تلوث وفراغ سياسي وقتل.انقطاع الكهرباء والكوليرا والخوف .تصفيات وأسرى وسجون ومقابر. سطو على منازل ودوائر ومواقع سياسية. احتلال خارجي واحتلال داخلي. إرهاب قديم وإرهاب جديد. مليشيات قديمة وأخرى جديدة. محاكم سردابية منقرضة ومحاكم فورية. صحف فاشية وزرائب الكترونية منقحة.
من يعيد لنا صفاء الضحكة الأولى؟
من يعيد لنا براءة المصافحة، ونقاوة الزيارة، وعفوية النظرة في الطريق، وفي العمل، وفي المقهى، وفي الحب، وفي الوعد؟
من يعيد لنا معنى صباح الخير؟
ومعنى التحية عبر الحيطان؟
من يعيد لنا براءة القبلة الأولى، وبراءة الحلم الأول، وبراءة الأخطاء الجميلة، وبراءة الفرح البشري في مواسم الزواج، والأعراس، والمطر، والريح، والعشب، ومواسم عودة السنونو إلى أعشاش الغرف؟
كنا نعيش، قبل زمن الرعب والوقاحة والموت المجاني والفاشية ، مع العصافير التي تبني بيوتها فوق رؤوسنا، وتتناسل في غرف نومنا، وتحلم على مسافة دمعة من مشاريعنا السرية.
كانت منازلنا مفتوحة في الليل والنهار للطيور والأفاعي والقطط والكلاب والغرباء( في القرى كانوا يفتحون الأبواب حتى في الليل كي لا يحتار الغريب أو العابر في طرق الأبواب).
حتى اللصوص في زمن العذرية والبراءة كانوا ظرفاء وخجولين، ولا يقتربون من أرملة أو يتيم أو فقير أو مريض أو عجوز أو غريب.
حتى اللصوصية كانت لها مرجعية ومفاخر وقواعد عمل وشرف الكلمة( لم يعرف بعد زمن إشهار المسدسات فجأة على مائدة الطعام بين الرفاق!)
حتى الكلاب كانت لا تنبح على جار أو امرأة أو طفل( لم يعرف بعد زمن الكلاب البوليسية!)
كان اللص لصا شهما لا يخون الزاد ولا الملح ولا تحية الصباح أو المساء وكان لا يبصق في صحن أكل فيه أو قدح شرب منه أو يد صافحته يوما( لم يعرف بعد زمن لصوص الدولة البوليسية، ولا لصوص الدولة الجديدة الذين سرقوا الكراسي والمنازل وأعادوا العمل بتقاليد الخصوم على صورة أخس، وخانوا شعارات الحرية ودولة القانون التي جيشوا الجيوش باسمها).
كانت حيطان المنازل محمية لا بقوة القانون، بل بقوة الحياء، وقوة قدح شاي شرب يوما في بيت، أو رغيف خبز عبر جدار، أو قوة كتف رفعت يوما جنازة عزيز أو صديق( هذا قبل أن يأتي زمن العصابة التي تقتل القتيل وتمشي في جنازته، وتقيم له نصبا تذكاريا!).
كان حائط المنزل مصانا ومقدسا ولو كان من الشوك أو السعف أو الطين أو الصفيح( قبل أن تصبح الحيطان ملعب جمباز لرجال الأمن !).
وكان قفل الباب ختما محرما إلا لأهله قبل أن يصبح الباب والمنزل وسكان الدار ملكا مشاعا لعصابات دولة الموت والوحشية والجنون والعرق والغابة.
دولة الجراد وزبائن القرية والتخلف.
من يعيد لنا مذاق اليقظة الأولى لصباح عراقي مشبع برائحة التراب والمطر ومشاكسة العصافير وحيل الأفاعي المنزلية وبياض الغيوم القطنية المسافرة نحو مدن وقارات وبحار وجبال وهي ترسم على الأفق صورا لأرانب وغزلان وأوهام وأعراس مرتحلة؟
من يعيد لنا جمال القمر العراقي القديم وأساطيره والغزالة التي دخلت فيه؟
من يعيد لنا جمال الحيطان المكسوة بالشوك وكسرات الزجاج والرايات؟
من يعيد لنا زمن الفوانيس الأول حين كان يأتي كل مساء ذلك الرجل الطيب الملقب (أبو الفوانيس) ليشعل فوانيس الحارة، قبل زمن المصابيح والأحزاب والانقلابات والاغتيالات، ومع ضوء الفوانيس كانت تشتعل المحبة وتدور أطباق الطعام على الفقراء والمعوزين واليتامى والأرامل والغرباء؟
كل فانوس في شارع طيني ( حتى أن ذاكرتي تحمل الآن اللون الطيني ) كان قنديل أمل، وشعلة صفاء، ومنديل عشق.
ضحكة من أقصى الشارع تهز بيوتنا بالأمل والسعادة واللعب والمرح.
كل شخص يتوجع في أطراف الحي، كنا نتوجع معه.
كل امرأة تطلق في أطراف المدينة، كنا نطلق معها رجالا ونساء وأطفالا.
كل محموم في صريفة أو بيت أو خربة كنا نصاب معه بالحمى.
كل غريب تذكر أهله، تذكرنا معه حزن الغرباء.
كل طائر يسقط من عامود كهرباء أو شجرة أو غيمة أو سماء كنا نسقط معه.
كل محتضر كنا نسهر عند رأسه حتى ينام.
كل ميت، شحاذا أم تاجرا، كنا نمشي في جنازته حتى حدود المدينة، أو المقبرة.
كل قصة عشق سرية وصامتة كنا نعرف تفاصيلها، ونقرأ رسائلها، ونعرف أخبارها.
من ينقذنا من هذا التشوه؟
والخبث؟
والخراب؟
من يعيد لنا جمال المساء الأول؟
من يعيد لنا صيحات البط النهري في الطريق إلى النهر؟
من يعيد لنا مكر الشرطي الأول وهو يداهم المنزل ويجلس مع المطارد على موقد واحد، ورغيف واحد، ويخرج خجلا من شراكة الزاد والملح والشاي والجلسة؟( الآن صار يأكل معك، ويفكر في ذبحك، ويأكل زادك وهو يضع خنجرا تحت سترته، وينام في بيتك كلص وهو الشاطر وأنت، حسب معايير الزمن النذل، المغفل!).
من يعيد لنا غضب قارئ الكهرباء نهاية الشهر وهو يجد ميزانية المنزل واقفة وتعد صفرا فيقول:
ـ في الأقل ضعوا فيها فلسا واحدا !
كان يخجل من فقر العائلة فيهز يده ويمضي شاتما الزمن الذي لا يجد فيه صاحب المنزل حتى أجرة الضوء.
من يعيد لنا (شقاوات) زمن العفوية الذين كانوا يخجلون من الجار والصديق والمثقف والمعلم والسجين السياسي وبنت المحلة والمريض والمعوز والضعيف؟( شقاوات الزمن العراقي الرديء هنا أو هناك صاروا سياسيين وكتابا، ولا فرق عندهم بين سرقة ضريح إمام أو مضيف، ولا فرق عندهم، في زمن النمو والحداثة والتطور والعولمة، بين اغتصاب عجوز أو اغتصاب طفل، ولا فرق عندهم، حسب رسالة أحدهم لي بخط يده يكتب في بعض زرائب الكترونية تحت اسمه "شاعر عراقي مقيم في النرويج! " : ـ بين دخول بيتك في العراق ودخوله هنا في النرويج وخلع ثيابك أمام زوجتك..." الخ السفالة.
هذا تطور خطير في الدونية حين تعبر الحدود والقارات والقوانين والدول والحضارات والثقافات والبحار وتصير أممية كالجدري، كالسارس، كالكوليرا.
فمن طبيعة السلوك الفاشي أنه ينتج كائنات مشوهة ممسوخة عندها قدرة نقل هذه العاهات إلى أي مكان ترتحل إليه، ولا تؤمن بالمركز، بل تنتقل إلى أطراف الأرض تحت شعارات ملونة زاهية وترتدي قناع الضحية.
شقاوات الأزمنة القديمة قُتل بعضهم دفاعا عن آخرين لا تربطهم بهم عدا رابطة الشارع أو المحلة أو النخوة أو صيحة استجارة.
من يعيد لنا الغابات الأولى؟
كنا نقضي النهارات في الغابات ونأكل منها، وننام فيها، ونلتقي فيها، ونقرأ فيها، ونفكر في المستقبل على غصن شجرة.
غصن شجرة في ظهيرة اشرف من كل برلمانات العراق في كل العصور.
من يعيد لنا شراسة صاحب البستان وهو يجدنا نأكل فواكه بستانه بطمأنينة وسلام وسكون واسترخاء، فلا يفعل شيئا غير تمزيق ثيابه أو قذف نعله في الهواء أو رمي عصاه على الشجر من الغضب والحزن؟
كنا، على الغصن، نضحك، وهو يتمزق.
ولم نكن نعرف أننا نأكل قلبه وعرقه ونسافر في وريده.
من يعيد لنا موقظ الصيام في رمضان وهو يضرب على صفيحة أو طبل وهو ينزف دما؟
من يعيد لنا صدق الموتى الأوائل؟
كان الميت ميتا حقا، وليس نصابا.
وكانت الجنازة جنازة، وليست بضاعة مخدرات أو أسلحة أو مخطوفا.
كنا ندفن الميت ونعود، دون أن ندفنه ونجده معنا كما هو الأمر هذه الأيام( ما أن ندفن زعيم حزب أو عضوه المركزي، حتى يخرج علينا بعد سنوات من القبر وهو يؤلف كتابا عن سيرته الذاتية وكنفراساته الحزبية، كأن مشكلة العراق هي مشكلة مؤتمرات، والمصيبة أنه يضع على الغلاف صورته وهو في مرحلة المراهقة كي لا يشمت به خصومه !)
كل زعماء الأحزاب في العالم يموتون حين يموتون إلا زعماء الأحزاب في العراق.
ومعهم علماء الدين.
فهؤلاء، رغم كل حبنا لهم وتقديرنا لدورهم الفعال والمهم والتاريخي في تحويلنا إلى كائنات تزحف على حدود الأرض من الخوف والقمع والحزن والمنفى، يحكموننا من وراء جدران القبر.
واحد يحكم باسم عقيدة سياسية.
والآخر باسم فتوى دينية.
الثالث باسم سلالة عائلية الخ.
وكما عندنا سلالات دينية، كذلك عندنا سلالات حزبية.
فحكم العائلة( الدينية، والسياسية) لم يغب مع الدكتاتور، بل تأسس به.
نحن قرية.
نحن قبيلة.
ولا فرق، إلا كالذهب في النخالة، بين اليساري وبين اليميني، بين من يلبس عقالا وبين من يضع على رأسه قبعة، بين الذي يرتدي البيرية وبين الذي يضع ورق تواليت.
لأن العبرة ليست في الزي، بل في العقلية، وليست في الشعار بل في الذهنية، وكلنا خرجنا من عقلية المخبأ السري( ارجع لطفا إلى مقال لنا هنا يحمل هذا العنوان ـ ذهنية المخبأ السري).
نشتم الفاشية لأنها تقتل في سجون سرية، ونحن صرنا نقتل في الهواء الطلق هذه الأيام.
نحرض عليها لأنها سرقت الوطن، ونمارس السرقة هذه الأيام بقوة السلاح والابتزاز ونسطو على مساكن ومؤسسات ومزارع.
نلعنها لأنها ليست دولة قانون، ونطرد سكانا/ ضحايا/ من قومية أخرى لأنهم موجودون في (وطن آخر ليس ملكهم!)
ننادي بالوحدة الوطنية، وجزأنا حتى القرية إلى قرى حزبية.
نطالب بالفيدرالية، ونسرق مصانع ومعامل الدولة الوطنية ونبيعها للخارج كما يفعل اليوم زعيم حزب فاشي عراقي مسلح متهم بجرائم ابادة من قبل منظمات حقوق دولية، آخر خلفاء الدكتاتور، ونسخته الكردية الملونة، والبعثي الوحيد الباقي في سلطة اليوم.
لأن البعث ليس حزبا، بل حفنة لصوص.
وهو ليس عقيدة، بل عقلية.
من يعيد لنا حزن الملك فيصل الأول وهو يتوسل بوزير المالية اليهودي لكي يشتري له سيارة جديدة؟
من يعيد لنا غضب هذا الوزير على طلب الملك؟
من يعيد لنا نقاء الجيل السياسي العراقي الأول وهو يصعد إلى المشنقة كما يصعد قمر على حيطان الطين؟
في حين يصعد زعماء الأحزاب هذه الأيام على المزبلة كي يخطبوا بالجماهير.
اليوم صار السياسي، بعد( التحرير) لا يصعد إلا على عشرات العمارات، وآلاف الجماجم من أعداء الأمس وأسرهم وأطفالهم، وآلاف القتلى من النشل والصرع والقلب والسكري والجوع والخوف وحوادث الدهس الفكري والسياسي والربو والحر والغدر والاغتصاب والاغتيال وانفجار المصران والدمع والأمل.
صارت الشطارة هي الثقافة.
وصارت الحيلة هي الذكاء.
وصار الذكاء هو المهيمن بعد أن انحط الضمير( وهذا أخطر تدهور في حياة أمة أو شعب).
من يعيد لنا جمال السياسي الأول حين كان يبيع سترته من أجل دفع بدل اشتراك الحزب أو كي لا يهان في مؤسسة أو لا يبتذل؟
من يعيد لنا صلابة المعلم الأول ونقاوته حين كان يطرد من التعليم فيفتح دكنا للكباب أو مقهى أو يعمل مع عمال الطابوق في تلك الظهيرة المهلكة والمشتعلة التي يبول منها الحمار ويحترق الحجر؟
من يعيد لنا فرح اليتامى في الأعياد حين كان الجيران يشترون لهم قبل أطفالهم ثياب العيد وهدية الأراجيح؟
من يعيد لنا صاحب الأراجيح القديم وهو يغنى لنا عن الغزالة التي ستظهر عبر الحيطان؟
من يعيد لنا أغاني صاحب العربة التي تنقلنا إلى البراري في مواسم الربيع؟
من يعيد لنا البكاء القديم على جار قريب أو بعيد؟
من يعيد لنا حزن الحي على عريس قتل بالحناء، برصاص الفرح، بليلة مهر؟
من يعيد لنا جمال الضفائر القديمة ورائحة الخزامي والزعتر البري؟
من يعيد لنا فرح نسوان الشواطئ العائدات من النهر وعلى رؤوسهن صفائح الماء؟
من يعيد لنا أخلاق الدائن القديم الذي كان يهدد بالشرطة في الطريق، لكنه بعد الشاي والتمر والحديث والضحك، يخجل من الكلام ويخرج دون أن يقول شيئا؟
من يعيد لنا فرح الفراشات الأولى يوم كان الربيع ربيعا وليس مقبرة؟ ويوم كنا نذهب إلى الحقول في مواسم الخصب، وليس إلى المقابر؟
من يعيد لنا صفاء وجمال المقابر الأولى يوم كان الموتى موتى الله أو المصادفات، وليسوا قتلى أو مشنوقين أو منتحرين أو مدهوسين بشاحنة أو تقرير أو ندوة أو فكرة أو مؤتمر إنقاذ وطني ؟!
من يعيد لنا نزاهة الدفان الأول حين كان دفانا حقيقيا، وليس مقاولا أو تاجرا أو حزبيا أو جلادا؟
من يعيد لنا حرارة ونقاوة الثدي الأول، قبل أن تجف أثداء النساء وتصير حجرا؟
من يعيد لنا اللون الرمادي الجميل الشاعري الأول للشتاء العراقي قبل أن يحمل لون الكآبة ولون المأتم؟
من يعيد لنا طعم النبيذ الأول؟
وقدسية وجمال المآذن؟
ورشاقة الكنائس؟
من يعيد لنا توهج السنابل القديمة؟
ومكر القطا؟
من يعيد لنا ضوء القرى عبر نافذة القطار المسافر في جنوب نحيف، جنوب جميل، جنوب مسالم؟
من يعيد لنا فرح وبشاشة جبلي بضيفه منتصف الليل قادم من الجنوب؟
من يعيد لنا براءة قروي كان يبيع العسل في بغداد( قادما من أعماق الجبال) كأنه يبيعه في قريته؟
من يعيد لنا صهيل الخيول الأولى التي كانت تصهل حقا، لا نباح خيول الأزمنة الحديثة التي صارت كلابا من التوحش والترويض والضرب؟
من يعيد لنا أخلاق وأساطير الفارس القديم الذي يدخل المدينة في الليل على فرس سوداء( لا على دبابة!) وينقذ الحبيبة أو المدينة من الوحش أو الظلم أو الاغتصاب؟
من يعيد لنا جمال الفرس الأولى، يوم كانت فرسا حقيقية، وليست جارية في قصور البدو الخصيان؟
من يعيد لنا ذلك التطرف الفكري البريء المغمس بالأحلام يوم كنا لا نقبل بغير (التغيير الجذري) بديلا؟
تغيير الأرض
تغيير القمر
وتغيير الكون
وجعل العالم حديقة.
ومع ذلك لم نكن نملك ثمن جوارب أو مقهى أو رغيف.
من يعيد لنا حوارت البارات والمقاهى الأولى يوم كنا ندخلها شحاذين فقراء لا نملك سوى ثمن الشراب، فنتحول في لحظات إلى أصحاب مشاريع ثورية نفكر في طرد ملوكا من ممالكهم، ورؤساء من دولهم، وآلهة من عروشهم، وحين نصحو نكتشف أننا لا نملك حتى اجرة العودة إلى الفندق أو البيت أو الوطن؟
من يعيد لنا ذلك الجنون البهي حين نسقط بعد كل كأس ثكنة أو جمهورية؟ وعند الصحو يفزعنا نفير سيارة مفاجئ؟
من يعيد لنا طهارة اللغة الأولى،والجنازات، ومراكز الشرطة القديمة، والألوان، والروائح، والخيول، والدموع، والأحزان الأولى، البكر، ومسيرات الرفض القديمة، ونزعة الصدق المدهشة التي تجعل الحجر مشعا، والأشجار تورق؟
من يعد لنا بكارة الوعد الأول؟ يوم كان الوعد وعدا، وليس فخا؟ يوم كانت الكلمة قسما، وليست راقصة مبتذلة؟
من يعيد لنا جمال التهمة الأولى، يوم كانت التهمة تهمة حقيقية، وليست دورة مياه؟
من يعيد لنا هيبة المحكمة الأولى يوم كانت القاعة قاعة محكمة وليست ماخورا؟ ويوم كان القاضي قاضيا حقيقيا وليس كحوليا أو منحرفا أو جلادا؟
هذا وطن خربه الجميع
وسرقه الجميع
وتآمر عليه الجميع.
كنا وحوشا، وكان العراق هو المتحضر الوحيد فينا.
نبدد ثروته، فيعطي بسخاء.
نحرقه، فيمد يده لنا بالخبز والأمل والضوء.
نؤسس فوقه السجون، فيؤسس في قلوبنا المحبة.
نسرقه عبر العصور، فيأمر الأرض بأن تمنحنا قمحا ألذ، وهو يضحك.
نلوث مياهه، فيصفح عنا.
حين نصير أكلة لحوم بشر ونمزق بعضنا بشهية ذئاب، يصير العراق حماما ومطرا وأغنية.
نهاجمه بالقنابل، فيهجم علينا بالقبلات.
نسكب خيراته على الأرض وفي البحر، وندوس فوقها، ونشعل النيران فيها، فيغفر، ويعطي، وينسى( شعوب الأرض تبحث في المزابل عن طعام، ونحن حولنا الطعام إلى مزابل!).
يقدم لنا قناديله هدية، فنطفئ النور.
تسطع أضرحته بالجمال، فنحولها إلى بشاعة مثلنا.
كل أوطان العالم تصاب بالجفاف والجوع، إلا هذا الوطن/ الضحية/ هذا العراق:
حين تجف الأرض، يورق.
حين تجف الأنهار، يروي.
حين تجف أرحام النساء، ينجب تاريخ عشق.
نهاجمه بالقنابل، وافتتاحيات الصحف، والانقلابات، والمساومات، والدسائس، وعمليات البيع والشراء، ونرهنه للشركات، والمرابين، ونصادر الكحل من عينيه، والطيور من اهواره، ونضع قشور الموز تحت قدميه في المواسم وفي كل حقبة وقرن وتاريخ، ونرشقه بالبيض الفاسد، والقنابل العنقودية، والانشطارية، والذكية، والكوليرا، والنصب، والتهشيم، والحروب، ونغتصب حتى مجانينه، ومع ذلك فإن هذا الوطن عظيم،
ونحن أقزام
وهو عملاق
ونحن صغار
وهو كبير بتاريخه
ونحن زواحف بأنانيتنا وجهلنا وغرورنا.
هذا الوطن المدهش لا نستحقه أبدا.
من العار أن نسكن هذا العراق البهي.
نحن نستحق زريبة،
أو مستشفى للأمراض العقلية،
أو إسطبلا.
أو دورة مياه.
لتبرع به للأجانب،
لليل،
للعتمة،
للشركات المتعددة الجنسيات.
فهذا الوطن مثل حقل أزهار
حرام، وألف حرام، يترك تحت أظلاف الخنازير !