|
العالم بوصفه لوحة تشكيلية..قراءة نقدية في نص بعد أن يموت الملك لصلاح عبدالصبور
محسن الميرغني
كاتب وناقد أكاديمي
(Mohsen Elmirghany)
الحوار المتمدن-العدد: 6989 - 2021 / 8 / 15 - 00:53
المحور:
الادب والفن
كتب:- محسن الميرغني
في مسرحيته الأخيرة بعد أن يموت الملك يتعامل صلاح عبدالصبور مع فكرة الفن عموما في مواجهة السلطة. بعد أن وضع في مسرحياته السابقة جل همه الشعري لإبراز صورة العالم ووجوه رؤيته الشعرية التي أنطق بها ألسنة شخصياته الدرامية، نراه يقدم لنا من خلال بناء مسرحي فني شديد العذوبة، تتداخل فيه تقنيات الملحمية البريختية، مع صورالتراث وظلال الأرسطية في بناء درامي تقليدي، مع بعض تقنيات مسرح الطليعة الفرنسي، كل هذا في شكل مسرحي شعري ، أراد من خلاله الشاعر/المؤلف أن يقدم تصورا فنيا للعالم الذي يعانيه، لأنه يحاول بكل برودته ومواته، أن يقضي على روح الفن المتجسدة في شخصية الشاعر، بما لها من دلالات، ومايطرحه الصراع بين قدرة هذا الشاعر/ الفنان على مواجهة هذا الواقع الميت/المميت في عالم القصر الملكي. ثم ما تمثله رحلة الشاعر لانتشال نفسه من حالة الضياع وفقدان الذات، لتحقيق وجوده من خلال أفعال، تبدأ برفضه لسلطة الملك الحي/ الميت، الممتدة إلى روح وكلمات الشاعر، وهو ما نراه في نهاية الصراع متمثلا في مقاومته للجلاد وانتصاره علي ومن ثم وقوعه في علاقة الحب المتنامية مع الملكة وإنجابه المفترض لطفلها المنشود، ذلك الطفل الذي تدور بسببه اللعبة التمثيلية التي تدور بين الملكة والملك في مخدعهما في المشهد قبل الأخير من الفصل الأول في المسرحية، ذلك الطفل المنشود رمزا للمستقبل القادم ، والذي ينظر كل واحد من شخصيات المسرحية إليه بوصفه تحقيقا لرغباته وتطلعاته، التي يرجو تحققها فالملك يرى فيه استمرارا لحالة الطغيان والسلطة المتحكمة في رقاب العباد بالقهر والظلم، بينما تراه الملكة مستقبلا من الرقة والحياة المفقودة في عالمها، وهو ما يحققه لها الشاعر في حال ارتباطه بها، بالتالي تتحول رحلة الشاعر والملكة على ضفاف النهر، إلي رحلة البحث عن هذا الطفل الحرية، والسعي إلى إيجاده يصبح هدفا عاما لكل أجواء المسرحية، ومن خلال انتصار الشاعر على الجلاد مبعوث الموت وخادمه(المؤرخ، الوزير،القاضي) يتحقق انتصار الكلمة على رموز المملكة أوالمؤسسات المتكلسة التي تدافع عن الموت والفساد من اجل استمرار مصالحهم، في حين يقف الشاعر بجوار الملكة في صف الدفاع عن الحياة والخصوبة والفن.
وهذا ما يجعل دور الشاعر يتخذ صورة المعادل الموضوعي الذي يحمل في طيات بناءه الفني، الأفكار والقيم والمثل التي يطرحها المؤلف على لسان الشخصية في نص المسرحية.
ويبرز البعد التشكيلي الذي يطرحه صلاح عبد الصبور في رسمه لتفاصيل وأبعاد الشخصيات الدرامية في هذا الفضاء الفني الممتد في زمن درامي أسطوري، لا ينتمي لعالمنا إلا بالقدر الذي تتماس فيه قيم هذا العالم وحقائقه مع حقائق دنيانا المؤسفة، من غلبة القبح والفساد والشر والتملق والسلطة الجاهلة الغاشمة المصابة بالخرف والكهولة، في مواجهتها للشاعر الذي يمثل قيم والحب والخير والقوة والقدرة على الحلم، ليتحول فضاء الصورة المسرحية إلى لوحة تشكيلية قابلة للتحول والتغير والحذف والإضافة وهو ما يطرحه المؤلف الشاعر كحل فني وتقني في نهاية الفصل الثاني، فتمثل المشاركة الفنية للجمهور في إختيار الحل الفني الذي يرضاه، وهو ما يعد طرحا ديناميكيا لرؤية الشاعر التي يبحث لها عن مناصرين ومؤيدين بين جمهوره، مما يفعل هذه الرؤيا وينقلها إلى حيز التغيير الفعلي في مستوى استجابة الجمهور، وليتحول الجمال الفني في المسرح إلى شعر خالص يكتبه الناس، وفنا تشكيليا يصوغونه، وقدرة منهم على التغيير والتفاعل الذي يرسمه العمل الفني مع وعي وقيم المتفرج، بشكل حي ومتجدد وملموس .
هكذا وصل صلاح عبد الصبور في رحلته الفنية إلى تلك الدرجة من النضج التي استطاع فيها ببراعته الشعرية والفنية، أن يطرح رؤاه الفنية لوظيفة الشاعر والفنان القادر على آداء دوره في عالمه الواقعي بمشاركة الآخرين، في انجاز فعل الاختيار لا فرضه عليهم فرضا، وهذا ما ينقل تجربة المسرحة للرؤية الفنية الدرامية والشعرية للعالم والكون، من مجرد كونها وصفا فنيا مجازيا، إلى دور ومهمة ووظيفة عملية، يقوم بها الشاعر ويتخذها قصدا إنسانيا يسعى لتحقيقه في الواقع، ليقدم تصوراته ورؤيته وطموحاته إلى الوعي العام للجمهور والناس، بما يساعدهم على تجاوز محنة الواقع المفلس من الحلول. وتتحول صياغة العمل المسرحي الشعري، إلى وسيلة وغاية في ذات الوقت يتفق فيها عنصري الفكر والمعنى اللذان تتشكل منهما بنية المسرحية . إن الصورة التي يطرحها المؤلف الشاعر على لسان شخصية الملك في رؤية واصفة للعالم والكون بالموت والثبات والضجر:
" الملك : أوف ، ما هذا الضجر الموحش كالصحراء "
الذي يتجسد في المشاهد الأولى من الفصل الأول، عندما نطالع صورة الملك الملول من العالم الفاسد والزائف الذي أسسه ويعيشه، لكي يلهو بكل ما فيه ومن فيه:
" الملك : ما أنتم إلا أعراض زائلة تبدو في صور منبهمة وأنا جوهرها الأقدس " .
ثم التركيز على عجزه عن القيام بفعل النماء الذي تتطلبه الحياة، أي القدرة على إنجاب طفل:
" الملك : ... الملك القادر لا يقدر أن يهب امرأة طفلا ".
مما يؤكد وقوعه في أزمة اختيارما بين استمرارالزيف أوالاستسلام لطائرالموت كحل أخير لهذه المعضلة:
" الملك : .. يا طير الموت الأسود ادخل في أعضائي مختطف الخطوة مسروقا ها أنذا أفتح لك صدري نقر حتى تجد طريقا .. ".
ويصبح وصف العالم المقابل المتجسد في رؤيتي الملكة والشاعر، هو الوصف الذي يتكرر أكثر من مرة، كتعبير واضح عن المستقبل المأمول والمنتظر: " الملكة : .. دع دمك الزاكي يعطي للحظة معناها الباهر في ظلمات اللامعني السوداء دعه يتقطر فوق الأرض ... التاريخ ... الشاهد ".
في مقابل صورة الواقع الغابر القاتمة التي انتهى إليها الملك مستسلما للموت، الذي يريد أن يفرض خيوط سيطرته على العالم القادم، من خلال إعادة سطوة الموت على الحياة مرة أخرى، وهذا ما يرفضه الوعي المتحقق للأميرة والشاعر معا : " الملكة:: معجزة النهر ما أجمل أن تاتيني روح الكون هنا ، تنفخ في السر أمتلئ بروح الكون كما تمتلئ الثمرة بالشهد ".
هنا تصبح الاحتمالات التي يضعها المؤلف، في سبيل تحقق رؤيته هي المعادل الموضوعي لتبدل واقع الحياة في صورته المتجددة دوما، والتي لا تبقى أو تستمر على حال: " الشاعر : حبي ... ما أصدق حلمك بالطفل وكأنك كنت ترين المستقبل هل دار بخلدك يوما ما ؟ أن يعطيك الطفل الشاعر".
بالتالي يسمح الشاعر بطرح رؤى مختلفة ، كسبيل لمواجهة هذا التغير، والتعامل معه باعتباره إحدى سنن الكون، التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها لكي يتحقق المستقبل بشكل حقيقي لا خيالي، ويتجسد الفن تعبيرا عن إمكانية الوصول لهذا الحلم مهما كانت العقبات: " الملكة : يعطيني طفلي من يعرف كيف يقاتل بالمزمار ويغني بالسيف ".
#محسن_الميرغني (هاشتاغ)
Mohsen_Elmirghany#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن المسرح والتكنولوجيا..تساؤلات عن الوعي الجمالي في المسرح ا
...
-
التشريعات والقوانين المرتبطة بالفنون والثقافة في مصر
-
مهرجانات المسرح والفنون في مصر..أسئلة الجدوى ومواجهات الضرور
...
-
المسرح المصري أم المسرح في مصر- هل هي إساءة فهم..أم أغراض دف
...
-
تحولات المسرح المصري..جماهيرية أم رجوع للوراء؟؟
-
قضية أحمد عامر..وجريمة -إساءة استخدام السلطة-
-
قضية أحمد عامر.. مواجهة الفساد في الجامعة المصرية
-
الدعم الحكومي للثقافة والفنون في مصر..وفوضى المهرجانات المسر
...
-
مساءلة مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي..من الذاتية إل
...
-
المسرح والمسار السياسي..قراءة في المشهد المصري
المزيد.....
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|