|
غريبان وغريب
سامي الكيلاني
الحوار المتمدن-العدد: 6954 - 2021 / 7 / 10 - 12:49
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة ما الاسم المناسب الذي يمكن أن تطلقه على هذا اليوم؟ بعد انقطاع عن الدوام في المكتب لليومين السابقين بسبب العاصفة الثلجية التي وصفتها مواقع الطقس بأنها الأسوأ لهذا العام، واستفادتك من هذا الانقطاع لقطع الطريق على رشح والتهاب حلق بسيط كان من الممكن أن يتماديا أكثر لنزلة صدرية لولا هذه الاستراحة التي جلبتها العاصفة. دائماً هناك وجه آخر للأمور، هناك مدخل للتشاؤل يا حبيبي، يا إميل حبيبي. لذلك وصلت المكتب (الغرفة) مملوءاً بحنين إلى الجلوس خلف المكتب (الطاولة) والعمل متنقلاً بين العمل على جهاز الحاسوب الراقد على سطح المكتب، أو "الديسكتوب" قبولاً بالاسم المتداول الذي لا تمانع من استخدامه لأن الأسماء ينبغي أن ترتبط بأصحابها، والعمل على الحاسوب المحمول بالحضن أو "اللابتوب" اعتماداً على قاعدة القبول ذاتها. الأول يحتوي ملفات قديمة أغلبها مراجع منزّلة من الشبكة العنكبوتية بطريقة شرعية حسب قوانين الملكية الفكرية مستفيداً من اشتراك مكتبة الجامعة، ولكن ينبغي الاعتراف بأن بعضها أيضاً نزّلت بطريقة احتيالية على تلك القوانين نكاية بالناشرين الذين يبالغون بثمن النسخ الإلكترونية لمنشوراتهم. تتنقل بين ملف وملف على صفحة اللابتوب فرحاً بهدية سماعات ترتبط بالحاسوب لاسلكياً، أي عبر "البلوتوث" قبولاً بالقاعدة ذاتها، فكم ستكون مضحكة لو ترجمناها إلى "السن الأزرق" وستكون ثقيلة دم إلى درجة كبيرة، هذه السماعات التي تمكنك من هذا الاستمتاع بالموسيقى أثناء العمل دون أن تكون مربوطاً بجهاز الكمبيوتر بسلك سماعات الأذن كما في السابق، فبها يمكنك أن تتحرك وتتابع غناء فيروز والحب الكبير كبر البحر وبعد السما، ثم تستمع إليها تشكو حبيبها المهمل الذي أهداها وردة فحافظت عليها فأهدته مزهرية لم يحافظ عليها فكسرت، فتضحك متسائلاً "لماذا تحبينه بعد كل هذه الإحباطات يا فيروز"، وتجيب نفسك أن لله في خلقه شؤوناً، خاصة حين يتعلق الأمر بالعشاق منهم. تستمتع بالموسيقى، شاكراً ولدك الذي أهداك هذه السماعات بمناسبة عيد الأب، فتفرح لأنه قد أصبح للأب عيداً كما للأم. تندمج في مراجعة مقال قديم تعمل على تحديثه استفادة من أمورٍ اطلعت عليها من أحد المراجع التي نزلت على قرص حاسوبك حلالاً زلالاً، كما يقال، دون أن تدري كيف يكون الحلال زلالاً. أشياء صغيرة تمسح بيد لطيفة على الروح فتجعلها تسترخي في السماء الكبيرة والبحر الكبير، الفرح بأن للأب عيداً، والفرح بسماعات البلوتوث التي تجعلك حر الحركة على عكس السماعات السلكية التي تربطك بالجهاز إن أردت الاستماع والعمل وتمنعك من التحرك في جو المكتب لتناول كتاب من الرف في الطرف الآخر من المكتب أو إن أردت وصول الباب لتفتحه لطارق يطرقه. أغلقت الموسيقى القادمة من موقع اليوتيوب مؤقتاً، أي عملت "بوز"، وقصدت المطبخ الصغير لتسخن غداءك في جهاز الميكروويف. وجدته هناك، ملامحه قريبة من ملامحنا، كان حائراً، يبحث في الرفوف عن شيء ما، لم تبادره بالسؤال عمّا يبحث، فالخصوصية هنا في هذا البلد محترمة إلى أبعد درجة وعلى طرف النقيض البعيد من حشريّتكم المعتادة هناك في بلدك، ولكنه بادر الحديث من تلقاء نفسه موضحاً بأنه يبحث عن مناديل أو مناشف ورقية. كانت كلماته بالإنجليزية تدل على أنه "غريب"، انتبهت لوجهه المتعرّق، بحثت معه عن المطلوب في خزائن المطبخ الصغير حيث تكون عادة المناشف الورقية، لم يكن هناك شيء منها. قلت له لديّ منها في المكتب ويمكن أن تعطيه، عدت إلى المكتب وأحضرت مجموعة من المناديل الورقية وناولته إياها. قال لك "أنا تركي، وأنت؟"، أجبت "فلسطيني"، أجاب "ما شاء الله" ثم أتبعها بإنجليزية "تشرفت"، وزاد في التوضيح بأنه على ما يبدو قد أخذ برداً بالأمس وأن هذا العرق ناتج عن حمى بدأ يشعر بها قبل بدء محاضرته، وبأنه لم يرغب الغياب عن المحاضرة، فتمنيت له الصحة والتوفيق. تذكرت أمرئ القيس، أجارتنا إنا غريبان هاهنا/ وكل غريب للغريب نسيب، وقلت له دون أن تسمعه ما قلت، أيها الشاب في عمر ابني كلانا غريبان هنا يا بني وكل غريب للغريب نسيب. وعدك بزيارة قادمة بعد أن أعاد شكره واستأذن للذهاب إلى محاضرته التي بدأت قبل دقائق. شعرت بالسرور وأنت ترى الارتياح على وجهه وتمنيت له من كل قلبك النجاح، واعتبرته صديقاً جديداً تتنظر مروره مرحباً به عندما يشاء. بعد ذهابه وضعت العلبة البلاستيكية التي تحتوي غداءك في الميكروويف وسخنته، حملتها وعدت إلى المكتب لتناول الغداء، وصوت فيروز "راجعين يا هوى" يطربك مع تلذذك بكل ملعقة تتناولها من الطعام. أنهيت طعامك، وتوجهت إلى دورة المياه القريبة لتغسل يديك وتفرشي أسناك. عدد من الطالبات يقفن قرب باب الدورة بشكل لا يدل على انتظار للدخول، تقترب فتسمع بكاء بصوت عالٍ خلف الباب المغلق، والطالبات في حيرة. تسألهن فيجبن أن زميلة لهن خرجت من المحاضرة فجأة تنشج ودخلت الدورة وأغلقت الباب واستمرت في بكائها منذ أكثر من عشر دقائق. تدق على الباب بلطف وتسألها "أأنت بخير؟ هل تريدين مساعدة؟"، فلم تجب، تعيد الدق على الباب وتعيد السؤال. كفّت عن البكاء، وخلال ثوانٍ فتحت الباب وخرجت وشكرت زميلاتها، وقالت إنها تريد أن ترتاح، فاقترحت عليها أن ترتاح في مكتبك. أسندتها اثنتان من زميلاتها وتوجهت معهما إلى المكتب، جلست على الكرسي وطلبت منكم أن تتركوها لوحدها لتجلس بهدوء. غادرت زميلتاها المكتب، وقمت بمناولتها مناديل ورق كافية لمسح بقايا الدموع، وخرجت. بعد وقت عدت إلى المكتب، كانت علامات الهدوء ظاهرة على تقاطيع وجهها الذي يشير إلى أنها من دول شرق آسيا. سألتها إن كانت ترغب بالحديث، وإن كان بإمكانك مساعدتها، بعد أن أخبرتها بتخصصك في العمل الاجتماعي، متوقعاً أن الحديث سيريحها إن كانت راغبة فيه، مهما كانت المشكلة التي أوصلتها إلى تلك الحالة من البكاء الشديد. أطرقت لوقت لعدة دقائق ثم تكلمت، شكرتك على المساعدة، وأضافت أنها من أصل صيني ومتبناة منذ طفولتها المبكرة هنا، ولا تعرف والديها ولا تعرف عن ثقافتها شيئاً وتتأزم عندما يسألها أحد عن تلك الثقافة بسبب شكلها، وأضافت أنها تأزمت لأن المحاضرة كانت عن موضوع التبني. استأذنت بالمغادرة بعد أن أكدت لك أنها ارتاحت وأنها ستعبر هذه التجربة الطارئة. أغلقت جهازيْ الحاسوب، وجلست على المقعد خلف المكتب واستدرت مولياً ظهرك للباب الذي أغلقته الطالبة عندما خرجت بناء على طلبك، وسرحت بنظرك من خلال النافذة، اختفت البيوت والمباني التي على الطرف الآخر من الشارع ولم يبق أمام ناظريك سوى فضاء واسع تملؤه صورة السماء المتلبدة بغيوم داكنة، وكأن الغيوم قد ابتلعت البيوت والمباني وابتلعت معها كل فكرة كنت تفكر بها وأبقت على فكرة واحدة: أي اسم يمكن أن تطلقه على هذا اليوم؟
#سامي_الكيلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نضجت-قصة
-
ما الذي يسبح في الهواء
-
في حافلة
-
سهلة كثير-قصة قصيرة
-
كائن مائي-قصة قصيرة
-
وعد المدينة-قصة قصيرة
-
فاتها القطار-قصة قصيرة
-
يدها الصغيرة-قصة قصيرة
-
الشيخ جراح فتح الأبواب
-
موعدان-قصة قصيرة
-
يلاّ يا تين-قصة قصيرة
-
الولد سرّ أبيه-قصة قصيرة
-
أذّن يا خطيب
-
يوم مشؤوم-قصة قصيرة
-
السيدة وارفة الظلال
-
ذليل-قصة قصيرة
-
مقعدان-قصة قصيرة
-
دفتر المفتشة-قصة قصيرة
-
ذات مطر ثقيل-قصة قصيرة
-
ضوء القصيدة-قصة قصيرة
المزيد.....
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|