|
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (الدراسة كاملة)
زاهر بولس
الحوار المتمدن-العدد: 6963 - 2021 / 7 / 19 - 01:53
المحور:
الادب والفن
* لعبة الكتابة مسؤوليّة قد يطول أمدها أو يقصر، وواجبك التعامل معها على أنّها ستطول * هنالك الحقيقة، ولها انعكاس سرديّ واحد، وتحوم حولها عدّة سرديّات، مثل أسماك القرش، لتنهش منها *الربيعي: أن الاستيلاء على الأرض لن يكون ممكنًا إلا بتجريف ذاكرتها * ومع كلّ ارتقاء بأدوات التعبير ترتقي أدوات التزوير، وأدوات الرقابة لحفظ التزوير *
مقدّمة: إن هذه الدراسة محاولة لسبر غور دوافع الكتابة عن النكبة بعد مرور أكثر من سبعين عامًا، ومقوّماتها، دون الوقوع في آفة التكرار، وأدوات جذب المتلقّي ليستعيد تجربة القراءة المتجدّدة حول موضوع ظنّ به البعض التقادم، ومدى أهميّة اللوحات السرديّة، من خلال المرور بسرديّات الكاتبة الفلسطينيّة، ابنة مدينة الناصرة، ناهد الزعبي، التي نشرت مؤخّرًا كتابها: "ذكريات في تقتطع الألوان". (1) أنت تتفاعل مع كلّ موروثك المتناقض أحايين، هكذا هي الدنيا، فتكتب، تبثّ منك موثِّقًا لشخص ما، لا تدري من هو أو من هي، متلقٍّ مجهول يسبح في موروثه، الذي تتقاطع مع بعضه وتفترق مع بعضه الآخر، فتصبح أنت أيّها الكاتب جزءًا من موروثه. أنت تكتب ما تريد وكما تريد، وهو هي يقرأ تقرأ ما وكما يريدان. فينشأ ثالث جمعيّ خارج عن برمجة البثّ والتلقّي، إنّها لعبة الكتابة، ولعبة الكتابة مسؤوليّة قد يطول أمدها أو يقصر، وواجبك التعامل معها على أنّها ستطول.
(2) على المستوى الدنيوي النسبي، هنالك حقيقة واحدة، تاريخ حاصل غير خاضع للسرديات، ولا مكان لطرح مجموعة سرديات لتتحاور فيما بينها، وكأنّ الحقيقة هي محصّلة لتفاعلات جدليّة بين السرديات.
فيما مضى سحرتنا مقولة أو شعار أطلقه فضيلة الشيخ السيّد محمّد حسين فضل الله حين قال وكتب أنّ "الحقيقة تكمن في الحوار". وأنا أعتقد أن المقولة بصيغتها خاطئة وساحرة في آن، لأنّ الحوار بين سرديّات خاطئة لا حقيقة تكمن فيها، على سبيل المثال. ولكن بالإمكان تجاوز الإشكاليّة بصياغة ظنيَّة: "قد تكمن الحقيقة في الحوار". وحتّى هذه الصياغة المتقدّمة تلتغي بين السرديات التناحريّة الإقصائيّة التهجيريّة.
إذَن، هنالك الحقيقة، ولها انعكاس سرديّ واحد، وتحوم حولها عدّة سرديّات، مثل أسماك القرش، لتنهش منها.
(3) يذكر المفكّر العراقي الكبير، الأستاذ فاضل الربيعي، في كتابه "الذاكرة المنهوبة"، وتحديدًا في "المدخل"، وأحيانًا تكون المداخل والمقدّمات بثقل آلاف الكتب المجترّة، ما يلي:
"إنّ العقيدة الكلاسيكيّة للهيمنة تقوم على فكرة واحدة واستثنائيّة مفادها، أن فرض الهيمنة على الأرض لن يتحقق فعليًا دون إخضاع السكّان وتجريف ذاكرتهم".
ويستمر الربيعي: "بيد أن الكولونياليّة الجديدة لا تؤمن بهذه النظريّة التقليديّة، فهي ترى -على العكس من ذلك- أن الاستيلاء على الأرض لن يكون ممكنًا إلا بتجريف ذاكرتها، محو شريط ذكرياتها ونهب تاريخها القديم، سرقته والتلاعب به بأبشع ما يمكن من التزييف، ثم استبداله بذاكرة أخرى، مصنّعة، أي ليس الاستيلاء عليها وحسب". وبرأيه، الصحيح طبعًا، فإن استخدام الكولونياليات الجديدة لقوّة محو الذاكرة أكثر فتكًا من استعمال القوّة الغاشمة لأجل الإخضاع.
من هنا يتفرّع طريقان، الأوّل المضي قُدُمًا بمشروعنا الحضاري الإنساني العالمي، بخطًى واثقة في شتّى المجالات الإبداعيّة، من جهة، واسترداد ذاكرة الأرض والإنسان من جهة أخرى، والأمران يرتبطان جدليًا، لا فصل بينهما. وجزء من ساحات التصدّي للعبث بالوعي، الحيّز الأدبي بفروعه.
(4) في الماضي السحيق ارتبطت الذاكرة بحياة البشر وانتهت بمماتهم، إلّا ذاكرة الأرض التي احتفظت ببقايا العظام المتحجّرة، ولاحقًا الأدوات التي استعملها أجداد البشرية في أماكن تواجدهم، وفي خضم التطوّر تمّ التوثيق على الحجر وبالحجر، وبالألوان والرسومات على جدران المُغُر، ومن ثم على الورق بمحاذات الحجر، باللفائف والصحف والكتب واللوحات، مرورًا بالتوثيق الإلكتروني المسموع والمرئي ومنها إلى الرقمي المحوسب، ولا حدود للخيال وما سينجم عنه مستقبلًا، وهذه الأدوات التوثيقيّة تفسح مجالًا للجديد دومًا وتتعايش معه.
ومع كلّ ارتقاء بأدوات التعبير ترتقي أدوات التزوير، وأدوات الرقابة لحفظ التزوير، وتزداد أهميّة الحفريات في كافّة المستويات، والفترات، مما قبل العَظْمِي والحجري مرورًا بالرقمي إلى ما سيأتينا أو يأتي أجيالًا قادمة، من جديدٍ. نعم مؤكّد هنالك عِلْمٌ حاضر ربّما لم يُسَمَّ بعد، إنما مضمونه "علم الآثار الرقمي".
وتجدر الإشارة أن هنالك عامودًا فقريًا يمتد على مدى العصور، ألا وهو التوثيق الشفاهي شعرًا وموسيقا لتسهيل الحفظ، لنقل المعارف والتجارب، ولتسهيل التعاطي مع الحياة! تحوّل مع الوقت إلى سجلّات كتابيّة. إنّه يدمج في طيّاته المتعة، لرفع الثقافة وتمرير الوقت ونقل الخبرات والهيمنة على فكر المتلقّي، بالحق أو بالباطل!.
إن هذه الأمور التي ذُكرت تُولَد مُحاطة بأغشية من الإشكاليات، بأساسها أن مجرّد نقل ذاكرة تحمل الطابع الذاتي المرتبط حواسيًّا، من الدماغ إلى الحجر أو الورق أو حتّى اللسان، يجعل منها حقيقة، وإن كانت مزيّفة أو مزوّرة، وشتّان ما بينهما. فما بالكم حين نلتقيها بعد عصرٍ أو عصور؟!
(5) ما دام التوثيق على أشكاله قادرًا على خلق عوالم جديدة، ففي مفاصل الصراع الوجودي يصبح هذا التوثيق، من جهة، أو فضح الزائف منه من جهة أخرى، على رأس سلّم الاولويات التعبويّة.
وفضح الزائف منه بحاجة إلى مؤسسات وأجهزة وإمكانيات دولة، وقد حبانا الله بأنظمة عربيّة، بغالبيتها، هي جزء من آلة التزييف لمصلحة العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض ويقتل ويهجّر، بواعز ودعم وبرمجة من غرب استعماري.
أمَا المفكر العراقي الكبير، الأستاذ فاضل الربيعي، فيقوم مقام الإمكانيات الكامنة لهذه الدول، بمجهوده الشخصي، فيمسح بكفّه الغبار عن ذاكرة الأرض لتنهض من جديد. يقوم مقام، لولا سوء صيتها لقلت، الجامعة العربيّة! وتبقى للمبدعين ، ساحات التوثيق على أشكالها، العلميّة والفنيّة الإبداعيّة، وهو الأمر الذي سوف أخوضه توسّعًا من خلال التطرّق إلى نتاج أدبي جديد كنموذج.
(6) نستطيع أن نقول أن التوثيق بدأ من اللحظة الأولى للتهجير، شفاهة وكتابة وصورًا وأفلامًا وثائقية لنشرات الأخبار وغير ذلك من أطراف عدّة، بين مؤيّد للحركة الصهيونيّة، وهم ذوي امكانات هائلة مقارنة بعصرهم وبمن هَجَّروا، وبين مؤيّد للفلسطينيين.
وكلما ابتعدنا عن نقطة التهجير على خطّ الزّمن، كلّما ازدادت امكانيات التوثيق تدرُّجًا نحو التعبير الفنّي مُشَكِّلَةً بتراكمها حالة ابداعيّة غنيّة، تطال التأريخ وأرشفة المستندات والأدب شعرًا ورواية والرسم والرسم الكاريكاتوري والتصوير الفوتوغرافي والموسيقا والغناء والسينما والمسرح وغير ذلك، وكلّ هذا يسير جنبًا إلى جنب مع الحالة الكفاحيّة النضالية للشعب الفلسطيني، تصعد بصعوده، وتهبط بهبوطه، وأحيانا يتعاكسان. وغنيّ عن القول أن أكثر ما يقلق الحركة الصهيونيّة، أمام فشل هيمنة روايتها، هذه الحالة الإبداعيّة، لأنها لا تملك أدوات للرّد سوى الإغتيال، وقافلة شهداء الإبداع طويلة، ومن ابرزهم غسّان كنفاني وناجي العلي.
(7) أصدرت الكاتبة الصيدلانيّة الفلسطينيّة ابنة مدينة الناصرة الجليليّة ناهد زعبي، والتي تقطن منذ سنوات عدّة في بيت لحم ومحافظتها، ما لا يمكن تسميته بتأريخ للنكبة الفلسطينيّة، وإن حَوَتْها، ولا بتدوين ذاكرة احداث وحوادث عائليّة ذاتيّة، وإن حَوَتْها، ولا بقصص قصيرة وإن حَوَتْهَا، ولا بصور شعريّة تنبض بالمشاعر، وإن حَوَتْهَا، ولا بلوحات فنيّة زيتيّة الألوان، وإن حَوَتْهَا، إنما هي كلّ هذا متداخلًا متفاعلًا، ينتقل إلى إدراك المتلقّي وأحاسيسه ليتفاعل به مع موروثه ومخزون ذاكرته، تتداور فيه نوايا الريشة بين الرسم بالكلمات وكتابة اللوحات، لذا أطلقت مجموعتها تحت تصنيف جانري: "لوحات سرديّة". فكان كتابها الذي صدر في حزيران 2021 (الناصرة- بيت لحم)، حيث تغطّي الغلاف لوحة للرسّام والنحّات الفلسطيني المبدع عبد عابدي.
وكان إهداؤها: "إلى ذاكرتكم... ومن وميض ذاكرتي... ليكتمل المشهد"
(8) لقد عاشت والدة الكاتبة، الفنّانة عناية الزعبي، في بيت عِلْم وثقافة يعبق بعراقة يافا، ورَسَمت لوحات زيتيّة، وقد ضَمَّنَت الكاتبة في كتابها صور فوتوغرافيّة ملوّنة للوحتين جميلتين، الأولى في الصفحة 42، وقد رسمتها (والدتها) عام 1947، لسفينة شراعيّة ترسو في ميناء يافا، تذكّرنا بأغنية الأخوين رحباني يغنّيها المطرب جوزيف عازر، أذكر يومًا كنت بيافا ، وكأنّها تتوقّع الآتي فتُخَلّد اللّحظة بحسّ فنّانة، قبل وفود القَدَم الهمجيّة، والثانية في الصفحة 70، رُسِمت أيضًا في يافا، ويظهر فيها وردة مجد الصباح ، والتي لم يكن اختيار هذه الوردة محض مصادفة، فهي توحي بالأجواء الثقافيّة الرّاقية التي سادت قبل النكبة، تحديدًا عام 1946. وانتقلت بلوحاتها إلى مدينة الناصرة في الداخل الفلسطيني بعد تهجير عائلتها من يافا. وقد وعدتنا الكاتبة بتنظيم معرض للوحات والدتها حال إشهار الكتاب.
لقد كان لعالم الألوان تأثيره على الكاتبة ناهد الزعبي، فجاءت صياغاتها لوحات سرديّة، بأسلوب متميّز تنبض فيه الألوان بين الكلمات.
لقد كتب كُثْرٌ عن نكبة الشعب الفلسطيني من زوايا مختلفة وأساليب متنوّعة لافتة متميّزة، وأحيانًا مملّة قاتلة بسبب التكرار، ممّا يجعل من الصعب الاستمرار بالكتابة عن النكبة بعد هذا الكم الهائل من الانتاج التراكمي بعد أكثر من سبعين عامًا. ورغم هذا نجحت الكاتبة بإبداع تقنيّة الرسم بالكلمات والكتابة بالألوان، ممّا خلق عناصر جذب للمتلقّي المطّلع على الأدبيات السابقة، وزادت من "متعته!" في التفاعل مع سرديّات النكبة.
(9) يتنقَّل النّص زمانيًّا من أطياف بدايات ما قبل النكبة إلى ما بعد اتفاقيات اوسلو، ويتنقّل مكانيًا في أشلاء الوطن، المُحتَل، المُمزق بين يافا والقدس والناصرة، بين قطاع غزّة والضفّة الغربيّة والارض المحتلة عام 48، راسمًا بريشة ناعمة جرائم العصر، وبأسلوب مميّز، ضمن تقنيّة اللوحة- النَّص، أو النَّص- اللوحة، له ما له وعليه ما عليه من نقد ممكن.
ويتساءل البعض، أو يتّهمنا بالاعتقاد بنظريّة المؤامرة، وهل هنالك مؤامرة كونيّة؟! وهل هنالك تزوير وأعماق تزوير؟! أم أنّه من نسج أفكارنا! وهل نبالغ في تخوّفنا وتصويرنا!
"لم يكن ونستون يعرف ما الذي يجري في تلك المتاهة غير المرئيّة.. وبمجرّد ما يتم إجراء التصحيحات التي تكون لازمة على أي عدد من أعداد التايمز حتّى تُعاد طباعته مع إتلاف النسخة الأصليّة لتحل مكانها النسخة المصحّحة في الملفّات المحفوظة، ولم يكن اجراء التعديل مقصورًا على الصحف وإنّما على الكتب أيضًا ومختلف أنواع الدوريات والنشرات والملصقات والمنشورات والأفلام والتسجيلات الصوتيّة وأفلام الصور المتحرّكة والصور الفوتوغرافيّة، وهذا يعني أنها تُجرى على أي نوع من أنواع الأدبيّات والوثائق ذات الأهميّة السياسيّة أو الأيديولوجيّة، وهكذا يومًا بعد يوم، بل دقيقة بعد دقيقة تقريبًا. لقد كان تحديث الماضي يجري بشكل مستمر.. وبذلك يتم تصحيح كلّ تنبُّؤ للحزب (الحاكم- زاهر) بالدليل الوثائقي فلم يكن يُسمح أن تظلّ في السجلّات أي خبر أو رأي قد يتعارض مع ما يحدث في اللحظة الراهنة، حتّى التاريخ كان يُمسح ويُكتب من جديد، ثم يُمحى وتُعاد كتابته كلّما دعت الضرورة إلى ذلك، وبالتالي لا يمكن إثبات أي تزوير فيما بعد.".
هذا ما كتبه جورج اورويل في روايته الشهيرة �׳ وكأنها تروي إلى حدٍّ ما ما حصل في معركة التوثيق والكم الهائل من التزوير الذي قامت به الحركة الصهيونيّة وأذرعها العسكريّة عن نكبة العام �׳، وطبعًا تشابه الأرقام مصادفة، لكن من شأنه أن يرفع من يقظتنا حول هذا الأمر.
وهذا الاقتباس، وإن كان أدبيًا، فإنّه لا يخلو من الحقيقة، لذا تبقى أهميّة إعادة نشر توثيق المرحلة بأَشكاله وإِشكاله، ويبقى دومًا متّسع لرفد هذا التوثيق عن النكبة المستمرّة، شريطة عدم التكرار الممل، وولوج الساحة بأدوات جديدة. ويبقى العصب الأساسي الذي يقود مواجهة التزوير وفضحه على المستوى العالمي ما يقوم به المفكّر العراقي د. فاضل الربيعي، وأعماله أشبه ببنية تحتيّة تحمل على أكتافها مجمل ما نشيّده من بنية فوقيّة حضاريّة. "وعندما ينسى الناس عمليّة التزوير" يصبح وجود أي شخص وهمي مُتخَيَّل "يماثل وجود كلّ من شارلمان أو يوليوس قيصر في صحّته وثبوته" (1984/اورويل).
(10) السرديّة العاشرة: "نَصّ بلا لون"، وهو نَصّ عاشر من بين واحدة وعشرين سرديّة، لأنّها تتحدّث عن عراقة ما قبل النكبة، عن الفترة العثمانيّة، فسرديّات الكتاب لا تسير بانتظام على محور الزمن كما يفعل المؤرّخ، فللسرديّات محورها الزمني الخاص، تمليه اعتبارات فنيّة- جماليّة، وكذا اعتبارات ادراكيّة لطفلة تحوّلت إلى كاتبة أدركت حسّيًّا ما عايشته، يُضاف اليه مع مرور الزمن طبقات ذاكرة الجيل الأوّل (الجدّ والجدّة) وذاكرة الجيل الثاني (الوالد والوالدة)، فكَتَبَتْ:
"هناك في اسطنبول دَرَس القانون، وهي دَرَسَت علم الاجتماع، أُخت عَلَمٍ من أعلام فلسطين، شيخ الإسلام الذي كان له مقام رفيع عند السلطان العثمانيّ".. " عادا إلى فلسطين وكوّنا أسرة كريمة، مارس مهنة المحاماة، فكان من أوائل المحامين في فلسطين وشرقيّ الأردن، وصاحب أول مكتب محاماة في الناصرة، كان مدافعًا عن أبناء عشيرته أمام الاحتلال(!) العثماني، ثم الانتداب البريطاني".. "إنهما جدّي وجدّتي"
رغم الجماليات في نصوص الكتاب، فإنّ على القراءة النّقديّة أن تُنعم النظر وأن تقوم بتفكيك وإعادة تشكيل مصطلحات ذوّتها الاستعمار فينا، وهنا تستعمل الكاتبة مصطلحًا متداولًا، ألا وهو "الاحتلال العثماني" وهو ما فرضه الاستعمار/ الإحتلال البريطاني والفرنسي وال"إسرائيلي!" في مناهج تعليمهم الإلزامية في مدارسنا العربيّة في الإقليم، وتداولته بعض التيّارات القوميّة العربيّة واليساريّة العلمانيّة في معرض مناكفاتهم السياسيّة مع التيّارات الإسلاميّة، وبالتالي تداولته النّاس وردّدته، ما بين موافق ومناهض. بحسب قناعاتي يجب إعادة النظر فيه واستبداله ب"فترة الحكم العثمانيّ"، ولن أثقل هنا على النّص.
ويوغل النّص في الذاكرة المتناقلة شفاهًا من جيل إلى جيل، فتَكْتُب:
"كنّا نسمع بحكايات أبي وتوثيقه للتاريخ الشفوي. كان حذرًا لئلّا ينسى أيّة معلومة، وكانت أمي تشاركه بتصحيح المعلومات.. وكانت تذكّره بأن والدها درس أيضًا في اسطنبول، وكان مفتّشًا للتربية والتعليم، ومديرًا لمدرسة في يافا، وأنّ أمّها تركيّة الأصل، كانت من محبّي الثقافة والفنّ. بيتها العامر في يافا كان مزارًا لحفلات الاستقبال لسيّدات يافا".
يوغل النّص حتّى يصطدم وجاهيًا بسرديّات التزوير التي ابتكرها الاستعمار البريطاني وكرّرتها ربيبته الصهيونيّة:
"كم جميل إصرارنا على العلم والحضارة.. لم يدخل المحتلّ إلى فراغ مزعوم، بل دخل أرض الحضارة والثقافة والعلم، وأهل العلم، والمحتوى، وصدّرنا الكفاءات إلى الخارج وملأنا العالم إنجازات".
من جهة، هذا يعيد لذاكرتنا عراقة فلسطين وعراقة مدنها وعلى رأسها القدس ويافا بجماليّة وحنين، ويموضع النّص كخلفيّة لإبراز بشاعة الإحتلال البريطاني وجرائم العصابات الصهيونيّة في النكبة والتهجير.
لقد بسطت الكاتبة العراقة في مخطوطات لوحاتها، فتجاوز النّص الأدبي تجريف الذاكرة، وبهذا تكمن أهميّة النصوص التوثيقيّة بأشكالها، وأهميّة تقنيّة الريشة الناعمة المستخدمة في سرديات هذا الكتاب، ضمن مشروع التصدّي الجَمْعِي، ولكن بصياغات جميلة جاذبة لا يمكن إلّا الوقوف عندها والتمعّن فيها.
(انتهى)
#زاهر_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (10)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (9)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (8)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (7)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (6)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (5)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (4)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (3)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان (2)
-
النكبة بين تجريف الذاكرة وذكريات الألوان
-
إِلَىْ الطَّاغِيَةْ وَالوَكِيْل
-
نَادَتْ فِلِسْطِيْنُ نِزَارَهَا فَلَبَّى/ إلى روح الشهيد نزا
...
-
يَرْنُوْ مَشِقًا
-
هَامَةَ الدَّيُّوْثِ الدَّائِصِ نُقَطِّعُهَا
-
رِمْشٌ دُرْبَتُهُ الرِّمَايَةُ
-
نتائج أوّليّلة مباشرة لسيف القدس
-
رشقات سيف القدس/ مهداة ألى الحراكات الشبابيّة الفلسطينيّة
-
تُلدَغون ثالثة ورابعة.. ممّا اقتضى التنويه.
-
عن إشكالية العلاقة بين الثقافيّ والسياسيّ… و«هأنذا ثالثنا» ل
...
-
من أجل تخليد ذكرى النّصر ليلة نزع المتاريس في القدس
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|