|
رواية: هدى والتينة (21)
حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)
الحوار المتمدن-العدد: 7014 - 2021 / 9 / 9 - 19:38
المحور:
الادب والفن
(حكاية رجُل يشتهي الحبّ ولا ينالُه!) في حركة واحدة خاطفة، فتح النافذة المطلة على التينة وأغلقها.. الريح صقيع، والأفق مكتظ بالغيوم.. كما حاله تماما.. السماء مكتنزة بحملها القاتم الثقيل، وتتأهب أن تذرف دموعها الغزيرة بكاء عليه، ومعه.. بعد وقت قصير، ستنطلق رجاء في غير سفينتي.. سألها أمس: - "هل سيكون بمقدوري، الحديث معك بعد ذلك؟!". - "سيكون ذلك في حضوره؛ هل تعتقد أن من حق امرأة أن تحادث رجلا ما، من وراء ظهر زوجها؟!". ألجمَته.. وفي صدره لهب تتصاعد ألسنته.. خرج إلى فناء البيت، روى التينة والرمانتين والزيتونة وحقل الشتلات.. لفّه الوجوم.. أغلق نوافذ البيت والأبواب عليه.. انقطع التيار الكهربائي فتوقف الكمبيوتر عن العمل.. ومن الشارع، يتسلل إليه، ضوضاء بنات صغيرات يلعبن ببراءة يهواها عقله.. والنهار يوشك على السقوط في الظلمة.. والقلب مصدوع، والرجاء تبدّد.. تبدّد.. وفي خيبته تتراقص الشياطين: "هل ترقد كفّها هذه اللحظة، بين راحتيه؟! هل ارتوى من رحيق شفاهها؟! هل داعبت أصابعه حلمتيها؟! هل ضغطها بين ذراعيه؟! هل.. هل..؟!".. تهيأ له أن جرس الهاتف يرن.. فاق من ضياعه، لا رنين من خارجه.. الرنين جوّاه.. صلَّى من أجلها: "اللهم اجعل من أيامها ولياليها بهجة من البهجة التي لا تنقضي، ولا تبلى.. آمين.. آمين.. يا قادر يا محبّ يا كريم!!".. رمى جسده فوق سرير المرضى، وحدّق في سقف كانت "الحبيبة" تسكن فوقه.. الصمت لفَّه وتوغّل فيه حتى بلغ بدء الخليقة.. وبصمت، وفي خشوع عاد يصلِّي من أجل رجاء: "اللهم اجعل من أيامها ولياليها، بهجة من البهجة التي لا تنقضي ولا تبلى.. آمين.. آمين.. يا قادر يا محبّ يا كريم!!".. نهض، ولا يزال صامتا.. صنع كوبا من الشاي، أرتفع صوت المؤذن، بدأ الظلام يزدحم.. أمس قالت: "سأهاتفك غدا بعد لقائي مع الآخر" ..أطلّ برأسه من الباب الخارجي، لا زالت الصغيرات تلهو، لم ينتبهن إليه، دخل معتكَفه؛ أمس، قال لها: "لن أبادر إلى الاتصال بك بعد الآن".. جلس خلف مكتبه، تنهّد، تنهّدا مكتوما، وقال لنفسه: "شراع مركبها يُبحر في نهر ليس نهري؛ أنا المنذور للحسرات!!".. تعلقت عيناه بمصباح في فوقَه مضاء.. فتح الكمبيوتر، واستقرت شاشته على صورة باقة ورد جوري أحمر، تلقّاها من صديقة بعيدة.. لن ينتظر هاتف رجاء منذ الآن، قال بصمت: "حلم يقظتي الأخير أدبر!".. **** مضت الليلة الأولى التي لم يسمع فيها صوت رجاء.. مضت بصمت كئيب.. نام مبكرا، ونهض صباح اليوم التالي مبكرا أيضا.. ابتسم، وأدى شعائر صلاته العليا التي ترسمها وصاياه.. حلق لحيته، وأزال التراب الذي حملته ريح الأمس إلى بيته.. بهجة النور تشعّ في عينيه وقلبه وعقله ويديه وساقيه وما بينهما.. رجاء لم تبرح مخيلته.. لكن عهْد ما بعد رجاء بدأ.. الجارة أم البنات تحمل طفلتها مرح، فيما هي تقف أمام نافذة مكتبه الشرقية، المفتوحة للشمس الصباحية.. جمع أصابع يده اليمنى، وهو جالس وراء مكتبه، وطبع عليها قبلة سريعة أطلقها ببهجة نحو الصغيرة مرح.. قالت الأم بصوت خفيض، يخشى أن يحمله الهواء للجيران، لصغيرتها: "أرسلي له قبلة منك!!".. طبعت الطفلة ببراءة مبتهجة، قبلتين على راحتيها، ونثرتهما نحوه ولوّحت بكفّيها إليه.. قفز من فوق كرسيّه، نحو النافذة، متهلل الأسارير، مدَّ شفتيه نحو شفتيّ الطفلة، دفعت وجهها نحوه، طبع على فمها الرقيق الناعم، قبلة نبعت من أول الشوق ومن أعمق البهجة؛ قال في سرِّه: "بهجة الطفولة هي المعنى العميق للحياة وللوجود مطلقا!".. سأل أمّ فرح: "هل ذهب عنك الصداع الذي أصابك أمس؟".. حمدتْ الله، وقالت، بعينين شهوانيتين: "لا تصنع لنفسك غداء هذا اليوم، سأحضر لك أنا الغداء!".. . غابت مرح وأمّها.. عاد إلى الجلوس خلف مكتبه، تذكّر "الحبيبة" ورجاء؛ نهض وخرج إلى الفناء، تفقّد رمانتيه والتينة والزيتونة وشتلاته.. رجع إلى داخل منزله، أعدَّ شاي الصباح، صبّه في كأس كان أبو "الحبيبة" قد أتي به أمس مملوءا بالشاي.. رجاء و"الحبيبة" باتتا ذكرى.. الليلة الأخيرة، طلب صديق منه، أن ينضم إليه لتنفيذ مشروع يخدم الطفولة.. ، وافق؛ لكنه لم يقابل بحماس، دعوةَ الصديق له بالرحيل إلى مدينة غزة، قال: "أشعر هنا بالراحة النفسية!!".. موسيقى هادئة تنثر العطر على صفحة الزمان والمكان. وبهجة الحب تشتعل في قلبه وعقله: "اللهم اجعل من أيامهما وأيامي.. ومن الليالي كلها.. لهما ولي.. وللناس والخلق أجمعين.. بهجة من الحب التي لا تنقضي ولا تبلى.. آمين.. آمين.. يا قادر يا محبّ يا كريم!!".. العصافير تزغرد.. وقمم النخيل تترنح من خمر كونية تحتسيها.. وشمس صباح شتوي، تلفه بالدفء، وأوراق التينة القديمة تضمر وتذهب بها الرياح.. وعمّا قريب، تنمو أوراق جديدة، والثمار قادمة.. وفي دمه، ترقص هُدى في أحلام صحوه ومنامه.. وتتكوّر على صدرها رمانتان صغيرتان شهيتان.. يحلِّق بهما إلى سماء السماء.. مترقِّيا في الحرية السرمدية.. يطلق أجنحته، ويهتف في شبق روحي: "هُدى! أنتِ.. وحدك أنتِ.. حبيبتي نوري حريتي بهجتي سلامي ورجائي وعُرْيي من زيف ردائي!!".. رننّ جرس الهاتف، هبط من علياء أحلامه،.. الساعة التاسعة صباحا.. رجاء تتحدث.. صوتها عذاب وتنهّدات ينفطر لهما قلب لو كان من حجر.. قال بأسى محبّ عميق "طمئنيني، ماذا حدث؟!".. ردت والألم يعصرهما معا: "لا ذنب له، ثارت امرأته ثورة هائجة، وهدّدت بإشعال حريق!!".. - "لا توجد امرأة ترضى بهروب زوجها لأخرى!!". - "جاهلة!!". تنهّد، وردّد بصمت: "جاهلة.. جاهلة!!".. رفع صوته: "الحياة مع امرأة جاهلة، شقاء لا يطاق!!".. فتح أمامها صفحة من كتابه، لم يكن فتحها من قبل.. كان ينتظر فرصة مناسبة.. تحدث عن عذابه القديم المتصل، سألته عن مزيد من التفاصيل.. لاذ بصمته القديم؛ الحريق الذي هدّدت زوجة الآخر بإشعاله، ينفجر في قلبه وصوته: "أسايَ لن ينفكّ عنّي.. خيبة أمَلِك، عذاب جديد يغزوني ويحرق فؤادي، ولن يبرح نفسي!"؛ قال وصمَتَ ومسَح دموعا ذرفتها عيناه، ثم أردف: "أنا آسف.. لم أتحدث إليكِ بالأمس، التزاما بعهدي.. أنا أذنبتُ بحقِّك وكنتُ قاسيا عليك، إذْ لم أواسيك وجرحك يدمي؟!". - "ما ذنبك؟!" - "أذنبتُ أنّي لم أكنْ كما أحببْتِ أن أكون!!".. - "عرفتُ منذ البدء أنك طير تائه عن عشّه!".. - "أبحث عن عشّ آوي إليه، فيسعني؛ لوذي بما أوصيتك به، تجتازين محنتك؛ هل أُعيد إرسالها لك؟!".. - "كلا؛ إني أحتفظ بها في حقيبتي!". - "هذا وقتُها؛ قد لا يكون مُخيّبُ أمَلك، لائقا بك.. أنتِ لا تعرفيه معرفة تامة.. أسال الله أن يرزقك خيرا منه!!". قال في قلبه: "اصغي إليّ يا حُلمي ويا أملي؛ أنا ارتكبتُ في حقّ الحياة إثما مُريعا.. لم أكن أعرف الحياة حقّ المعرفة يا هُدى.. وقعتُ ضحية ما ظلَّ مختبئا في الظلمة.. حتى جاءت ساعة الكشف، فكانت الحقيقة فوق الاحتمال.. الجهل يحجب عنّا الحقائق، ويغرينا بالأوهام؛ لكنه، كما إبليس، كما يقول الدين، يخذلنا إذا وقعت الواقعة، فنحصد شوك الجهل وجهلُ الجهلِ ظلمة فوقها ظلمة.. فهل أنا الآثم وحدي يا هُدى؟!!".. تمنى على رجاء أن تكون صدرا يسعه. مازحها وحكى كلاما لم تكن تتوقع منه أن يحكي مثله.. استمر في هزله إلى أن بدّد حزنها، واستعادت بسمة قلبها، وأطلقت قهقهة ناعمة؛ فقال مغتبطا: - "هكذا أكون قد أنجزت شيئا جميلا هذه الليلة!! هل اهتزت صورتي أمامك؟!".. - "كلا؛ أنتَ صدر حنون!".. - "أرضعتني امرأة حنونة!".. - "أمّك!".. - "لستُ واثقا!".. **** - "من الأجدى لي أن أنزع من قلبي، رغبة الزواج يا حورية!!".. - "أجل؛ أنت غير مؤهل لذلك!".. **** في اليوم التالي، زار مركزا نسويا.. التقى بنساء يعانين من مشقّة الحياة مع أزواجهن.. كان من بينهنّ امرأة تعرف رجاء، فطلب منها أن تحث رجاء على قبول الزواج منه، وألمح إلى هوى يجمعه بها؛ لكنها أيتها السيدة، تحجم عن فتح بابها لي، لسبب أظنّ أنه عقبة واهنة إذا أردنا اجتيازها.. غضبتْ رجاء، وقالت بنبرة محتدّة، لم يألفها منها: - "ما بيننا كان سرّا، لا أريد إفشاءه؛ لماذا فعلت ذلك!؟ أنت تعرف موقفي من مسالة الزواج منك؟!".. - "رسالة أردت أن أؤكد لك فيها، مرة جديدة، أنني أريدك زوجة لي.. لكنك، منذ الآن، أنت أختي وصديقتي، ولن أعود للتفكير في مسألة زواجي منك، حتى لو وافقت أنتِ على ذلك!! هل لديك مشاعر عاطفية تجاه الآخر؟!". - "هل تظن أني أقبل بالزواج منه، دون أن أمتلك عاطفة نحوه؟!". تنهّدت، ثم قالت والحزن يلف صوتها: "لماذا حظي عاثر دائما؟!".. وخلال المحادثة، قالت له: "بعض الأحيان، أشكّ أنك تسعى للزواج مني، لا لذاتي، ولكن بدافع ما أمتلكه من عقار ووظيفة!!".. استفزّه كلامها، ورد بعصبية مكتومة: "كلّا؛ أنا أريد أنثى لذاتها!!".. لم يلبث التوتر الذي ساد محادثتهما هذه الليلة غير وقت يسير.. قال معاتبا: - "أنتِ غرزتِ سكينكَ في عنقي النازف من ذبح قديم!!". - "أنتَ مدان بانفلاتك من القيود ومن الحدود!".. - "المتهم الماثل في القفص، ليس هو المجرم وحده.. القاضي والمحامي والشهود.. والضحية.. والمجتمع كله، والحياة أيضا.. شركاء في الجريمة!!". **** اليوم الجمعة.. أسبوعان مرّا على العلاقة بينه وبين رجاء.. لم تنقطع فيهما الاتصالات الهاتفية بينهما سوى اليوم الذي كان من المقرر أن تلتقي فيه رجاء مع الآخر، للاتفاق على اللمسات الأخيرة، الخاصة بزواجهما (رجاء والآخر)، قبل الشروع في اتخاذ إجراءات الارتباط الرسمية بينهما.. استيقظ وفتح غرفة نومه. ثم عاد لفراشه وظلّ مستلقيا فيه، يقظا، ساعة ونصف الساعة،. حلاوة الليلة الأخيرة، استيقظت معه: انتهت قبل منتصف الليل بنصف ساعة، مكالمة بادر إليها، وبدأت الساعة العاشرة.... كانت تتحدث وهي تتدثر بفراش ثقيل، في ليلة شتوية قارسة: قالت: "أشعلتُ المدفأة الكهربائية لكي أطرد البرد".. قال: "عمّا قريب، إنشاء الله، ستنعمين بدفء طبيعي!!".. أسكتها الحياء.. تابع: "هذا حق لك؛ لماذا لم تقولي لي منذ البدء، أنه يسكن قلبك؟! لو علمتُ ذلك، لما كشفت لك عن مكنون صدري نحوك!!".. قالت: "تكاد يد الهاتف أن تسقط من يدي.. نعست.. تصبح على خير يا..".. لم يسمع كلمتها بوضوح، ولكنه حدس أنها تناديه، وللمرة الأولى، باسمه المجرد من الألقاب: "أعيدي الكلمة الأخيرة، لم أسمعها جيدا!!".. "كلا؛ بل سمعتها!!".. "أقسم أني لم أسمعها بوضوح وأني لا أعرف بالضبط ما هي!!".. ترددت.. ثم أعادتها.. ما حدسه كان حقيقة.. للمرة الأولى تخاطبه باسمه الأول مجردا من الألقاب.. قال ببهجة الطفولة البريئة: " هذا أنا للمرة الأولى أكتشف جمال اسمي.. ما أجمله من بين شفتيك!!".. خاطبها أيضا باسمها المجرد وهو يقول: "تصبحين على خير يا رجاء..!".. بهجة هذه الليلة كانت ذات مذاق لم يألفه من قبل.. اتفقا على أن يتبادلان مشاعر الأخت وأخيها: "لا أخت لي من أبي وأمي التي ربّتني، جاءتا ثم ذهبتا مبكرا. ماتتا في طفولتيهما.. غياب الأخت من حياتي يشوش على الجانب الأنثوي فيها!!".. راودتها الشكوك في صدق نيته حول اعتبارها أختا له: - "لستُ مطمئنة إلى أنك ستتخذ مني أختا ولا شيء سوى ذلك.. أنتَ متقلِّب.. مرة جعلتَ مني أمَّـا لك أنتَ الطفل الكبير.. ومرة صديقة.. ومرة زوجة.. ومرة حبيبة.. ما الدليل على أنك سنكون أخي، ولا شيء سواه؟!. - "صحيح أنني تمنيتُ أن تكوني لي كل هذا.. لكنني أقسم بأجمل أخت أنني سأبقى أخا صادقا ومخلصا لك دائما!". ثم قال ضاحكا: "هل تعرفين لماذا تُسمى المرأة ستّا؟!".. أجاب دون انتظار: "لأنها تحيط بالرجل من جهاته السِّت!!".. قالت بتنهد: "إنه لم يتصل!!". - "هل أستَقْدِمه عندي، وأتحدث معه في مسألتك؟!". - "ليتك تقوم بعمل غسيل مخ لزوجته!! ثم أنا أخشى أن تلتقي به، فتحرضّه على الابتعاد عني!!". - "سبق لي أن قمت برعاية مشروع خطبة بين حبيبة لي، كانت نارها لا تزال متقدة في صدري؛ وبين رجل رغب في الزواج منها!! كان العذاب يعتصرني، لكني أعتقد أن الحب ليس تملكا لمن نحب.. الحب هو أن نحب ما يحب أولئك الذين نحبهم!!". قرأ عليها آخر ما كتب، وقال لها إنه صلىّ من أجلها هذا اليوم أيضا، وأكد لها أنه لن يعود للتفكير في الزواج منها، حتى لو وافقت هي.. ردت بلهجة فيها تحدٍ له: - "حتى لو أنا وافقت؟!" - "كتبتُ هذا!!". - "كتبته؟! أصدِّق أنك كتبته.. لكن، هل أنت متأكد فعلا من أنك صادق مع نفسك، وستلتزم بما كتبت، وأنك لن تقبل الزواج مني، إذا أنا قبلت؟!". قال بصوت تخالطه قهقهتهما المشتركة: "والله كتبته.. والله كتبته!!".. الطفلة مرح تتسلق قضبان الحديد المثبتة على نافذته.. شقيقتاها تلعبان أسفل النافذة من الجهة الأخرى.. تقول مرح بعذوبتها الطفولية، والتي تقلب حرف الراءِ إلى حرف لام: "أريد المجيء عندك، يا دكتول، لكن بابنا الخارجي مغلق".. خطوات طفولية سريعة تتقافز فوق أرض الممر الموازي لنافذته من جهة بيت الجيران.. صوت أم البنات يزعق: "أين أنتن ذاهبات؟!".. وقف يتابع ما يجري: "صباح الخير يا أم مرح. كيف حالك، كيف حال زوجك؟".. "بخير، كيف حالك أنت؟!".. سألَته شقيقتا مرح معا: "هل شربت شايا يا دكتور؟".. وبعد دقائق، تناول من يد كبيرة البنات الصغيرات كوب شاي بأوراق النعناع الأخضر الغضّ، يفوح منه عطر الحب، وتبعث حرارته ملمسه، دفئا يفتقده؛ قال يحدث نفسه: "رجاء أختي.. الأخوَّة حب أحتاجه، إنه حب لا تقتله تقلبات الهوى.. أنا سعيد بحبي الجديد!!".. عاد للفراش، يحتسي الشاي، ويواصل القول بصمت جريح: "لم يعد في خيالي امرأة يستدعيها إلى حضن ذكورتي!!".. يد الرياح الناعمة تعزف على أوراق شجرة الليمون الكبيرة في البيت المجاور موسيقى حفيف.. وأشعة الشمس تتسلل من بين الأغصان إلى حجرة نومه.. والعصافير تزغرد أهزوجة الصباح.. واختفت البنات الصغيرات من مجاله السمعي.. قفزت من ذاكرته، صور أطفال بلا أمهات ولا آباء.. صلّى من أجلهم.. حاول تشغيل المذياع على محطة الموسيقى؛ لكن التيار الكهربائي مقطوع.. تمدّد على ظهره.. تدثّر ببطانية حمراء وأغمض عينيه.. استيقظ الحرمانُ في صدره الملتاع: "سقطت مئذنة الفتى.. شاخ.. فما جدواكِ مئذنتي، في بلد يقتل غزلانَه؟! ما جدواكِ مئذنتي.. في بلد تقتله النسوان؟!".. رقد على جانبه الأيمن.. اطلقت عيناه أجنحة ترفرف وتصعد في الأفق الأزرق البعيد.. تمرُّ سحب بيضاء متفرقة.. وتمضي في المسافات المترامية التي لا تكشفها نافذته.. نهض.. تناول إفطارا من الخبز والشاي والحمّص.. خرج إلى فناء البيت الخارجي، وهو لا يزال يرتدي ثياب النوم.. روى شتلاته وشجرة التين والرمانتين والزيتونة.. يحين بعد قليل، موعد آذان صلاة الجمعة.. نوى أن يذهب للمسجد غير القريب الذي كان قد مرّ من أمامه مع "الحبيبة الجارة"، عندما زارها، في مقر عملها، للمرة الأخيرة قبل زواجها.. كان المسجد حينئذ في طور الإنشاء.. قال في نفسه: "أختي تحب أن أصّلي.. يجب أن أفعل ما يرضيها!".. عندما بدأت إقامته في بلد الهوى، كان يتردد على المسجد الذي تمر الطريق إليه من أمام غرفة "الحبيبة الجارة".. كان يفعل ذلك، راجيا أن يصادفها.. أو مستعيدا ذكريات ساقته إلى هنا.. سألته "أخته" في مكالمة الليلة الماضية عن "الجارة الحبيبة".. قال: "أنتِ محَيْتِيها!!".. قال في نفسه، وهو يتمنى الزواج من رجاء: "الجارة "الحبيبة" خطوة نحو أختي.. تُرى، إلى أين أمضي بعدها؟!!!".. رغب في الخروج من البيت لأداء صلاة الجمعة.. وفيما هو يوشك على ذلك، دق جرس الباب الخارجي.. دخل زائر دون موعد سابق، ولا استئذان! سأل زائرَه عما إذا كان يعتزم مصاحبته إلى المسجد؟!.. دخل الزائر من باب المنزل الداخلي، وجلس القرفصاء على الأرض العارية الباردة.. وفيما كان صوت خطيب الجمعة القريب يستولي على هواء حيِّه، ويمتد ابعدَ منه، كان الزائر، يقصّ حكايات له عن النساء.. روى قصته مع إحداهن.. كانت تسعى إلى الإيقاع به في حبائلها؛ قالت له، بعينين ناعستين: - "أراك تنظر لي بإعجاب!!". - "جمالك اللافت يدفعني إلى ذلك!!". - "عيد ميلادي يحلّ قريبا، هل تقبل دعوتي للغداء معا احتفالا بهذه المناسبة؟!". في يوم عيد ميلادها، وفي موعد اتفقا عليه، جلس في أحد مطاعم غزة، ينتظر قدومها.. تخلّفتْ عن عمد، عن القدوم في الموعد المحدد.. هاتَفها.. استعجل حضورها.. كانت زميلة لها بصحبتها في لحظة اتصاله بها، وكانت تسمع استعجاله لحضور الفتاة التي ينتظرها.. وصلت للمطعم، أخرجتْ من حقيبة يدها وردة حمراء وقالت له بغنج، إنها تعرف عنه أنه بخيل.. "لذا، اشتريتُ هذه الوردة لأعطيها لك، فتقوم بدورك بتقديمها لي في مناسبة عيد ميلادي!!".. كانت تدبّر أمرا، بدافع مناكفة الغيرة التي تجيدها النساء بينهن؛ كانت تريد أن تشهد زميلتها، وقوعه في شباكها، بأم عينيها؛ حين يقدم لها الوردة، سيقدم دليل سقوطه في شركها هي، لا في شرك زميلتها، التي تنافسها عليه.. وعندما أحسّت بخطوات زميلتها وهي تصعد السلم الخشبي إلى صالة العائلات في الطابق الثاني من المطعم، الذي يجلسان فيه، من غير أن يشاركهما أحد.. تناولت الفتاة بخفة ، الوردة التي كانت لا تزال ملقاة أمامها على الجهة التي تجلس عليها من منضدة الطعام. ، وقبل لحظة من وقوف الزميلة أمامهما، وبخفاء ومهارة وسرعة خاطفة، أعطته الوردة ليقدمها لها.. فاجأه ما يجري واستثار حنقه؛ حضور الزميلة لم يكن في حسبانه، واصطبغ وجهه باحمرار الخجل؛ كان قد غازل زميلتها وأسرف لها في أيمان الولاء والوفاء!.. خطر له على الفور أن هناك لعبة مدبرة ضده.. جلست الشاهدة معهما.. شرح لها ما دار بينه وبين صاحبة الدعوة لهذا اللقاء.. غارت الأخيرة في خجلها.. "أفشلتُ خطتها!!"؛ قال الغادر بالعهد.. وقهقهت الشاهدة.. قال السامع في صدره، والزائر الثقيل يتحول لرواية قصة أخرى من قصصه النسائية: "عندما يكون هناك امرأتان ورجل واحد، تنفجر حرب أنثوية بينهما.. فإذا كانا رجلين وأنثيين.. تتجدد نار حرب لا تزال متصلة منذ البدء القديم، حين قتل قابيل هابيل.. فإذا كانا رجلين وكانت امرأة واحدة، ينفجر صراعُ ثيران وثعالب وذئاب، لا تقضي فيه أنثى نحبُها!!".. تابع الزائر، يحكي قصة ثانية له مع مرأة جارة له: "طلبت مني أن أشتري لها بعض حاجيات من السوق.. ركبتُ سيارتي بعد أن ناولتني ثمن ما ترغب فيه.. عدت إليها وأنا أحمل ما طلبَته.. كانت نساء في ضيافتها.. قدمتْ لي شكرها بصوت مسموع وبطريقة أوحت للنساء الضيفات بأنني جئت إليها بما أحمله، بمبادرة مني، وعلى سبيل الهدية مني لها.. بعد أيام، تناقلتْ الألسن في حارتنا أنني أرتبط مع هذه الجارة بعلاقة عاطفية سرّية حميمة!".. وحكى قصة ثالثة: "سرقتْ مني زميلة لي في الجامعة كراسة لي كنتُ قد دوّنت فيها بعضا من كتاباتي الشعرية.. وبعد أيام، ادّعت أمام صديقاتها وهي تعرض عليهن الكراسة أني كتبتُ هذا الشعر تغزلا فيها وتعبيرا عن حبي لها!!"..قال: "لذلك، تعلمت أن أكون حذرا في التعامل مع النساء.. ثم إن هناك نساء يحاولن نسج علاقات مع الرجال بأغراض غير شريفة؛ فللأسف، فإن العدو نجح في إيقاع بعضهن في شباكه، وهنّ يقُمن بدورهن بإيقاع رجال في الشباك السوداء نفسها!!".. اتفقا، هو وزائره، على أن كل خطيئة مغفورة إلا "جريمة خيانة الوطن!".. وبينما الزائر لا يزال مقرفِصا ويثرثر، قال المُضيف المُكره على إبداء الإنصات، في نفسه،: "لن أكذب على أختي عندما تسألني إذا ما كنت قد أدّيت صلاة الجمعة أم لا؟!".. كان ميكروفون المسجد ينقل تحية السلام معلنا انتهاء الصلاة، وفي صدره الأسيان يقول: "قلب المحبين واسع رحيم غفور.. ولكن الحب في وطني حرام!!".. **** "يوم عرفتُ "الحبيبة".. نشرتْ الصحف يا هُدى، أنك سجينة في ظلمة جهل أهلك.. خرجتُ أطرق الأبوابَ أبحثُ عنك.. وأجاهد بالحب وأدعو إلى ثورة الروح على قانون يجور ويُظلِم. ثورة تنير لنا العقول، وتفتح الأفئدة والأبواب والنوافذ، تحررنا من أغلالنا، وترفعنا إلى أعلى سماواتنا!!".. منذ مكالمة الأمس مع أخته، رأي في عينيِّ هدى، إشراقة منيرة من بهجة الحب.. خاض "الإمام الأبيض" معركة ضروس، كسب في ذروتها، حقّ احتضان هُدى، بعد انتزاعها من أسرة قتلت في ابنتها إنسانيَّتها.. لمّا مضغت أفواه الثرثارين بالسوء أن البُنيَّة دنّست الشرف المصون.. ظنّ ذكور الأسرة عُمْيُ القلوب أن الطفلة هُدى، فقدت بكارتها في عدوان غشوم اجتاح براءتها.. ثم احتجب الغشوم وراء نذالته.. وتحت استرحام شقيقة لها، أدمتها القساوة المتوحشة، تراجع الأهل عن نية القتل فعزلوا الضحية الطفلة عن الشمس والهواء معا.. لكن نار الجهل لم تنطفئ؛ توسل الذكور إلى طبيبة من مكان بعيد، أن تكشف عما إذا كانت ضحية الأوهام العفنة، قد سقطت فريسة أنياب هتكت خاتم العفة السفلي.. قالت الطبيبة بعد المعاينة: "لا يوجد للطفلة غشاء بكارة !".. أصاب الجنون شقيقها الذي خاض في النساء شرقا وغربا ومن كل صوب.. التقط ساطورا ثقيلا، وكاد أن يهوي به على الرقبة الطفلة.. صرخت الأم والشقيقات. واستجمعن القوة المتجذرة في الأرحام.. نزعن الساطور من يده.. فانطلق في الشوارع يهذي وغاب ولم يعد.. كان المشهد قد أفزع الطبيبةَ فاختفت دون أن يدري أحد كيف اختفت.. كانت على وشك أن تُكمل حديثها، لتقول: "هناك بنات يلدن من غير غشاء بكارة، أو بغشاء ذي فتحة مطاطية واسعة؛ ولا دليل يشير إلى أن الطفلة كانت هدفا لعدوانِ سهم اخترق ختم الله القديم.. أتوسل إليكم، أن ترحموا براءة هذه البريئة، وأن تنقذوا كرامتها، وكرامتكم!!".. ظلّتْ الكلمات محبوسة في صدر الطبيبة حتى استنطقها قاضٍ لملم بقايا الشجاعة المهدورة بين الثنايا المنسية في الظلمات.. فأصدر حكما منح لـ "الإمام الأبيض" حق احتضان هُدى.. يوم صدور القرار الذي حمله "الإمام الأبيض" على الفور إلى حيز التنفيذ.. وافق يوم انتقال "الإمام.." إلى جوار التينة التي زرعها أبو الجارة، قبل زمن، يعادل عُمْر هُدى بالتمام!! **** جذب "الأبيض" هُدى برفق، حضنها بحبه وحنان قلبه، وحدّق في عَينيْها وحدّقت في عينيه، ابتسما، أضاء نور الحبّ قلبَيْهما ومُحيَّيْهما، استضاء الكون بهجة بهما، قال: "رأيتك في منامي الأخير يا هُدى.. وأنا صامت اللسان، مشتعل الجنان.. وأنت تقرئين على الناس من قلبي كتاب الحب بصوت جَهْوري واثق عميق.. ثم تقدم فتى، مديد القامة شامخ النفس موفور الجمال فخطبك وألقى بين يديك صندوق ذهب وياقوت وألماس ومن كل الحليّ تكاد لا تحيط به ذراعاه المجدولتان مع عيون أطلقت في محيّاكِ شراعها.. فقلتِ في أدب وقور صريح: أنا دعوة النور لا يأسرني قيد فأنا روح الزمان رسالتي كرامة الإنسان!!".. **** أسند ظهره إلى وسادة أمّه الملقاة جوار الحائط أسفل نافذة تنفتح على وساعة الوجود.. مدّ ساقيه.. ألقت هُدى رأسها على حجره.. تخللت أنامله بين خصلات الشعر المضفور في جدائل صغيرة تُزيِّن رأسها بعدما نبتت على جلد كان محلوقا بالموسي.. قال وهو يحني ظهره ويدني شفتيه من شفتيها المثيرتين: "سواد ما فعلوا بكِ أشعل نور قلبي!!".. رفع رأسها بين كفّيه.. طبع قبلة حنان شغوف على فمها.. ازدهرت بالبهجة عيناها.. نامت وملائكة الحب الكبير تهدهدها على أجنحة الأمن والسلام... وتعلو بها أثيرا طيبا.. تمتم قلبه: "اهنئي ببهجة غادرْتِها منذ تلقفتْكِ أيادٍ عجاف، تفحصتْ المعالم، فكانت العصا الغليظة غائبة من مجيئك، لكن باب الحرية من تحت كان.. باب كرامتكْ.. حاضرا كان وكان للقديسين فخرا.. لكن جهل الجاهلين تفرْعَن، ثم ندبتْ ظلامة التاريخ حظها وتبدّدت.. فأنت الآن في جنّة السلام والهناء، فاستمتعي بُنيّةَ الروح وانعمي بالحق المبين بعدما انجلى وتلألأ بحبك، يا نبض القلب المنير في عقلي!!".. نهضت هُدى بعد ساعة، ووجها بسمة ألق رباني.. ألقى شيبه على صدرها الناهد، وطوَّق خصرها اللدن بذراعيه، تم تعلقت عيناه القديمتان بحدقتيها الوضّائتين، وقال: "رأيتُ في أحلام منامك أنكِ أتممت دراساتك حتى أرفع الدرجات.. وأن الدهر أحني ظهري، وأن الرزق ضاق، والحياةَ تعسّرت، عليّ وعليك، وأنكِ نهلت الحكمة من ينابيع الخلق، وأنكِ سعيتِ بين دوائر تزعم إعلاناتُها أنها ترعى النشء والأمهات، ما كان منهن وما سيكون.. ولمّا انتهى بك السعي الشاقّ الدؤوب إلى الوقوف بين يديّ القائم على الأمر، سألك عن ولائكِ، فقلتِ بأدب وقور: للحب وللإنسان ولائي.. فإذا بالجهل الحقود يدور بالكرسي الجاثم فوق صدور المحرومين دورة، فيدقُّ جرس خارج باب القاعة المفروشة بدماء الفقراء.. فيجذبك غليظان من ذراعيك الرقيقة وتقول لك حيّة يتلوى خصرها تحت وجه تصبغه الزيوف إن المسئول قابض المال الكثير ينتظرك في خلوة يفرغ فيها لصيد المُعْوِزات وإغرائهن ودفعهن إلي جحره السفلي، قبل أن يمهر بتوقيعه بقبول طلبات الساعيات المُجدّات الصادقات المخلصات الطاهرات الماهرات، إلى عمل يصون الكرامة ويسد رمق الجوعى من العجزة والصغار.. فكشف لك عن عفنه وفساد طويته وعلنه؛ ولكنك قلت، وبأدب وقور مترفِّع عن دناءة الساقطين: "كلّا وكلّا؛ بل أسُفُّ أنا وإمامي التراب ونصطبر على الظمأ وعلى الليل القارس والشمس الحارقة في الصحارى الجدباء من عشب وظلٍّ وماء، ونجوع ولا نهون!!".. ثم غشاهما برد الليل فاندسّ في الفراش البائس واندسّت في حضنه، وقبّلته، وزرعت في قلبه رأسها وقالت: "هبْ لي من لدُنك علما يُضيئ بالزيت النقيّ مصباحي؟!".. لفّها بذراعيه ولفّته بذراعيها، وصمَتَ برهة ثم قال: "روى حكيم البراءة أن عملاء الشيطان نصبوا في الظلمة الحقود شركا لقلب طفل ذي عمر مديد.. عصبوا عينيه وربطوا خلف ظهره، بأغلال الحديد يديه، وقيدوا رجليه وألصقوا وجهه بحائط أسْوَد ملطخ بالكراهية، وحوله حرّاس شداد يراقبون أنفاسه الهادئة وهم يتنفسون الجهالة ويزفرون الشرور.. ابتسم قلبه وابتسمت عيناه وابتسم كله وابتهج بغير سبب، فاستنار بالحب عقلُه.. وما ارتعد ولا لانت قناته، ولا كدَّرت الإساءات السفيهة، صفحتَه الداخلية أو الخارجية ولا عكّرت مزاجه.. وظلّ مرفوع الرأس قوي النفس محبّا صابرا مبتهجا.. فجزاه الله، فزاد حبّا منه له، يفيض عن حب الحرّ منه له، فكرّم الله المؤمنَ الحرَّ إذْ تكالبت جيوش اللؤم والطمع حوله، فانزاحت الغمة.. انتصرت مشيئةَ الحب وشفَته من مرض عضال كان يصيبه، لم يعرف الأطباء له سببا ولا دواءا.. وكان مرضا يهدد بخطر جسيم.. فيا نور القلب إن بهجة الحب جوهرة الحكمة سيدة الدواء.. وإن الحكمة الشعبية تقول إن من يحفر لأخيه حفرة يقع فيها.. وإن الأيام مضت مسافة قصيرة، فنزل البلاء في ساحة الفساد واندحر الشيطان وارتفعت رايات الحب وكرامة الإنسان.. انتصر الحبّ وإن الحبّ لا محالة هو، الأعلى الخالد المنتصر!!".. **** طبع قبلتين على وجنتيها.. زرعت رأسها في قلبه.. وشدّدت ذراعاه حناناهما على جسدها الطري الشهي لروح شيخ يحلم أن تكون هُدى باكورة مجد الإنسان.. نهض.. هاتفته امرأة، فنازعته نفسه وقال يخاطب هُدى الخيال: "مشغولة هي بالتدبير لإيقاعي في الشرْك ومشغول أنا بالتدبير للفرار.. فهل يا هُدى أنا هارب مجنون أم تائه قديم؟!".. ضغطتْ أصابعه على أرقام أخته على هاتفه فردّ صوت غير صوتها وقال إنها تُصّلي.. قام فأعد شرابا من الحلبة والينسون، ثم ارتدى معطفه الطويل الثقيل وطاقية الصوف وجلس ينتظر هاتف رجاء.. طلبها مرة ثانية، قال لها: "أحببتُ أن أطمئن على أختي!!".. قالت بلهجة تشي بشكّها في نيته: "هل هذا قصدك؟!".. أقسم لها "بأجمل أخت" أنه يريد الاطمئنان عليها ولا قصد له غير ذلك.. ردّت: "هل تريد الاطمئنان عليَّ أم تريد معرفة ما استجد من تطورات؟!".. "أطمئن عليك، وعلى ما هناك من تطورات إذا وقعت تطورات جديدة!!".. قالت: "غدا، سيعقد قراني!".. قال بنبرة واضحة: "مبروك لك.. ألف مبروك".. سألت: "تقولها من قلبك؟!".. "ما دام هذا هو اختيارك، فإني أهنئك به ومن أعماق قلبي".. تنهّدت، وقالت: "سأتصل بك في وقت لاحق، البيت عندي مزدحم بالناس!!".. ابتسم وعاد يحتسي شرابه الساخن، في ليل يتمادى في الظلام الموحش القارس.. خرج ووقف تحت الشرفة، حضنت ذراعاه جذعَ التينة.. صلّى من أجل رجاء: "اللهم اجعل الآتي من حياتها بهجة حب من نورك.. آمين.. آمين.. يا قادر يا مُحبّ يا كريم!!".. رمى رأسه على الجذع الذي ظلّ نبت منذ ثلاثة عشر عاما.. طبع قبلة عليه، تذوّق لها طعما كطعم القبلتين اللتين طبعهما ذات مرّة، على خديِّ "الحبيبة".. رفع عينيه إلى أعلى: الشرفة مظلمة، وغارقة في الصمت، والسماء غامقة، ونجم عالٍ يتلألأ.. تلوّن شعوره بحزن عميق رقيق.. عاد يُصلّي من أجل اخته: "اللهم بارك زواجها.. وهناءً فليكن.. هناءً لها ولشريكها!!".. رسم البهجة في عقله؛ فشعَّ النور في قلبه: "أحببتها؛ اللهم فاجعل أيامها ولياليها، وأيامنا وليالينا، ومعنا الخلْق جميعا، حبا لا ينقضي ولا يبلى.. آمين.. آمين.. يا مُحبّ يا نعيمنا وبهجة أبداننا وارواحنا يا رحيم يا قويّ يا قادر يا حفيظ يا كريم.. أنتّ السلام ومنك السلام فهبنا الوئام والسلام وهبنا خيرا عميما وجنّة تبدأ الآن هنا وخلودا في مجدنا وكرامة وعلّوا بك إليك يا قديم بلا سابق، يا جديد بلا منتهى، يا فتّاح يا واسع يا طليقا من كل قيد يا عليم!!".. رتّلتْ هُدى، بفم يبثّ عبير الياسمين من بين شِدْقيها المليحَين، في صوت قلبها الخاشع خشوع الأحرار العارفين المتقين السالكين دروب المجد المرتقين إلى عِليّين: "آمين ربّنا يا نورنا الهاديَ.. يا مجيب دعاء المحبّين لك المحبوبين لك الحزانى المظلومين المبتهجين فيك المبتهجَ فيهم المنيرين بك المنير فيهم البررة الأكرمين القائمين الحارثين الزارعين الساقين الحاصدين الراضين الشاكرين الأغنياء بك المعطاءين الأسخياء المصلّين في المحاريب الرُكَّع السُجّد فوقا وتحتا.. الموصولين بك المجتهدين الواصلين الفائزين.. آمين!".. ****
#حسن_ميّ_النوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية: هدى والتينة (20)
-
رواية: هدى والتينة (19)
-
رواية: هدى والتينة (18)
-
رواية: هدى والتينة (17)
-
هدى والتينة (16)
-
رواية: هدى والتينة (15)
-
رواية: هدى والتينة (14)
-
رواية: هدى والتينة (13)
-
رواية: هدى والتينة (12)
-
رواية: هدى والتينة (11)
-
رواية: هدى والتينة (10)
-
رواية: هدى والتينة (9)
-
رواية: هدى والتينة (8)
-
غَزَلِيّاتٌ نُوراحَسَنِيَّة
-
من رواية: هدى والتينة
-
رواية: هدى والتينة (7)
-
رواية: هدى والتينة (6)
-
رواية: هدى والتينة (5)
-
رواية: هدى والتينة (4)
-
رواية: هدى والتينة (3)
المزيد.....
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
-
NOOR PLAY .. المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقه 171 مترجمة HD
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
حالا استقبل تردد قناة روتانا سينما Rotana Cinema الجديد 2024
...
-
ممثل أميركي يرفض كوب -ستاربكس- على المسرح ويدعو إلى المقاطعة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|