أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد بوصاد - في امتداح القراءة















المزيد.....

في امتداح القراءة


رشيد بوصاد
كاتب وشاعر

(Rachid Boussad)


الحوار المتمدن-العدد: 6982 - 2021 / 8 / 8 - 17:04
المحور: الادب والفن
    


في غرفة تقطنها الروايات، والقصص، والمعاجم، وهي معها تأنس وتتحاور، انزويتُ في أحد الأركان ونسيتُ العالم الذي يحيط بي. لا حِس ولا حسيس، باستثناء شفتي اللتين كانتا تفضان بين الفينة والأخرى بَكَرة الصمت المطبق الذي يتفرد به الليل وعواصفه. لم أشعر بوحدة لا مملة ولا رتيبة في لحظة من اللحظات، لأنني كنت أقرأ في عزلة واعية ومقصودة كتاب "تاريخ القراءة" للكاتب الأرجنتيني-الكندي ألبيرتو مانغيل .(Alberto Manguel)
في الصفحة الأخيرة وليست في الحقيقة بالأخيرة، (بل هي عنوان الفصل الأول من الكتاب)، كان قد استرعى انتباهي الدور الأساس والفعال الذي تلعبه القراءة باعتبارها ضرورة وجودية، وحاجة ملحة يصعب، ويستعصي، بل ويستحيل الاستغناء عنها.
إننا، كما جاء على لسان ألبيرتو مانغيل، " نقرأ كي نفهم، أومن أجل التوصل إلى الفهم. إننا لا نستطيع فعل آي أمر مغاير: القراءة مثل التنفس، إنها وظيفة حياتية أساسية ".
وها نحن في الصفحة الأولى من الصفحة الأخيرة مع مانغيل وهو يُعلق على صور مجموعة عالمية من أصدقاء القراءة كأرسطو الفتى لتشارلس دجورج، فرجيل للوجر توم رينغ الأكبر، القديس دومينيك لفرا أنجيليكو، باولو وفرانجيسكا لانزيلم، تلميذان مسلمان (رسام مجهول) وغيرهم من أصدقاء القراءة، فتذكرت الجاحظ باعتزاز وافتخار شديدين، ذلك العاشق للقراءة، وذلك الأديب الذي قتله علمه. (أو بالأحرى، جاهد في سبيل العلم).
حدث ذلك عندما ولت رحلتي بوجهها اتجاه بغداد فتراقص المشهد أمامي: الجاحظ في دكان من دكاكين الوراقين يفترس الكتب، يلتهم الصفحات في صمت الليل، وأذني على صوت جُدجُد لعين... ومهما كان الأمر، فصاحبنا لا يعبأ به. بل لا يعترف له بالوجود في وجوده.
لقد عُرف عن الجاحظ حبه وعشقه للقراءة، وملازمة الكتب، وكان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى أخره، ولا تأخذه رأفة، ولا رحمة، ولا تعاطف. تساءلت في نفسي: أليس القارئ شبيها بأكلة اللحوم ومصاصي الدماء؟
ولقد كان علمه (أي الجاحظ) هو السبب الرئيس في وفاته، حيث يقال إنه توفى من جراء سقوط قسم من مكتبته فوق رأسه، ففارق الحياة عام 868 م، وقد تجاوز التسعين سنة.
إن موت الجاحظ بسبب علمه، ذكرني أيضا بالإمام ثعلب أحد أئمة النحو والأدب الذي كان إذا دعاه رجل إلى وليمة يشترط على صاحب الوليمة أن يجعل له فراغا لوضع كتاب بين يديه ليقرأ فيه: "أنا سأحضر لكن أعطيني مجالا"، ولقد كان سبب موته أنه لما خرج ذات يوم جمعة بعد العصر من المسجد وكان بيده كتاب يقرأه فجاءت فرس فصدمته فسقط في هوة وفارق الحياة في اليوم الموالي. وهذا إن دل على شيئا فإنما يدل، بصورة جلية وواضحة، على أن القراءة كانت يومئذ حاضرة صباح مساء في حياة الناس، وكانت جزءا لا يتجزأ من كيانهم وكينونتهم.. أي بتعبير مانغيل، كما قلنا سابقا، كانت القراءة مثلها مثل التنفس... ولا يمنع عنه إلا المقهور.
فإذا كانت القراءة نشاط ضروري كضرورة التنفس، فإنها تعد أيضا مفتاح الحرية والتحرر. فهناك علاقة اطّرادية بين الحرية والقراءة، فكلما زاد حجم الكتب المقروءة عند المرء، زاد تحرره من كثير من المفاهيم الخاطئة، والأغلاط المميتة، وتفادى السقوط في الدوامة اليومية للجهل، وفي متاهة التخلف، وتجاوز بوعيها "الوجودية" الحيوانية المطبوعة مطلقا بالتكرار.
إن القراءة هي نتاج جميع الأفعال تقريبا التي نقوم بها، فهي، في كيانها الأعمق الشفيف، ضرورة أنطولوجية، وحاجة يومية ملحة، ومتعة فائقة يعرفها حق المعرفة ذلك الإنسان الذي لا يعيش فقط على اليومي المتداول، ولا يقتات فقط بالمعتاد المعاد، أي ذلك الإنسان الذي يحقق قفزة نوعية فوق نمطية الحياة، ويترفع عما يسميه الكاتب البيروبي ماريو بارغاس يوسا (Mario vargas LLosa) بحضارة الفرجة"
(La civilización del espectáculo).
ففي هذه الحضارة، يؤكد الروائي بارغاس يوسا أن الثقافة أصبحت آلية من آليات الإلهاء والاستعراض، والتسلية، واللهو...ويشد د أيضا على أنه في مما مضى كانت الثقافة شكل من أشكال التوعية التي تعيق إدارة الظهر للواقع. ولكن في يومنا هذا، أضحت الثقافة آلية فاعلة وناجعة لإلهاء، والترفيه، والتسلية. ويبرز أن الرغبة في هذه الأخيرة، أي التسلية “أمر مشروع", ولكن أن تتحول هذه الرغبة إلى قيمة عُليا، وسامية، فهذا يترتب عليه تداعيات وخيمة: الاستهانة بالفنون، والأدب، وانتصار الصحافة الصفراء، واستهتار السياسة من بين الأعراض التي تصيب وتعتري المجتمع المعاصر.
ففي كنف حضارة الفرجة والبهرجة أو حضارة الاستعراض، انتحر فعل القراءة عند الأغلبية التي تنصاع للفرجة وتلهث وراء التسلية، وأضحى فعل القراءة عند القلة القليلة جهادا، ونضالا، وتضحية جسيمة.. فيالها من حقيقة موجعة في أحضان حضارة تؤرق وتقض المضاجع... أين هي مكامن المشكلة؟ ألا يجب استخلاص العبرة؟ أين الخطأ في إحجام وعزوف الأطفال، والشباب، والكبار عن مصاحبة وملازمة الكتاب؟ أين هذا الجيل من قول أحمد شوقي (أمير الشعراء):
أنا من بدل الكتاب بالصحابا لم أجد لي وفيا إلا الكتابا
وقال القدماء في فضل الكتاب:
جل قدر الكتاب يا صاح عندي فهو أغلى من الجواهر قدرا
وفي وصفه للكتاب قال الكاتب الأرجنتيني المرموق خورخي لويس بورخيس: "من بين مختلف الأدوات التي يتوفر عليها الإنسان، يبقى الكتاب من دون شك الأداة الأكثر إثارة للدهشة. فالمجهر، والتلسكوب هما امتداد لبصره، والهاتف امتداد لصوته، والمحراث والسيف هما امتداد لذراعه. بيد أن الكتاب شيء اخر تماما: إنه امتداد لذاكرته، وخياله ".
وفي امتداح القراءة قال الكاتب والشاعر الإسباني فرانسيسكو دي كيبيدو:
هأنذا مع صلب عزلتي في عمق هذه الصحاري،
تصاحبني بعض من كتبي، وما ادراك من كتب
بها أحيا وحياتي في دائرة مع الذين رحلوا،
وعيناي تسترقان السمع و الإنصات إلى تلك الرفات.
أين هذا الجيل من أمثال الجاحظ، والإمام ثعلب، والخطيب البغدادي، والنووي، والمتنبي وغيرهم الحمد لله...؟ أين نحن من أمة اقرأ التي تغيب فيها عادة القراءة؟
ألا يجب استخلاص العبرة؟ فيكفي الأمة الإسلامية شرفا، وفخرا، واعتزازا لا نظير لهم أن أول ما ابتدأ به نزول القرآن الكريم قوله عز وجل في سورة العلق:
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ... ".
فمن خلال هذه السورة يتضح جليا أن هناك أمر إلهي عظيم موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة. إنه أمر وجودي يحث على القراءة، والتفكير، والتأمل، والتدبر..
وتساءلت في قرارة نفسي: أمة اقرأ...متى تقرأ؟ ومتى تكون خير أمة أخرجت للناس؟



#رشيد_بوصاد (هاشتاغ)       Rachid_Boussad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خصائص المثل الأمازيغي: جهة الأطلس المتوسط نموذجا


المزيد.....




- الدنماركي توماس فينتربيرغ رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الفيلم في ...
- شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى 7 أكتوبر
- أقوى إشارة وجودة HD … تردد قناة بطوط كيدز الجديد 2024 على ال ...
- سليمان الرياعي: التقدم الرقمي أحدث تحولا إستراتيجيا سريعا في ...
- طوفان الشعر.. كيف وثق الشعراء 7 أكتوبر وتفاعلوا معه؟
- انطلاق فعاليات المهرجان السينمائي الدولي الثامن -الجسر الأور ...
- نادي الشعر في اتحاد الأدباء يحتفي بمجموعة من الشعراء
- الفنانة المغربية لالة السعيدي تعرض -المرئي المكشوف- في -دار ...
- -الشوفار-.. كيف يحاول البوق التوراتي إعلان السيادة إسرائيل ع ...
- “المؤسس يواصل الحرب”.. موعد مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس ...


المزيد.....

- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد بوصاد - في امتداح القراءة