رقية كنعان
شاعرة وكاتبة
(Ruqaia Kanaan)
الحوار المتمدن-العدد: 6992 - 2021 / 8 / 18 - 18:53
المحور:
الادب والفن
لقد كانت غلطته، غلطته وحده وحسب، أنّ القطار فاتهم. ماذا لو أنّ موظفي الفندق الحمقى رفضوا إصدار الفاتورة؟ ألم يكن ذلك –ببساطة- أنه لم يطبع في ذهن النادل وهما يتناولان الغداء أنها يجب أن تكون جاهزة في الساعة الثانية؟ أي رجل آخر كان سيجلس هناك ويرفض أن يتحرّك إلى أن يناولوه إيّاها باليد. ولكن لا! ظنّه عالي التهذيب في الطبيعة البشرية جعله ينهض ويتوقع أن واحداً من أولئك الحمقى سيحضرها إلى غرفتهما....وعندها، عندما وصلت السيّارة، عندما كانا لا يزالان (يا للسماء!) ينتظران باقي النقود، لمَ لمْ يتدبّر ترتيب نقل الصناديق ليتمكّنا على الأقل من الانطلاق وقت وصول النقود؟ هل توقّع أنها ستخرج و تقف تحت المظلّة في الحرّ وأن تؤشّر بواسطة مظلّتها الصيفية؟ صورة مذهلة جداً للحياة الانجليزية المنزلية. حتى عندما أُخبر السائق كم عليه أن يقود بسرعة لم يبد أيّ اهتمام من أي نوع- ابتسم وحسب. "أوه"، همهمت، "لو كانت سائقاً لما تمكّنت من التوقّف عن الابتسام على الطريقة السخيفة المضحكة التي كان يحرّض بها على الإسراع". ثم جلست في الخلف وقلّدت صوته وهو يقول بالفرنسية:"هيّا أسرع أسرع " واستماحت السائق عذرا على إزعاجه.
ثم المحطّة-لا تُنسى- منظر القطار الصغير الأنيق يتملّص بعيداً وأولئك الأطفال البشعون يلوّحون من النوافذ. "أوه، لم عليّ أن أتحمّل هذه الأشياء؟ لمَ أنا معرّضة لها؟". وهج الشمس، الحشرات، بينما هما ينتظران وهو و مسؤول المحطة وضعا رأسيهما معاً على جدول الرّحلات، محاولين إيجاد ذلك القطار الآخر والذي بطبيعة الحال لن يلحقاه. الناس الذين تجمّعوا، والمرأة التي حملت الطفل بذلك الرأس البشع البشع .... ، "أوه، أن تهتمّ كما أهتمّ أنا- أن تشعر كما أشعر أنا، وأن لا يتوفرّ لك شيء- لا تعلم أبداً ولو للحظة ما الذي كان أن .. أن.."
تغيّرصوتها وصار يرتعش الآن-كانت تبكي. تلمّست في حقيبتها وأخرجت منها منديلاً معطّراً، وضعت وشاحها -وكأنما كانت تفعل ذلك لشخص غيرها- بإشفاق، وكأنّما كانت تقول لشخص آخر:"أعرف، يا حبيبي"، ضغطت المنديل إلى عينيها.
الحقيبة الصغيرة بفكّيها الفضّيين المفتوحين تستلقي على حضنها. استطاع رؤية علبة البودرة، قلم أحمر الشفاه، حزمة من الرسائل، زجاجة من الحبوب السوداء الصغيرة مثل البذور، سيجارة مكسورة، مرآة، أقراص عاجيّة بيضاء مع قوائم حفرت عليها. فكّر:"في مصر كانت لتدفن مع هذه الأشياء".
غادرا آخر البيوت، تلك البيوت الصغيرة الممتدّة بغير نظام مع القليل من القدور الفخارية المكسورة المنتشرة في أحواض الأزهار والدّجاج نصف العاري الذي ينبش حول عتبات البيوت. الآن كانا يتسلّقان طريقاً طويلة ومنحدرة وملتفّة حول التلّة ثم إلى الخليج التالي. عثرت الجياد وصارت تجرّ بصعوبة. كلّ خمس دقائق، كلّ دقيقتين، كان السائق يجري السوط عليها. ظهره المشدود كان صلباً كالخشب، كان هناك بثرات على رقبته الضاربة إلى الحمرة، ويرتدى قبعة قشّ جديدة لامعة....
كانت هناك ريح صغيرة، كافية لتهبّ وتلوّث الأوراق الحديثة على أشجار الفاكهة، و تداعب العشب الطري، و لتحيل الزيتونَ دخانيّ اللون إلى اللون الفضيّ - ريح كافية لتثير أمام العربة دوامة من الغبار الذي يستقرّ على ملابسهم كالرّماد الناعم. عندما أخرجت علبة البودرة طارت البودرة فوقهما معاً.
"أوه، الغبار"، تنفست، "الغبار المقرف المقزّز"، ثم وضعت وشاحها وانثنت إلى الوراء كمن حسم الموضوع.
اقترح عليها: "لم لا تستخدمين مظلّتك الشمسيّة؟" ، كانت على المقعد الأمامي وانحنى للأمام ليناولها إيّاها، عند ذلك جلست فجأة منتصبة واتقّدت ثانية.
"من فضلك دع شمسيّتي وحدها! لا أريد شمسيّتي! وأيّ شخص ليس بليد الإحساس كان سيعلم أنّي مرهقة جدّاً جدّاً لحمل شمسيّة، وفي ريح كهذه تشدّها.. ضعها حالاً" ، قالت ذلك وبسرعة خطفت الشمسيّة منه، قذفتها داخل غطاء العربة في الخلف وخمدت لاهثة.
انحناءة أخرى للطريق، وأسفل التلّة جاءت فرقة من الأطفال الصغار تزعق وتقهقه، بنات صغار بشعر فتّحته أشعّة الشمس، أولاد صغار في قبعّات جنود باهتة، في أيديهم حملوا أزهاراً-أي نوع من الأزهار- منتزعة من الرأس كما اتّفق، عرضوها وهم يركضون بجانب العربة، ليلك، ليلك باهت، أزهار كرات الثلج ببياض مخضرّ، زنبق بذراع واحد، وقبضة من زهر الخزامى. مدّوا الأزهار ووجوههم الشيطانيّة داخل العربة، واحد منهم رمى في حضنها باقة من القطيفة. فئران صغيرة مسكينة! وضع يده في جيب بنطلونه قبلها، "لأجل السماء لا تعطهم أي شيء. أوه كم ذلك نموذجي منك! قرود صغيرة بغيضة! والآن سيتبعوننا طوال الطريق، لا تشجّعهم وإلا فإنّك ستشجّع المتسوّلين" ، ورشقت الباقة من العربة مع "حسناً، افعلها عندما لا أكون موجودة، لو سمحت".
رأى الصّدمة الغريبة على وجوه الأطفال الذين توقّفوا عن الركض، تخلّفوا في الوراء، ثم بدأوا بالصراخ بشيء ما، واستمرّوا بالصّياح إلى أن استدارت العربة في منعطف آخر.
"أوه، كم متبّقٍ قبل الوصول إلى أعلى التلّة؟ الجياد لم تهرول ولا مرّة، بالتأكيد ليس ضرورياً لها أن تمضي الطريق مشياً".
"سنكون هناك في دقيقة الآن"، قال ذلك وأخرج علبة سجائره، عندها استدارت ناحيته، شبكت يديها ووضعتهما على صدرها، عيناها الغامقتان بدتا هائلتين متوسّلتين خلف الوشاح، منخراها ارتعشا، عضّت شفتيها، ورأسها اهتزّ بشيء من التشنّج، ولكن عندما تكلّمت، كان صوتها ضعيفا وهادئاً جداً جداً.
"أريد أن أسألك شيئاً ما، أريد أن أتوسّل إليك، قالت وأضافت، "لقد طلبته مئات ومئات المرات من قبل ولكنّك نسيت، إنّه شيء صغير ولكن لو تعلم ماذا يعني لي.."، ضغطت يديها معاً، "ولكنّك لا تستطيع أن تعلم، لا يوجد كائن بشريّ يمكنه أن يعلم ثم يكون بهذه القسوة"، ثم ببطء وتصميم وهي تحدّق به بتلك العينين الكبيرتين الداكنتين:" أتوسّل وأناشدك للمرّة الأخيرة عندما نكون في عربة معاً ألا تدخّن، لو تستطيع تخيّل العذاب الذي أعاني منه عندما يسبح ذلك الدخان عبر وجهي..".
"حسن جداً"، قال، " لن أدخّن، لقد نسيت"، وأعاد العلبة.
"أوه لا"، قالت وبدأت بالضّحك تقريباً، ووضعت قفا يدها مقابل عينها. "لا يمكن أن تكون نسيت، ليس ذلك".
الريح صارت تهبّ أقوى إذ كانا على قمّة التلّة ،صرخ السائق: "هوي يب يب يب" تأرجحا إلى أسفل الطريق التي تسقط في واد صغير، تطوّق ساحل البحر في أسفلها وتلتفّ حول ارتفاع لطيف في الجانب الآخر. والآن كان هناك بيوت من جديد، الجزء الخارجي من نوافذها باللّون الأزرق لمواجهة الحرارة، مع حدائق متوهّجة لامعة، وسجاجيد زهر الغرنوقي معلّقة على الجدران الورديّة اللون. خطّ الساحل كان معتماً، على حافة البحرتحرّك تماوج أبيض حريري للتوّ. العربة تمايلت أسفل التلة، وأجزاء الصندوق تتخبط ."يي ايب" صرخ السائق. تمسّكت بجوانب المقعد وأغمضت عينيها وعرف هو أنّها تشعر بأن ذلك يحدث عن قصد: هذا التأرجح والارتطام، كان هذا كلّه –وكان هو مسؤولاً عنه بشكل ما- نكاية بها لأنّها سألت إن كان بالإمكان الإسراع قليلاً. ولكن ما أن وصلا أسفل الوادي كان هناك ترنّح واحد كبير و العربة تقريبا انقلبت، رأى عينيها تبرق نحوه وهمست بإيجابية " أفترض أنك تستمتع بذلك؟!".
استمرّا، وصلا قاع الوادي، فجأة وقفت وقالت بالفرنسيّة: "أيها الحوذي، توقّف بنا"
استدارت ونظرت في الصندوق في الخلف، "عرفت ذلك"، انفعلت، "عرفت ذلك، سمعتها تسقط وكذلك سمعتَ أنت في الارتطام الأخير"
"ماذا؟ أين؟"
"شمسيّتي، اختفت، الشمسيّة التي كانت لأمّي، الشمسيّة التي أثمّنها أكثر من – أكثر من ..."، كانت –ببساطة- مستاءة جدّاً. السائق استدار وعلى وجهه المثليّ ابتسامة عريضة.
"أنا أيضا سمعت شيئاً ما"، قال ببساطة، "ولكني ظننت بما أنّ السيد والمدام لم يقولا شيئا ..".
"إذن، هل تسمع ذلك؟ لا بدّ أنك سمعته أيضاً وهذا يفسّر الابتسامة الاستثنائية على وجهك.."
أجاب: "انظري هنا،لا يمكن أن تضيع، لو سقطت إلى الخارج فستظلّ هناك، ابقيا حيث أنتما، وأنا سأحضرها".
ولكنها أدركت ما سيقول مسبقاً، أوه، كيف عرفت!، "لا، شكراً لك"، وجّهت عينيها المبتسمتين الحانقتين نحوه بدون اعتبار للسائق. "سأذهب بنفسي، سأعود مشياً وأحضرها وأثق بك ألا تلحق بي، لأنّي" – وهي تعلم بأنّ السائق لم يفهم، تحدّثت برقّة ولطف-"إن لم أهرب منك لدقيقة فسوف أجنّ"، وخطت خارج العربة، "حقيبتي"، وناولها إياها.
"المدام تفضل ..."
ولكن السائق كان قد نزل عن مقعده وجلس على الحاجز يقرأ جريدة صغيرة، الجياد توقّفت ورؤوسها معلّقة ساكنة، مدّ الرجل نفسه في العربة إلى خارجها، ثنى ذراعيه، شعر بأنّ الشمس تضرب ركبتيه، رأسه غاص في صدره، جاء الصّوت من البحر "هش هش "، تنهّدت الريح في الوادي بهدوء، شعر بأنّه -وهو مستلق هناك- رجل أجوف جاف ذابل كما لو كان من رماد، والبحر همس "هش هش".
بعدها رأى الشجرة التي كان واعياً بوجودها عبر بوابة حديقة، كانت شجرة ضخمة بجذع دائري فضيّ سميك وقوس عظيم من الأوراق النحاسية التي تعكس الضوء وهي تبدو معتمة كئيبة. كان هناك شيء ما خلف الشجرة- بياض، نعومة، كتلة غامضة، شبه مخفية بالدعائم الأنيقة. عندما نظر إلى الشجرة سمع نفسه يموت بعيداً وأصبح جزءاً من الصمت، بدت وكأنها تنمو، تتوسّع في الحرّ المرتعش إلى أن أخفت أوراقها الخضراء المنحوتة السماء، وكانت إلى ذلك غير قابلة للحركة، ثم من أعماقها أو من بعد ذلك جاء صوت امرأة، امرأة تغني. الصوت الدافئ غير المضطرب انتشر عبر الهواء، وكان كلّه جزءاً من الصمت الذي صار هو منه، فجأة عندما ارتفع الصّوت ناعماً حالماً رقيقاً عرف بأنه سينتشر إليه من بين الأوراق المخفية وسلامه تحطّم. ما الذي كان يحدث له؟ شيء ما اضطرب في صدره، شيء مظلم، غير محتمل، بشكل كريه انحشر في حضنه وكعشب هائل طفا، اهتزّ.. كان دافئاً خانقاً. حاول أن يجاهد الدمع وفي ذات الوقت- كل شيء كان قد انتهى.
غرق عميقاً عميقاً في الصمت، محدّقاً في الشجرة ومنتظراً الصوت الذي كان يطفو و يسقط إلى أن أحسّ بنفسه مطويّاً منغمراً.
في الممرّ المهتّز للقطار، كان الليل، القطار أسرع وزأر خلال الظلام، وقف وكلتا يديه على القضيب النحاسي الجانبي، باب عربتهما فتح.
"لا تزعج نفسك سيدي. سيأتي ويجلس عندما يريد ذلك. إنّه يحبّ –إنّه يحبّ- إنّها عادته، وقالت بالفرنسيّة "نعم مدام، أنا متوعّكة قليلاً .. أعصابي"، أوه ولكن زوجي لا يكون سعيداً مثلما هو وهو يسافر، إنه يحبّ خشونة السفر.. زوجي.. زوجي.."
الأصوات اختلطت و اختلطت، لم يكونوا صامتين، ولكن سعادته السماويّة كانت عظيمة وهو واقف هناك وتمنّى أن يعيش للأبد.
ملاحظة من المترجمة: القصّة بالانجليزية ولكنها تحوي بعض العبارات بالفرنسية كون الزوجين في القصّة في رحلة عطلة وتمّ التنويه لذلك حيثما ورد
#رقية_كنعان (هاشتاغ)
Ruqaia_Kanaan#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟