محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)
الحوار المتمدن-العدد: 7022 - 2021 / 9 / 17 - 21:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
رَفض سبينوزا فكرة الخلق اليهودية والمسيحية، وعبّر عن أطروحته في هذا الصدد منذ مؤلفه الذي كتبه في مرحلة الشباب (الرسالة الموجزة في الله والإنسان وسعادته): "لا يمكن لجوهر أن يصدر عن جوهر آخر"(1)، و"لا يصدر شيء عن عدم"(2)، ومن المستحيل أن لا يوجد ما يوجدُ الآن، والسبب هو أن جوهرا لا يمكنه ان يصدر عن جوهر"(3)، و"يترتب عن كل ذلك أن (...) الطبيعة تتكون من صفات لا نهائية، كما أن كل صفة من الصفات تتصف بالكمال. وهذا ما ينسجم تمام الانسجام مع التعريف الذي يقدمه الناس لله"(4).
"بالرغم من أنه لا يمكن لجوهر أن يصدر عن جوهر آخر، وأنه يستحيل على جوهر غير موجود أن يوجد، نلاحظ مع ذلك أن كل جوهر يدرك باعتباره موجودا وجودا مستقلا (...) ولن تكون هناك ضرورة لوجوده إلا بسبب ما هيته الخاصة، والتي لا تصدر عن أية علة..."(5).
ويقدم سبينوزا الشرح التالي لهذه الفكرة: "إذا كان يستحيل أن يوجد أي جوهر إلا وجودا فعليا، وإذا كان وجود أي جوهر، مع ذلك، لا يصدر عن الماهية (...) فينتج عن ذلك أن هذا الجوهر لا يمكنه أن يكون شيئا له وجود مستقل، ولكن ينبغي أن يكون مثل صفة لشيء هو الوجود الواحد أو الكل (...) كل جوهر يوجد وجودا فعليا، ولا تصدر أية ماهية عن ماهية أي جوهر يدرك في ذاته، وكنتيجة لذلك، لا يمكن لأي جوهر يوجد وجودا فعليا أن يدرك كموجود في ذاته ولكن ينبغي أن ينتمي لشيء آخر"(6).
ينتج عن تحليل سبينوزا هذا أن الامتداد هو صفة لله. وهذه الفكرة تواجهها صعوبة يعتقد سبينوزا أنه سيقدم حلا لتجاوزها: "يتضح بكل بداهة من كل ما قلناه إلى حدود الآن تأكيدنا على أن الامتداد هو صفة لله، وهو ما لا يبدو بأية كيفية كانت أن بإمكانه أن يتلاءم مع موجود كامل، فبما أن الامتداد قابل للتجزؤ فإن الموجود الكامل سيكون منقسما لأجزاء، وهو ما لا ينطبق بالمرة على الله، لأن الله كائن بسيط. بالإضافة إلى ذلك، لما يُجزأ الامتداد فإنه لا يكون فاعلا وإنما منفعلا وهذا لا يمكنه أن يحدث في الله، لأن الله ليس منفعلا، ولا يمكن أن تكون له صلة بانفعال كائن آخر، بما أنه العلة الفاعلة الأولى"(7).
ويوضح سبينوزا فكرته تلك بالقول:
"1. إن الكل والجزء ليسا بكائنين واقعيين ولكنهما كائنان عقليان. وبالتالي لا يوجد في الطبيعة (أي في الامتداد الجوهري) لا كل ولا أجزاء.
"2. إن كل شيء مركب من عدة أجزاء متنوعة، وينبغي أن يوجد الكل وأجزاؤه بكيفية تمكن من إدراك كل جزء من الأجزاء في استقلال عن الأجزاء الأخرى: مثلا، بالنسبة لساعة جدارية مكونة من دواليب وأوتار، يتم إدراك كل دولاب وكل وتر على حدة.
" ولكن لما يتعلق الأمر بالامتداد، والذي هو جوهر، فلا يمكن القول إن له أجزاء ، بما أنه لا يمكنه أن يصبح أصغر ولا أكبر، كما أنه لا يمكن تصور أجزائه في استقلال عنه، والسبب هو أن طبيعته ينبغي أن تكون لا محدودة"(8).
"فالتجزؤ والانفعال هما خاصيتان للأحوال، لما نقول إن الإنسان منفعل أو منقرض، فهذا ينطبق فقط على الإنسان باعتباره تركيبا محددا وحالا من أحوال الجوهر، وليس على الجوهر ذاته"(9).
إن مبادئ بارمنيدس، والنتائج التي استخلصها منها هذا الأخير، والتي استخلصها منها أمبادوقليس والذريين من بعده، هي مبادئ ونتائج تم الحفاظ عليها أو أعيد اكتشافها كليا. لا يوجد ميلاد أو بداية بالنسبة للإنسان، كما لا يوجد فناء. فالجوهر الذي لا يشكل الإنسان إلا حالا من أحواله يظل أبديا (...).
في الحوار المدرج في كتابه (الرسالة الموجزة)، وهو الحوار الذي يتطرق للحب والفهم والعقل والاشتهاء، نجد أن العقل في هذا الحوار يعبر عن موقف سبينوزا:
"إذا أردنا وضع حد للطبيعة فينبغي أن نحدها بالعدم وهو أمر عبثي. وضد هذا العبث نقول إن الطبيعة واحدة خالدة لا نهائية شديدة القوة بذاتها تتضمن كل شيء، ونفيُها نسميه العدم"(10)، (...)
إن السببية التي تخلق الله هي سببية متعالية حسب اللاهوت المسيحي الأرثودوكسي، لأن المخلوق ليس متحدا جوهريا بالله بطبيعته. فالعالي يعني التمايز (التباين) الأنطولوجي ما بين منزلة المخلوق ومنزلة غير المخلوق. ليست الأمر مسألة مكان وإنما هو مسألة جوهر.
فالفعل الموجِد لله في العالم وفي الطبيعة هو فعل محايث حسب اللاهوت المسيحي الأرثودوكسي لأنه يؤثر في العالم والطبيعة والإنسان، لذلك فهو موجود في مَا يؤثر فيه مع تمايزه عنه، تمايزا واضحا مثل تمايز المخلوق عن غير المخلوق. (...)
يضيف العقل الذي يمثل سبينوزا في ذلك الحوار أن السبب المحايث "لا ينتج أي شيء خارج ذاته مطلقا. لذلك نقول مثلا إن العقل هو سبب وجود أفكاره...".
من وجهة نظر اللاهوت المسيحي الأرثودوكسي، لا يخلق الله الكائنات "خارج" ذاته، بالمعنى المكاني للكلمة. العالم المخلوق يوجد في الله، والله حاضر ومؤثر في العالم. ومع ذلك، هناك اختلاف أنطولوجي بين الله والعالم. ليست المشكلة مكانية ولكنها مسألة وجود.
للتعبير عن فكرته بخصوص العلاقة بين الله-العلة والعالم-النتيجة لجأ سبينوزا لتشبيه هو العلاقة ما بين العقل وأفكاره الخاصة. فبالنسبة لسبينوزا، العلاقة ما بين الله والعالم هي العلاقة الموجودة من وجهة نظر اللاهوت المسيحي الأرثودوكسي ما بين الله و"لوغوسه" (عقله). فاللوغوس متحدٌ جوهريا بالله. فهو ليس مخلوقا. إنه مُوَلّد (صادر أو فائض) أبديا وبالطبيعة وليس بفعل قرار حر. بينما يرى اللاهوت المسيحي أن العالم ليس مُولّدا من الجوهر الإلهي، ليس متحدا جوهريا بالله.
هذا هو المعنى الذي يقدمه سبينوزا لعبارة العلة المحايثة. ويتطرق لهذه الفكرة في الفصل الثالث من كتابه (الرسالة الموجزة): "لا يمكن لجوهر أن يصدر عن جوهر آخر"(11). فالله هو "علة محايثة وليس علة متعدية، لأنها تعمل بداخله وليس خارجه، كما أنه لا شيء يوجد خارجه"(12).
يشرح سبينوزا الاختلاف الموجود في نظره ما بين الخلق والتّوليد (الصدور، الفيض)، رافضا بوضوح فكرة الخلق: "يكمن الاختلاف بين الخلق والتّوليد في أن الخلق هو إيجاد شيء ما كماهية وكوجود معا، بينما التّوليد هو إيجاد شيء ما كوجود فقط، وليس السبب عدم وجود خلق في الطبيعة وإنما هناك توليد فقط. فإذا خلقَ الله شيئا مان فإنه خلق طبيعة الشيء والشيء نفسه في نفس الوقت الذي خلق فيه الشيء..."(13).
أعلن سبينوزا في الجزء الثاني من كتابه (الرسالة الموجزة) نيته في دراسة "ماهية الإنسان الذي يتكون من بعض الأحوال المتضمنة في صفات الله"(14). ويضيف: "أقول بعض الأحوال لأنني لا أعتقد بالمرة أن الإنسان جوهرٌ لكونه يتكون من ذهن وروح وجسم، بالنظر إلى ما بَرهنا على صحته في بداية هذا الكتاب:
- لا بداية لجوهر
- لا يصدر جوهر عن آخر
- لا وجود لجوهرين متساويين
كما أن الإنسان لم يوجد منذ الأبد، وأنه محدود ومساوٍ للعديد من الأشخاص، ولذلك لا يمكنه أن يكون جوهرا.
"بحيث أن كل ما له من فكر ليس إلا أحوالا لصفة الفكر التي تعرّفنا على وجودها في الله، كما أن كل ما له من هيئة وحركة وأشياء أخرى... هي أحوال للصفة الأخرى التي تعرّفنا على وجودها في الله (الامتداد)"(15).
وكتب سبينوزا في الفصل 22 من الجزء الثاني من كتابه (الرسالة الموجزة): "بما أن الطبيعة بأكملها هي جوهر واحد له بماهية لا متناهية فإن كل الأشياء موحدة بطبيعتها في شيء واحد هو الله"(16).
هل الأشياء موحدة في شيء واحد؟ أم أنها بطبيعتها وفي الأصل شيء واحد، أي عدم وجود تمايز؟ لكي تكون وحدة، ينبغي أن يكون هناك تمايز. وإذا كان ما نعتقد أنها جواهر متمايزة، أي كائنات متباينة، مجرد جوهر واحد في الحقيقة، فلن تكون هناك وحدة، لكن هناك عدم التمايز وغياب الثنائية.
كتب سبينوزا في الفصل 24 من نفس الكتاب: "إذا قلنا إن الله لا يحب البشر، فلا ينبغي أن يُفهم ذلك على أنه يهجرهم ويتركهم يتدبرون أمورهم بأنفسهم. ولكن ينبغي أن يُفهم ذلك كما يلي: بما أن الإنسان يوجد في الله كما توجد فيه جميع الأشياء، وبما أن الله هو كلية ما يوجد، فلا يمكن الحديث عن حب الله لأي شيء، بما أن كل ما هو موجود لا يشكل إلا شيئا واحدا، أي الله نفسه"(17).
ينطلق سبينوزا، في كتابه الإيتيقا L’éthique، (تمت ترجمته إلى العربية تحت عنوان: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين السعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2009) من مجموعة من التعريفات والأكسيومات. إنه لا ينطلق من التجربة الحسية والملموسة مثلما فعل أرسطو. إنه يفكر مثل بارمنيدس، أي يفكر بناء على استنباط مفاهيم انطلاقا من تصورات توضع قبليا. والاستنباطُ يستخرجُ ما كان متضمنا في التعريفات.
القضية 6: "لا يمكن لجوهرٍ أن يصدر عنه جوهر آخر"
القضية 7: "من طبيعة الجوهر وجودُه"
القضية 8: "كل جوهر هو لامتناهٍ بالضرورة"
ويطور سبينوزا في الحاشية الثانية للقضية الثامنة موقفه بخصوص الخلق: "إن من يسلم بخلق الجوهر سيسلم بناء على ذلك بأن فكرة خاطئة صارت صادقة، ولا يمكن تصور عبث أكبر من هذا. فينبغي إذن بالضرورة الاعتراف بأن وجود جوهر، ووجود ماهيته، هي حقيقة أزلية. ونستخلص من ذلك بطريقة جديدة أنه لا يمكن أن يوجد إلا جوهر واحد له طبيعة معينة"(18).
وفي نهاية حاشية القضية العاشرة أتمّ سبينوزا تحليله: "إذا تساءلتم الآن عن العلامة التي تمكن من التعرف على تنوع الجواهر، فلتطالعوا القضايا التالية لأنها توضح أنه لا وجود في الطبيعة إلا لجوهر واحد، وأنه لا متناهٍ بشكل مطلق، مما يجعل البحث عن تلك العلامة أمرا لا فائدة منه".
وهذا ما تعبر عنه القضية 14: "لا يمكن أن يوجد أو يُدرك جوهر خارج الله". وجاء في اللازمة الأولى لهذه القضية ما يلي: "ينتج عن ذلك وبوضوح أن الله واحد، أي أنه لا وجود في الطبيعة إلا لجوهر واحد، وأن هذا الجوهر لا متناهٍ". ويترتب عن ذلك (اللازمة الثانية) أن الشيء الممتد والشيء المفكر هما إما صفتان لله وإما عرضان لصفات الله.
وتتضمن القضية 16 رأي سبينوزا بخصوص اعتقاد الناس بوجود جواهر متمايزة صادرة عن الجوهر الواحد. (...). يقول سبينوزا في القضية 16: "ينبغي أن يترتب عن ضرورة الطبيعة الإلهية عدد لا محدود من الأشياء في عدد لا محدود من الأحوال...". وتطور حاشية القضية 17 هذه الفكرة كما يلي: "أعتقد أنني برهنتُ بوضوح تام (القضية 16) أنه ينتج عن قدرة الله العظمى (عن طبيعته اللانهائية) عدد لا محدود من الأشياء في عدد لا محدود من الأحوال، أي كل شيء...".
وتستأنف القضية 18 ما جاء في كتابه (الرسالة الموجزة): "الله علة محايثة وليس علة متعدية..."، ونجد تدقيقا لهذه الفكرة في اللازمة الأولى للقضية 32: "لا يُحدث الله تأثيراته عبر حرية الإرادة". وتؤكد القضية 33 على أنه "لم يكن بالإمكان أن تنتج الأشياء عن الله بطريقة أخرى وبنظام آخر غير الطريقة والنظام اللذين نتجت بهما". ونجد نفس الفكرة في حاشية القضية الثالثة (في الجزء الثاني من كتاب علم الأخلاق): "يتصرف الله وفق نفس الضرورة التي من خلالها يعقل ذاته، أي: كما أنه يترتب عن ضرورة الطبيعة الإلهية أن الله يعقل ذاته، فإنه يترتب كذلك بنفس الضرورة أن ينجز الله عددا لا محدودا من الأعمال في عدد لا محدود من الأحوال".
نستخلص أن الإنسان ليس جوهرا. وهذا ما جاء في القضية 10 (في الجزء الثاني من كتاب علم الاخلاق): "لا تقبل ماهية الإنسان أن يكون هذا الأخير جوهرا"، وبتعبير آخر، ليس الجوهر هو ما يكوّن هيئة الإنسان. وجاء في لازمة هذه القضية ما يوضح ما سبق: "ينتج عن ذلك أن ماهية الإنسان تتكون من تحولات معينة لصفات الله". وتخلص لازمة القضية 11 إلى ما يلي: "يترتب عن ذلك أن الروح البشرية هي جزء من عقل الله اللامتناهي"، (...).
تناول سبينوزا من جديد، في تمهيده للجزء الرابع من كتابه "علم الأخلاق"، أطروحته الرئيسية بالقول إن "هذا الكائن الأزلي واللانهائي الذي نسميه الله أو الطبيعة يفعل بنفس الضرورة التي بها يوجد".
إن المشكل الأساسي لفلسفة سبينوزا هو معرفة: لماذا لم يبق الواحد في ذاته؟ وكيف نفهم ظهور الكائنات المتعددة التي تعتبرُ نفسها جواهر، بينما هي مجرد أحوال للجوهر الواحد؟
إن سبينوزا "يرفض فكرة الخلق المطلق وعوضها بفكرة التّوليد الضروري للعالم من طرف الله. لكن ألا يُؤدي هذا التّوليد الضروري للعالم (الذي يُفهم على غرار استنباط الخصائص المتضمنة في تصور ما) إلى عدم فهم السبب الذي يجعل الجوهر اللانهائي يعبر عن قدرته التّوليدية عوض أن يحتفظ بها لذاته؟"(19).
من الممكن طرح سؤال آخر (بكل مشروعية بدون شك)، وهو سؤال تكميلي ومفيد: هذه الكائنات التي هي نحن، أي نحنُ الذين نعتقد مخطئين أننا جواهر متمايزة ومستقلة ذاتيا، والذين لسنا، ككائنات لها روح، إلا مجرد أجزاء للعقل الإلهي اللامحدود، كيف نفسرُ أننا نسينا، إلى هذا الحد، طبيعتنا الحقيقية، ماهيتنا الإلهية، وأننا مجبرون على أن نتعلم بصعوبة من نكون على أيدي معلم مثل أفلوطين أو سبينوزا؟ (...) ما الذي حدث حتى نَسيت الأرواح الله؟ وكيف تنسى، أجزاءٌ آتية منه وهي كلُيا له، نفسَها وتتجاهله؟..."(20).
إن ميتافيزيقا الواحد التي تتجاهل فكرة الخلق أو ترفضها تجبرنا، بفعل منطق المنظومة وبسبب التجربة، أن نعوّض عقيدة الخلق بفكرة "السقوط"، لنفسر على الأقل وهم (أو مظهر) تعدد الكائنات التي تظن أنها فردية.
إذا كان الوجود واحدا، وإذا كان الجوهر واحدا، فكيف نفهم التعددية التي تقدمها لنا التجربة؟ إما سنقول أن هذه التجربة وهمية، وإما سنقول إن التعددية تصدر عن الواحد عن ضرورة ملازمة لطبيعة الواحد، ولكن الكائنات التي تصدر عن الواحد هي أجزاء أو قطع من الجوهر الواحد، ولذلك فتفردها وهمي (...).
هل تمكنت ميتافيزيقا الواحد (مثل ميتافيزيقا سبينوزا التي تتحدث عن الله باستمرار، وتقول أن الله وحده يوجد في الواقع) من إلهام الإلحاد المعاصر وبالخصوص الإلحاد الماركسي المادي في الوقت الذي ألهمت فيه أيضا المثالية الألمانية؟
إن الأمر في غاية البساطة: لقد ألهم سبينوزا المادية الملحدة الحديثة مثلما وفّر بارمنيدس مبادئ الإلحاد المادي القديم. كان بارمنيدس أب المادية لقوله بأن الوجود المطلق هو العالم الفيزيائي، وكان أيضا أب المثالية لقوله بأن تعدد الكائنات والصيرورة والميلاد والموت ليس إلا الظاهر.
ويمكن قول نفس الشيء عن سبينوزا: بمجرد ما يقول بأن الله (الوجود المطلق والواحد والمتمتع وحده بصفة الضرورة) هو الطبيعة، وأن الطبيعة هي الوجود المطلق (بما أنه لا وجود لتمييز انطولوجي ما بين مرتبة غير المخلوق ومرتبة المخلوق) فإنه يمكن فهم موقف سبينوزا بطريقتين متناقضتين:
- يمكن أن نفهم بأن الجوهر الواحد هو الله، ويُسمى أيضا الطبيعة، وأن كل شيء مُتضمن في الله، وأنه لا وجود للخلق ولا وجود لعالم متباين ومتمايز انطولوجيا عن الله، وأن كل شيء يُنظرُ إليه ضمن الوحدة الإلهية، أي أن الله وحده هو الموجود، وان العالم لا وجود له بطريقة متمايزة ومستقلة عن الله. وأن الكائنات المتحدة ليست جواهر، وليس لها فعل خاص بها، وليست مستقلة ذاتيا، وليست الفاعلة لأفعالها، وبالتالي فالوجود الفردي والشخصي لن يكون إلا وهما. (وهذا هو التأويل المثالي لسبينوزا).
- ولكن يمكن أن نفهم أيضا أن الطبيعة (كما نعرفها من خلال التجربة) هي الوجود المطلق ولا وجود لوجود آخر غيرها. (وهذا هو التأويل الإلحادي لسبينوزا).
خلافا لما يؤكده بعض المؤولين المعاصرين غير المحايدين، فإن سبينوزا ليس ملحدا بطبيعة الحال. بل إنه نقيض الملحد كليا. لكنه لم يقبل فكرة الخلق الإبراهيمية لأنها بدت له فكرة عبثية. كان ينتمي لتراث أفلوطين وابن سينا. وعوّض فكرة الخلق اليهودية والمسيحية بفكرة التّوليد.
كتب سبينوزا في الرسالة 73 إلى أولدنبورغ (Oldenburg): "أما بخصوص الله والطبيعة فأتبنى رأيا بعيدا كل البعد عن الرأي الذي اعتاد المسيحيون الجدد الدفاع عنه. أعتقد أن الله هو العلة المحايثة وليس العلة المتعدية. فكل الأشياء توجد في الله وتعمل بداخله (...) إن الذين يعتقدون بأن كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسية" ينحو نحو إثبات أن الله والطبيعة هما شيء واحد وهما نفس الشيء مخطؤون خطأ كبيرا..."(21). (ترجمة: محمد الهلالي).
الهوامش:
1) Court Traité, trad. Ch. Appuhn, I, chap. II, 3, p. 50.
2) Ibid., I, II, 8, p. 52.
3) Court Traité, I, II, II, p. 53.
4) Ibid., I, II, 12, p. 53.
5) Ibid., I, II, 17, 3°, p. 55-56.
6) Ibid., I, II, p. 56 en note.
7) Court Traité, I, II, 18, p. 56.
8) Ibid., 1, 11, 19, p. 57.
9) Ibid., 1, II, 22, p. 59.
10) Premier Dialogue, in Court Traité, p. 61.
11) Court Traité, I, III, p. 71.
12) Court Traité, I, III, p. 71.
13) Ibid., I, II, p. 51 en note.
14) Ibid., II Préface, p. 96.
15) Ibid., p. 96-97.
16) Court Traité, II, XXII, p. 177.
17) Ibid., II, XXIV, p. 182.
18) Ethique, I, scolie II de la proposition VIII, trad. Ch. Appuhn.
19) V. DELBOS, Le Spinozisme, Paris, 1926, p. 175.
20) PLOTIN, Ennéades, V, I, I, trad. Bréhier.
21) SPINOZA, Epist. LXXIII, éd. Van Vloten et Land, Π, p, 411.
المرجع:
- Claude Tresmontant. Les problèmes de l’athéisme, éditions Seuil, 1972.
#محمد_الهلالي (هاشتاغ)
Mohamed_El_Hilali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟