أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - ساكن القبر 5















المزيد.....


ساكن القبر 5


هيثم بن محمد شطورو

الحوار المتمدن-العدد: 6971 - 2021 / 7 / 27 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


العودة إلى لحظة الفزع. رحلة من الأرض إلى السماء. استـشراف المابعـد الموت. الدخول إلى دائرة الوهم في العـقـل البشري. الموت، هذه الفكرة الجنونية الواقـفـة أمام أنظارنا كـواقع محتوم. الواقعة المحتومة تخترق جـل كياننا فـتكون الحياة هـروبا دائما من الموت أو مواجهة له أو كلى الحالتين معا. الأبطال هم اللذين يـبتـلعـون فكرة الموت في جوفهم و يواجهونها بشراسة و عـزم، فإما أن تـنصاع لهم حياة حرة و إما تـنـقـشع حياة مهددة بالهوان و الضعف و المهانة..لا يمكن للإنسان أن يتـقـبل فكرة نهايته.. أبدا أبدا.. محال أن يكون الموت و النهاية التامة فكرة مقبولة في أعماق النفس البشرية. ما يعكر فكرة موت الموت هو موت الحيوان لان الإنسان عضويا حيوان رغم اختلاف طبيعة الأعضاء البشرية من حيث الكيف. الإنسان يرى نفسه الاها أو جزءا من الاه لأنه يفكر و يشعر و يخلق و يبدع. الموت فكرة مقبولة للحيوان أما الله فكيف له أن يموت. من لم يلد و لم يولد لا يموت.
أعادتني أحلام إلى الزمان المظلم و عادت بسرعة إلى حياتها. للـزمن الأنثوي روعته في الانغماس المباشر في الحياة. لا تـفكر الأنثى في الموت كثيرا كالرجل. موقـفها أكثر حكمة و هي الأقـرب إلى سمفونية الحياة، بل هي أحرف موسيقية في سمفونية الحياة. الموت شيء خارجي لا يعـنيها كثيرا إلا ساعة حدوثه لعزيز لديها. المرأة منطبعة في العالم يلجها لتـلتهمه. الأنثى حياة تبتلع كل الأموات.. لذلك تجد الزوجة التي يتوفى زوجها لا تحرص كثيرا على إيجاد زوج آخر لان افتـقاد الزوج لا يعني افتـقاد فكرة الحياة و إنما حضورا في العالم. ما نسميه وفاء الزوجة ما هو إلا خلق طبيعي غريزي، ففي النهاية ما الزوج إلا واسطة للإنجاب و العنوان الاجتماعي.
أما الرجل الذي يفقد زوجته فهو يفقد حياة، يفقد طاقة حياة و يكون هو نفسه في مواجهة مباشرة مع الفراغ و فكرة الموت التي تلج وجدانه. اغـلب هؤلاء لا يطيقون العـيش دون امرأة أخرى...
عادت أحلام بسرعة إلى عالمها بعـد أن تأكـدت أن ساكن القبر هو أباها، و تأكدت عبر تفحص ملامحي في سرد الحكاية من صدق الحكاية. رحلت و قد قـذفت بي من جديد في لحظة الفزع تلك. لحظة الموت، لحظة المواجهة المباشرة للموت...
تركت أحلام رائحتها. تركت فمها يبتلعني، فمها الجميل حين أجابت عن سؤالي في الذهاب إلى المقبرة عله يكون هناك.
ـ لا أتصور. سكان القبور يمشون اليوم في الشوارع بكل زهو. بل هناك أموات بعثوا إلى الحياة من جديد.. لن أكون أبا للأب أو أما له. إن كان مجنونا فلا حاجة لي به، و إن كان ناكرا لأبوته و عائلته فليذهب إلى الجحيم. المهم أني عرفت قصته و انه على قيد الحياة و بالتالي يتحمل مسؤوليته في الغياب...
فمها يلتهم مسامعي. تركت صوتها و نبراتها و نظراتها. قالت:
ـ كان هذا الشيء الذي اسمه أبي قاضيا و متـدينا جدا و شديد الضيق من السلطة الحاكمة. كان يقول دوما أن هذا الطاغية لن يزول إلا بالدم، و ما من سبيل إلى إزالته إلا العمل المسلح.. أتـتـذكر أحداث سليمان؟
ـ ايه.. العملية الإرهابية في 2006.
ـ انسحب أبي من حياتنا و من الدنيا ساعـتها. بحثـنا عنه و أعلمنا الشرطة عن فـقـدانه ثم فقـدنا الأمل في إيجاده. بعد أقـل من سنة تمكنت أمي من تطليقه. لازالت شابة و جميلة. تـزوجت من عمو مراد و هو محامي كان قـد اهتم بموضوع فـقـدان أبي، و يبدو أن صداقة قـديمة كانت تجمعه بأمي. هي كذلك محامية و لم تكن تخفي أبدا تناقضها مع أبي في الأفكار. لا أقول أنها ماركسية و لكنها تدافع عن الفقراء و المهمشين و العمال و الفلاحين دوما. كانت تـزمجر في وجه أبي بقولها أن الإيمان بالاه لا ينفصل عن الإيمان بالفقراء و المستضعـفـين و المقهورين في الأرض. أما أبي فلا يتحدث عن الإيمان بالاه و إنما عن دولة الإسلام المنشودة الضائعة..
ـ سكن القبر فكرة جيدة لا تخطر على بال البوليس. كل الناس تهاب القبور. لكن الحياة مع الأموات موت..
.. و ها أنا أعـود إلى مقهى الشعب المزدحم و الشاسع جدا و أغنية أم كلثوم تـنبعث من المصدح.. يا هاجرني..
***
مقهى الشعب. كعادته، كأنه دوائر متـداخلة و أفواه متـداخلة و اختلاجات و وجدانات متداخلة. تراها تـنسج خيوط اللذاذات الروحية و تخيط ألبسة المعنى.. هي نـفس البغبغة قبل الثورة، بغبغة التلاقي و بهجة التواصل و توهج النار. تلاقح للذوات من شأنه خلق عالم جديد عبر مسافات المحكي. الآن في مقهى الشعب تجد احدهما يقول للآخر:
ـ يجب أن أقوم بالتنازل الذي أترقب منه تنازل فلان لنصل إلى حل. ما فائدة المحاكم و العداوة.
هناك هبوط للغة الساسة المتداولة هذه الأيام. مثال آخر أكثر وضوح للقائل:
ـ أنا لا أقـول أنها رمت العصا في العجلة كي لا يقول الناس أن الذي لا يطول العرجون يقول ممرو..
طاولات متـقاربة و تكاد تكون متـداخلة و أنا تـداخـلت معها و كأني أضمها بداخلي.. يا للشعب الرائع."احبك يا شعب". مقولة "فرحات حشاد" الخالدة. إنها ليست مقولة سياسية و إنما وجدانية من الأعماق. ما أروع السياسة حين تنبع من وجدان ممتلئ بهذه الذوات و حكاياتها و مشاعرها و أفكارها. يكمن الشر في احتـقار الناس و تـقـسيمهم بيـن عامة و خاصة و في كل شكل من أشكال التمييز القائم على الملكية المنهوبة أو المشروعة. لا يمكن أبدا أن أصدق إيمانا بإلاه لا تسري فيه مياه عـذبة من الحب للبشر و العالم برمته.
لم أجد مكانا شاغـرا داخل المقهى. وجدت نفسي ملقى في نفس المكان الذي جلست فيه مع الشبح سابقا.. كرسي و طاولة بلاستيكية صغيرة.. لكن. حدث ما اعتبـرته انقلابا. وجه النادل. هو نفسه و لكن وجهه تغير تماما. ضاحك و مبتهج و مرحب. أدهشني ترحيبه فـقـلت:
ـ لم آتي إلى هنا إلا مرة واحدة قبل عامين. اعتـقـد أني لم اترك إلا ذكرى إنسان مخبول يثير الاستغراب و الرفض..
ضحك النادل و قال :
ـ تتحدث لوحدك عن ثورة الشعب المجيدة و عن البركان الذي يستحيل معه لأي صنم إيقافه.. كنت تقول: الدكتاتور يتهاوى في لحظة تراجيدية عظيمة.. الدكتاتور يذوبه هدير البركان.. علـقت هذه الكلمات في ذهني و إني انتظر قدومك لأشكرك..
تفاجئت. لا أتذكر أني قـلت هذه الكلمات. تساءلت بدهشة:
ـ هل قـلت هذا فعلا؟
ابتسم و قال:
ـ نعم و رب الكعبة. مما تخاف اليوم؟ علـقت كلماتك في ذهني و أرعـبتني. جرائدك و سجائرك المتلاحقة و كأنك عمود دخان. من الواضح انك معارض.
ضحكت ملء وجداني. غريب أن يصدر مني كلام و موقـف لا أتـذكره. ما أتـذكره هي كلماتي مع الشبح. هل انقـلب الأمر؟ هل أحدثت أحداث الثورة مثل هذا الاهتزاز في داخلي بحيث أن الحوار الباطني مراوغ و الكلمات المعلنة صريحة مع رفض تذكرها؟ أكيد أني اطردت الكلمات التي قلتها بمجرد قولها نتاج أجواء الرعب المستوطنة في القلوب. إنها ثورة في الأعماق إذن. ثورة قفزت على إرادتنا الواعية أو وعينا القصدي حـسب التعبير الهوسرلي.. هذا هو الحوار الباطني أما ما تـفـوهت به فـقد رد عـليه النادل البشوش جدا قائلا:
ـ ظهروا متاع الشيطان موش متاع ربي..
و يضحك فضحكت بدوري..
بدت ثورة غريبة، غير مفهومة و مبهمة و مشكوكا في كونها ثورة. بدت مولودا غير ذي نسب شرعي لشعب لم يتكلم عن الثورة،لا يتكلم عن السياسة و لا عن المصير أو الحق في الحرية و الكرامة إلا همسا و بين الأركان و الزوايا. بدت الثورة كأنها ابن زنا. مولود طائش، غير ذي عنوان سلالي أبوي ذكوري، مولود هجين غـريب لكنه جميل لا تعرف منه إلا أمه الفاتـنة الجميلة تونس.
ثورة قـتـلت الأب الذي لا تعترف به و المتسلط على الآمال و التطلعات و الإرادة الحرة لخلق الذات مثلما تشاء. ثورة أظهـرت نفـسها دون نسب، دون أب، دون زعيم. ثورة شباب، ثورة عفوية، ثورة الحرية و الكرامة. ثورة تختـزن بين طياتها آلاف الثورات التي كان يجب أن تكون و لم تكن. ثورة ضد منطق الخضوع. قال الشعب أخيرا انه لم يعـد يـريـد أن يخضع. مضى زمن الخضوع إلى الأبـد. أراد الشعب دخول عصر الحرية، عصر الفرد، عصر الذاتية، عصر الانفجار لمكامن الذات و العمل على تجسيدها في الواقع كبناء مستمر لكينونة منفـتحة غير تامة متجهة إلى الانهائي و الامنجز بعد دوما. الذات التي لا تكتـفي بشيء. الذات المؤرقة الصعبة المراس الداخلة لمدن القـلق و لكنها الداخلة لزمن خلق الذات باستمرار عبر خلق العالم و عبر العالم.
انه الشعب في قـلق عـظيم. دهشة، حيرة، تمزق، تـشضي. لا يعرف حـقيقة أين هو. مطلوب منه أن يرتـفع إلى الثـقافي الفكري الفلسفي. هذا ما يشع بداخلي طمأنينة الخطوات و ما جعلني اجلس خارج المقهى و في مواجهة الشارع العريض الذي تمتد حوله بنايات الطابقين. ساحة حجرية ملساء شاسعة. بوتيكات، أجساد جميلة تـتـنـقـل. أصوات، روائح.. عيون متشابكة...
***
كنت لا أزال محاصرا بمناخاتها. لم أصدق أنها حـسمت أمرها مع أبيها بهذه السهولة. كل ما يمكن تـقبله هو عـدم رغـبتها في الذهاب إلى المقبرة. تكره المقابر و تخافها. أما أن تكون قـد حسمت فعلا مع رغـبتها في إيجاد الأب الضائع فهذا ما لم يكن ممكنا لي الوثـوق به. إن إحساس الفـقـد مؤلم جدا عند الإنسان و عند الحيوان كذلك. فـقـدان شيء لك كان أمامك و بين يديك قد لا تعيره قيمة كبرى و لكن بمجرد غيابه عنك خارج نطاق إرادتك، فـذاك ما يحرك داخلك رغبة جامحة في استعادته، بل هي رغبة مجنونة أو غير معقولة بالنسبة لمن يأخذه منك سلطان الموت. مقاومة الفـقـد تخـلق للموت حياة. إذن، لربما أرادت أحلام نفي اختـفاء أبيها بالموت فأقرت أن الشيء الذي تحـدثت عنه هو أباها. تـتحول المسالة إلى إشكال مضاعف. إشكال في داخلي أنا. هي مشكلتي إذن..
كنت مقـتـنعا انه شبح. ثم انه حـقيقة واقعية و ليس بشبح.. هذا الإحساس أعادني إلى مقهى الشعب علني أجده من جديد. ها أنا أفكر، ها أنا أصل إلى أن المشكلة ليست مشكلة أحلام، بل هي مشكلتي أنا. وجدت نفسي بين الشبح من جديد و الإنسان الحي الموجود أتدحرج. غير قادر على تـقبل شبحيته و غير واثق من واقعيته...
ماذا سيكون سؤالي للنادل؟ انه لم يذكر كلمة واحدة عنه. أنا بدوري غادرت نفسي ساعتها باعتبار نفسي واقعا في فخ الثورة. فخ الخيال، فخ التحادث مع حكيم فإذ به شبح. أما الآن، فان بي رغبة جامحة بعدم تصديق موقف أحلام و وجدت فهما منطقيا لذلك و لكنه لا يقنعني بالكامل. ربما هي صادقة. إذا كانت صادقة فهو كائن حي بيننا و إن لم تكن صادقة فهو شبح مع الإقرار أن تجربة القبر لم تكن إلا هلوسة سكير، و تجربة مقهى الشعب معه لم تكن إلا هلوسة الثورة التي سافرت فينا لتـقـتـلعنا من أنفـسنا و جعلتنا في حالة شبيهة بالهذيان. شيء كالهذيان و لكنه واقع في الوقت نفسه. الواقع الذي غـدا فجأة كأنه أشباح هائمة على الأرض. أي ثورة هذه رمت بنا في قـلب قرص القلق الكوني؟
الآن، لا أتمنى إلا أن كانت رصاصة قد أصابتني في الثورة لتـنطبع حقيقـتها في جسدي. المظاهرة الكبرى في صفاقس و التي قلبت الأوضاع غـدت مجرد صور متراقصة أمامي و بدأت تـفـقـد بريقها و حقيقيتها و واقعيتها أمام واقع النكبة الذي تعيشه البلاد بعـد نحو عامين من الثورة. تمنيت أن أصل إلى الصف الأمامي، حيث نيران مشتعلة و شباب فتي يصارع البوليس . الآن، أتمنى أن وصلت إلى هناك و أن كانت عصا شرطي قد هشمت احد أضلعي، عل وجع الضلع الآن يـزيل وجع الدماغ و التـفكير المؤرق المضني. لعل الضلع المكسور و الموجوع يشفي وجـداني المريض بعد سنتين من الثورة..
وجدت نفسي فجأة، و دون سابق إنذار، و دون اختيار شخصي من حيث التوقيت و الموضوع، في قـلب مغامرة غامضة. و مر أمامي رجل اسود جبهته ملتمعة. غريب هو أمر الزنوج. شيء يبدو غير منطقي حدث في التاريخ. كان العرب يصطادون و يتملكون الزنوج عبيدا، ثم تجارة الزنوج المعروفة إلى أمريكا. ما لم أتـقبله هو أن الأفارقة السود لهم من البنية الجسدية المتينة الأكثر قوة من جسم العربي و الأوربي اللذين تم اصطيادهم و استعبادهم عبرهما في التاريخ. كيف للأضعف أن يستعبد الأقوى؟ من الواضح أن القوة الجسمية و المادية ليست هي معيار القوة الحقيقي في التاريخ الإنساني، بل قوة استعمال الذهن، قوة التفكير و الإرادة. التاريخ الإنساني صراع إرادات، صراع متصل بالروح أكثر مما هو متصل بالمادة.. قـفـز الزنوج إلى التاريخ الإنساني حين أصبحت لهم روح و رموز مثل "باتريس لوممبا" و " مارتن لوثر كينغ" و "نيلسون مانديلا"..
.. اكبر خرافة يتداولها العرب أن الروح من شأنهم وحدهم و أن الحضارة الأوربية مادية. الحضارة الأوربية هي روح العالم اليوم و ليست مادية فقط. كلمة أوربا تتـنـزل على قلبي بردا و سلاما بما تعنيه من حرية بكل تجلياتها. ليس التجليات الظاهرة فـقط و إنما الموسيقى و الأدب و المسرح و الفلسفة. تفوق أوربا هو تفوق روحي.....
و هكـذا دوما. لا يتوقف ذهني عـن التـفكير. يا له من ضجيج، يا له من تـزاحم أفكار، يا لها من كتب متراكمة تاركة أشباحها في ذهني تـتـقاذف بعضها يعارك بعضا، يا لها من حرب و يا لها من ثورة دائمة في جبهات القتال في ذهني.. أكاد أكون أنا الشبح.. أريد أن أتحسس جسدي لأحس بواقعية وجودي. لذلك أشعل سجائري دوما فهي الجسر الذي يربط جسدي بالعالم و روحي بجسدي و العالم بروحي.. دوائر متداخلة كمقهى الشعب مكتـظة في كياني.. التاريخ البشري من زحـف اسكندر العظيم على العالم القـديم و هو فتي، و من قرطاج منارة العالم القديم إلى روما و البربر و العرب و الأندلس و بني أمية و مكة و قريش، و من الرسول العربي إلى صدام حسين إلى هتلر و ستالين و الثورة البلشفية المذهلة إلى جرائم أمريكا الفـظيعة في اليابان و فيتـنام و العراق العـظيم الذي بعث الروح من جديد بمقاومته الباسلة التي قطعـت على أسوار بغـداد رأس الأفعى..أفلاطون و سقراط و هـيغـل و نيتـشه و فرويد.. المعري و التوحيدي و ابن عربي و الجاحظ.. طه حسين و نجيب محفوظ و تولستوي و تشيخوف.. يا لرأسي الضخم المتـشنج المكتـظ بالأفكار و الأشباح.. ما أحوجني إلى السكر و القبر..
لكن النادل عاود زيارتي. أرجح انه مشدود إلى أثر فني جالس على كرسي بلاستيكي ابيض اللون و إلى جانبه طاولة صغيرة الحجم مستـديرة الشكل تـقبع فوقها جريدة و كتاب. طلبت منه الجلوس إلى جانبي. مسكته من يده. اندهـش هو للحركة المفاجئة التي جذبته إلى كرسي قريب. لم أكن أريد التأكيد على إجلاسه بقدر التأكد من حقيقة وجوده باللمس. بلغت بي درجة القلق و الهلوسة غاية الأرق حتى لم أعـد أتحقق من وجود العالم إلا باللمس. العين من كثر ما شاهـدت في العالم من صور و وجوه و أحداث و كلمات غـدت غير موثوق بها نظرا لازدحام الذهـن بمدركاتها. السمع لا أثـق به كثيرا لنسياني الكثيـر مما استمعته في حياتي. بقي اللمس هو الأشد وثوقية في الحواس لإدراك العالم..
ناولته سيجارة فعادت ابتسامته إلى وجهه. يبدو انه كائن مبتسم و ما تجهم اللقاء السابق إلا موقف الرعب من كلام ثوري ضد نظام بوليسي لم يسقط بعـد، إضافة إلى تخوف الناس عامة ساعتها من حاملي الكتب و الجرائد بما أنها عنوان الثـقافة أي المعارضة. حاسة الشعب لا تخطئ عادة. من يفكر بالضرورة معارض للسلطة و خاصة سلطة أدمنت الكذب. سألته لأتحقق من أمر هام:
ـ تـتـذكر جيدا المرة السابقة التي أتيت فيها إلى هنا.
هز رأسه مؤكـدا الإيجاب ثم قال:
ـ كيف لا و قـد بقيت أتحـدث بك إلى غاية اليوم بعـد هروب بن علي..
ـ إذن يمكنك أن تـتـذكر أني كـنت جالسا لوحدي أم إلى جانبي شخص آخر..
تكلم مباشرة و بعـفـوية لا يمكن التـشكك فيها أبدا:
ـ آه. كان شرحبيل إلى جانبك.
ـ ماذا؟ شرحبيل؟
ضحكت لأمرين. الأول أني لم أكن أهـذي بمفردي ساعـتها و بالتالي فهو ليس بشبح فهي حادثة واقعية إذن. حضرت أحلام مباشرة إلى ذهني و تمنيت أن اقبلها. الأمر الآخر هو اسم "شرحبيل" الذي سيقـذف بي إلى لجج أخرى من القـلـق الناتج عن الصراع ضد أوهمة الواقع. الواقع الجديد المفاجئ الذي لا نصدقه و نحـس به وهما.
ـ شرحبيل ابن حسنة.
و يضحك النادل ثم يردف قائلا:
ـ هكذا يسمي نفسه. آوه.. يا له من قـديم.. هل جلـس إلى جانبك صدفة أم أتى معك؟
أجبته مغالطا نتاج عـدم وثوقي التام إلى حد تلك اللحظة من واقعية الحدث:
ـ جلس إلى جانبي. هل يأتي إلى هنا؟
ـ يعني. ليس كثيرا.. مرات معـدودات..
ـ في الأسبوع؟
ـ لا.. منذ ذاك الوقت..في المرة الأخيرة كان نظيفا و أنيقا و لحيته مهذبة قـليلا.. يـبدو انه حصل على تعـويض..
و ضحك النادل باستهزاء...
***
".. مع الإشارة إلى انه تم التوافق على ألا يتجاوز عمل المجلس فترة سنة يتولى من خلالها المصادقة على دستور جديد، و يضع القانون الانتخابي ما يمكن البلاد من عبور الوضع الانـتـقالي. لكن حركة النهضة رفضت الالتزام بالموعد رغم أنها أمضت على وثيقة ملزمة، و ما تزال إلى الآن تعمل على إدامة الوضع المؤقت رغم مرور سنتين على الانتخابات، و هو ما تعارضه مختلف أطياف المعارضة.. و تـتخبط تونس في أزمة سياسية عميقة منذ اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو لا سيما أن الوضع الأمني سيء بفعل العمليات الإرهابية التي تحدث في المنطقة الغربية بالبلاد، ما حدا بعناصر أمنية الجمعة إلى رفض حضور الرؤساء الثلاثة في تأبين عنصري امن قتلا برصاص مجموعة مسلحة..."
صورة الكومندان تشي غيفارا .. الإرهاب يضرب بقوة في تونس.. علم تنظيم القاعدة يرفرف في سماء العراق..
".. و كما يفعـل غيفارا عادة، فرغم انه كان ينزف و في وضع صحي سيء، إلا انه طلب مقابلة معلمة القرية جوليا كورتيز التي روت فيما بعد أنها قابلت رجلا مظهره مقبول و لديه نظرة بسيطة و لمحة من السخرية، و كانت و هي تحدثه غير قادرة على النظر في عـينيه مباشرة لان النظرة كانت لا تطاق، خارقة و هادئة. خلال مقابلتها له اشتكى غيفارا لكورتيز من الحالة السيئة للمدرسة، التي كان مأسورا فيها في تلك اللحظة، و قال أنها لا تصلح للتربية و من غير المتوقع أن الطلاب الفقراء يتعـلمون هنا في حين أن المسئولين الحكوميين يحصلون على سيارات مرسيدس.. و قبل لحظات من إطلاق النار عليه، سألوا غيفارا عما إذا كان يفكر في حياته و الخلود فأجاب: لا. أنا أفكر في خلود الثورة..."
ثـقـافـة الخوف من المؤنث.. الجمال ضد العنف في المدارس و صورة الراقصة الاسترالية الجميلة بيتا مورغاترويد..
ثم طويت جريدة العـرب و أشعـلت سيجارة. الجمال ضد العـنف في الحياة. ما أن ينبثـق كل جميل و ينـتـشر، و ما أن تـتركز بوعي صناعة الجمال و نشره بكثافة حتى يعـود الموت إلى القبور و يترك الحياة للأحياء و ينـدحـر العنف. العائشون في الموت هم الذين يقـتـلون باسم الرب.. يملأ الدخان مخي بلذة و عيناي تتابعان جميلات بلادي..
".. يا من تدعي انك على صورة الرب و أنت شره شراهة الضباع".. تشع هذه القطعة الشعرية في ذهني دوما و هي للشاعر الألماني "داجمارنك". و ناولت النادل نقوده، و ابتسامته تـشع على محياه الجميل. يكفي انه سعيد بالثورة رغم الاكتئاب و الهلوسات و الجنون، برغم كل هذه الفضاعات.. يكفي أن يفتخر النادل و يبتهج بلقاء شخص يعتبره هو وجها من وجوه الثورة.. أما أنا فكل ابتسامة تشع كضوء القمر في قلبي و تبعث الأمل من جديد، تبعث شحنة صراخ أخرى و كهربات ألا. و ها أنا أخطو في الساحة المبلطة بالأحجار الملساء، أبتعد عن كل شيء لأرمي نـفسي بين الوجوه الناظرة و المنظورة. ها أنا موضع نظر و ذات تنظر بقصد مني. ما أروع جميلات بلادي. كأنهن تزلن جلد الأفعى ليختـفي ساكن القبر من انشغالاتي. ساكن القبر الذي اقض مضجعي و جعـلني على حافة الجنون و الامعقول. لا يهمني أمره بعد اليوم، لن أفكر فيه كثيرا و لن أتابع ما قال أو ما يقـول و ما قام أو ما يقوم بفعله كثيرا.. هناك ارض مجهولة يجب أن نلجها فليمت الموت و تحيا الحياة.. ما يهمني الآن هو الحرية الجميلة التي تحملنا إلى صناعة حلم، صناعة الأحلام الرائعة لمدن زاهية رائعة جميلة خلابة لوطن لا يمكن أن يكون إلا رائعا..
و بين الجميلات تحضر أبيات للشاعرة الألمانية ـ هيلده دومين ـ و التي تـقول:
أيـــتـــهـــا الـــحـــريـــة
أيـــتـــهـــا الـــمـــلـــســـاء
إنـــهـــم يـــلـــعـــقـــونـــك
بأطـــراف ألـــســـنـــتـــهـــم
حـــتـــى تـــتـــكـــوري تـــمـــامـــا
كـــالـــكـــرة عـــلـــى كـــل نـــســـيـــج
الـــحـــريـــة كـــلـــمـــة
أريـــد أن أخـــشـــنـــهـــا
أريـــد أن أكـــســـوك بـــشـــظـــايـــا الـــزجـــاج
حـــتـــى يـــصـــعـــب وضـــعـــك عـــلـــى الـلـــســـان
و حـــتـــى لا تـــصـــبـــحـــي كــــرة لأحــــــــــــــــــد
...............
ســـمـــوا الـــمـــســـتـــديـــر مـــســـتـــديـــرا
و الـــمـــربـــع مـــربـــعــــا.

انتهت



#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ساكن القبر 4
- ساكن القبر 3
- ساكن القبر 2
- ساكن القبر 1
- أزمة الراهن التونسي
- فلسطين.. نقطة تفتيش إسرائيلية
- المثقف في لحظة موت الإسلام السياسي
- حوار فلسفي مع فتاة ذكية
- في رسالة رئيس الجمهورية -قيس سعيد- إلى -الغنوشي-
- الحجاب والاسلام
- المدينة العريانة
- الصداقة والصندوق
- حديث في الثورة التونسية
- التنين
- تخوم الضياع العربي
- في كتاب دولة الإرهاب
- في إعترافات -جان جاك روسو-
- تونس اليوم بين المواجهة والنكوص
- الإنسان بين ضآلته وكونيته
- هل المسلمون مسلمون بالفعل؟


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - ساكن القبر 5