ما تفعله هذه ، وبين وفاء زوجته له . هو يعلم أنه فارس ، يستطيع كشف زوجته لو تَغيّر شعورها نحوه . ولكنه واثق منها ، تفضّله على رجال الدنيا بأسرها ، فكيف يخونها إذا لم تخنْه مدى الحياة . ثم ما ذنب المدير الذي آخاه، ماذنبه ليخونه ؟ .
نهض بحزم ، أمرها أن تلبس ثيابها وتخرج ، وطمأنها أنه لن يبلغ المدير بما حدث ، شرط ألا تكرره أبداَ .
اسقط في يدها ، ببرود ويأس وخيبة ، ارتدت ثيابها وخرجت . صاغ خيالُها اتهاما ملفقاَ ، خذلانها رسم ردة فعل مميتة ومجرمة ، تهدم أية علاقة طيبة ، تزكي نار العداء والانتقام .
أبلغت زوجها بما نسجته من ادعاء ، قالت له :
( أبعد هذا الذئب الغادر أمين عنا وعن الشركة ، إنه خائن ، رآني في السوق قرب بيته ، فأوقفني ليكذب علي أن أخته مريضة في الشقة ، تحتاج مساعدتي ، وفي الشقة لم أجد أحداً ، فانقض علي ليفترسني ، ومزق جلبابي ، هذا هو أخوك الجديد، لكني دفعته عني وهربت مسرعة لأنجو بشرفي) .
أوغرت صدره ، طلبت منه أن يكتفي بفصله من عمله في الشركة ، لأنه لا يستحق أن يُعطف عليه، ولا يحق له أن يعيش من خيرهم ، وأوصته ألا يبلغ أحدا بما حدث لكي لا يلوَّث شرفها .
صدَّقها، مرتاحاً من موقفها في الحفاظ على سمعتها.
من لا يعرف الحقيقة فهو مغفل ، ومن يعرفها ويغيّرها وينكرها فهو مجرم .
واجهه في مكتبه , فدهش ، حاول الدفاع عن نفسه، تلعثم، لن يصدقه أحد ، فما من دليل ، أنكر, ثم سكت , قال له المدير :
- سلّم عهدتك لأحد الموظفين وانصرف .. لا يحق لأمثالك أن يدخل شركتي ولا بيتي .. أنت خائن .
مضى حائراً ، محطماً , ارتفعت درجة حرارته ، نزف جلده ماءً مالحاً ، حار كيف يبرر لزوجته ما حدث ؟ . وأين يبحث عن عمل أو وظيفة ؟ .
أمضى يوماً في شقته وحيدا ً، كانت الدقائق دهراً ثقيلاً على نفسه ، كانتظار الوهم . كيف يدافع عن سمعته لو انتشرت التهمة ؟ . يخشى الخروج بين الناس ، يحس بأعينهم تتبعه , وأصابعهم تشير إليه ، وألسنتهم تمضغه .
بعد أيام قضاها مشياً على قدميه , يهبط من شركة ليصعد إلى أخرى , تعِب , يئس , لكنه لم يستسلم .
حين التقاه أمجد , تحدثا عن العمل , سأله عن مديره وحذره من توطيد العلاقة العائلية معه ، تنبه أمين , وبفطنته , أوحى أنه يعرف ما يعرفه , فابتسم واطمأن , فأعلمه أن زوجة المدير ستأتي الليلة إليهم وأكد أنه لن يشارك في هذا اللقاء .
في بيته , وحده , تمدد على أريكة مع أفكارٍ كالجمر, وأسئلة تلهب رأسه وصدره , ( إذا أبلغتُ زوجها .. قد أحطم أسرةً .. وإذا سكتُّ فأنا مجرم.. أليس من واجبي أن أظهر الحقيقة ؟ .. ليأخذ كل واحد ما يستحق .. سأظل متهماً ومظلوماً .. لكن ما ذنبها ؟ .. مسكينة .. فقدت حريتها منذ نشأتها .. لم تتعلم شيئاً عن حقها في الحياة الحرة .. لم يهتم أحد بتدريبها على الوعي والمعرفة بحقها في الحياة .. وقد لا يكفي أن تتساوى المرأة مع الرجل .. فهي في عطش دائم للحرية .. ولكن ما ذنبي أنا لأكون ضحية أخطائها .. قطعت رزقي دون ذنب .. وحان الوقت لأدافع عن نفسي .. هذه فرصتي لإثبات براءتي.. ظهور الحقيقة إنصاف دون ضرر .. ومن يخطئ عليه أن يتحمل مسؤولية خطئه ) .
نهض دون تردّد أو تراجع ، عزم على متابعة ما يحدث الليلة ، حتى يكشف الحقيقة رغم آلامها ومراراتها .
شاهد بأمّ عينه ما سمع ، أسرع قاصدا الشركة دون تردّد ، فوجئ المدير به يقف في مواجهته ، وقبل أن يرفع يده وصوته ليطرده ، همس في أذنه ، طلب منه أن يرافقه إلى المكان الذي دخلته زوجته ، بُهت طقطقت حنجرته ، بلع لعابه ، لكنه جرجر قدميه ومضى معه . وحين تيقّن ، اشتعل في داخله ، ضغط على ثورته ، ولم يفعل شيئا يثير الانتباه ، فقط ، أخذها إلى بيته ، جمع أشياءها وحاجاتها الخاصّة ، وأرسلها إلى أهلها بلا رجعة .
أكد لها أن الحياة بينهما غدت مستحيلة ، ولها الحق بأن تصفه بما تراه مناسبا لإقناع أهلها ، وسيصلها ما تطلبه من حقوق ، كأن الدنيا حتّمت على المرء ألا تدوم سعادته في أية حال ، أو حتى أن يكون سعيدا لمدّة قصيرة ، السعادة حلم يتأبّى على الإمساك به ، كالسراب ، أو كسحابة حبلى تجتاحها الرياح فلا تمطر .
عاد أمين إلى عمله في الشركة ، بعد أن اعتذر له المدير ، وطلب منه أن يساعده في البحث عن امرأة تتحلى بأخلاق ووعي زوجته ، التي هنّأه عليها ، وذكّره بما كان يقوله له قال :
- حقّا .. الحرية والوعي اهمّ مكوّن لأخلاق المرأة والرجل .. صدّقني يا أمين .. لو كان لزوجتك أخت لتزوجتها غدا إن قبلت بي .
لم يمض وقت طويل ، حتى تزوج بمن تمنى . أحسّ أنه اقترب من سحابة السعادة ، أو سراب الحلم , وانقلبت حياته باتجاه آخر ، عاد يقول :
- لولاك لما أحسست بطعم الحياة الهني .. وروعتها .
قال أمين :
- لو استطعت أن أسعد كل الخلق .. ما توانيت .. صدقني .. لكن أي إنسان .. يستطيع أن يقطف زهرة من حديقة .. ليمنح السعادة لأحد ما .. لكنه لا يقدر أن يكون سعيدا لو قطف جميع أزهار الدنيا .. ومع ذلك نوهم أنفسنا أننا نسير باتجاه تحقيق السعادة .
#أحمد_جدعان_الشايب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟