الخبر مؤكّــدٌ : جان دمّو فارقَ الحياة ، في منفاه ( مَنْــساه ؟ ) الأستراليّ ، بـ " سيدني " ، أمسِ ،
الخميس 8 / 5 / 2003 – إذاً ، بدأت القصة …
***
لأقلْ إنني أريد البدء من ذلك النهار الذي أردنا فيه ( جليل حيدر وأنا ) أن ننصب خيمةً لـجان في حديقة منزل اليرموك ، حيث كان جليل وهاديا يسكنان .
كان جان دمّو _ كما أخبرَنا _ عبئاً ثقيلاً على قريبٍ له أو قريبةٍ ، في ضواحي بغداد القصيّـة ، وقد هدداه
بالطرد ( لا معنى هنا لإلقاء حقائبه في الشارع فهو بلا حقائب دوماً ) .
لكن جان لم يأخذ هذا الأمرَ ، شأنَـه مع الأمور الأخرى ، مأخذَ التنفيذ … هكذا خسرنا جميعاً أطروحةً جميلةً بحقٍّ !
***
في عمّــان ، مَـطالعَ التسعينيات ، كان يزورني يومياً تقريباً ، ومن يعرفون جان لهم درايةٌ بما تعنيه زيارتُـه !
قال لي في زيارته الأولى : هذا البيت ليس بيتك …إنه لنا !
- أنت تأمرني ، يا جان …
- أقول لك هذا البيت ليس بيتك !
كان يأتي صباحاً . نجلس في حجرة المكتبة . نتحدث حديثاً مشتتاً . منتقلين كالصواريخ العابرة ، من قارة إلى أخرى . لم يكن الحديث ذا نفعٍ ، لكنه كان مادةً منشطةً للخيال أو الخبَـل . أتعرف يا سعدي أنني كابتن فريق
في كرة القدم ؟
أخذوني إلى الجبهة ، وألبسوني بدلة الجيش الشعبي ، لأنني كابتن فريق في كرة القدم ، وكانوا يطعمونني دجاجاَ !
لكني لا أحبّ الجبهة والخنادق ، فأهرب ، بلا إجازة ، وأذهب لأشرب في اتحاد الأدباء . أسكرُ فأشتم سامي مهدي ، أقول له إن سعدي يوسف هو الشاعر . يضحك سامي مهدي ، لكني في اليوم التالي ، أستفيق ، لأرى أنني في مستشفىً للأمراض العصبية ، قريبٍ من اتحاد الأدباء …
أقول مبتسماً لحالي : هذا المكان خيرٌ من خنادق الجبهة !
لكنهم لا يبقونني في هذه النعمة طويلاً .
***
ويغيب عني جان أياماً ( نحن لا نزال في عمّـان ) ، وأنا لا أعرف ممّـن أستقصي أخباره ، فأنا أعيش شبه متوحِّـدٍ في العاصمة الأردنية ، ولا أكاد أغادر منعـزَلي .
وفي صباحٍ ما ، مبكِّـرٍ ، أفتح الباب المؤدي إلى الحديقة ، وإذا بي إزاء جسمٍ طريحٍ شبهِ هامدٍ …
إنه جان . أمضى ليلته مع أصدقاء أو معارفَ ، وفي الصباح لم يعرفوا أين يمضون به . لقد فعلوا خيراً إذ جاؤوا به
إليّ ، فأنا امرؤٌ صبورٌ ، محبٌّ لجان دمّــو .
المصيبة ليست هنا . إنها حين يفيق جان من ســكرته !
عيناه الضيّـقتان الماكرتان ( مكرَهما الخاصّ ) لا تنفتحان رأساً . إنهما مترددتان ، تكادان وترتدّان ، كأنهما ترفضان أن تنفتحا على عالمٍ بكل هذا القبح المركّــز . لا أظنّ أحداً تملّــى عيني جان : إنهما جميلتان زرقاوان
بالرغم من ضيقهما وطول إطباقهما بسبب نعاس الـمَـخْـمَـرةِ المقيم أبداً .
أستعين بصوتي لإيقاظه ، ثم بيدي ، ثم بكلتا يدَيّ …
هل أرشّــه بقليلٍ من الماء ؟
أخيراً ، يتململ جان ، متمهلاً ، مدمدماً ، لاعناً ، يلتقط من جديدٍ أطرافَه المتناثرة ، ليعود جسماً على شاكلة أجسام البشر الفانين .
أمضي به إلى المغتسَــل ، وهو راغمٌ ، أساعده في انتزاع أسماله الملتصقة بجسمه ، وآتيه بمنشفة . أفتحُ الماء الساخن ، وأنتظره في حجرة المكتبة المجاورة ، حيث سيقضي وقتاً . حجرة المكتبة ، بالمناسبة ، كانت مقامي ومنامي في منزلي الأردنيّ .
عادةً ، وفي حالاتٍ كهذه ، يقيم جان لديّ ، بين يومين إلى ثلاثة ، ثم أضطرّ إلى إعادته ، لأنني أريد أن أعود إلى
المألوف من عادات القراءة والكتابة والمنام .
لكن السؤال العجيب يظل عجيباً : إلى أين سآخذ جان ؟
هو : من لامكان ، إلى لامكان .
تقول له زوجتي بعد أن أفلحتْ في إدخاله السيارة ، سيّــارتها : إلى أين نأخذك يا جان ؟
يأتي الجواب دمدمةً ، وإشارةَ يدٍ غامضةً كأنها تلوِّحُ للجهات كلِّـها …
أخيراً ، نمضي به إلى وسط عمّــان حيث المقاهي .
وتأتي المعضلة الجديدة : كيف ينزل جان من السيارة ؟
هو لايستطيع أن ينزل لأنه متعتعٌ ، وهو لايريد أن ينزل لأنه لا يعرف تحديداً إلى أين يذهب ، بالرغم من أنه يسكن في نُزْلٍ ما بالمنطقة الشعبية من وسط المدينة .
وبين زحمة السيارات وأبواقها الزاعقة ، أنزلُ وأُخرجُ جان من السيارة بالتقسيط . كان حذاؤه ينحشر أوّلاً ،
ثم يستحيل ، هو ، إلى شبه هُلامٍ …
السيارات تزعق ، وشرطيّ المرور في عمّــان مهيبٌ ، وأنت في خضمِّ عمليةٍ كبرى .
يأتي الشرطيّ ، فتعتذر . الشرطيّ يقبل عذرك . لكنّ جان يفيق فجأةً ليشتم …
وتحبس أنفاسك حذراً .
يخرج جان من السيارة ، تراقبه وهو يقطع الشارع إلى الرصيف الآخر ، حيث المقهى والشبان العراقيون المعتزّون به دائماً ، والذين يكنّــون له احتراماً وودّاً أثيرَينِ .
***
ظلّت ذاكرة جان مشتتةً .
وفي داخل هذا التشتت كان الزمن حُــرَّ التداخل .
تفاجأ حين يتذكر جان نصّـاً كاملاً قرأه قبل ثلاثين عاماً ، مثل ما تفاجأ بأنه لايتذكر أين أمضى ليلة البارحة.
غير أني لحظتُ أن ذاكرته تحوم دائماً حول ما فيه جمالٌ وخيرٌ ومعرفةٌ وإبداعٌ .
العلاقة الأسترالية قد تبدو غريبةً ، لكنها ليست كهذا ، فللرجل أخٌ مقيمُ هناك منذ وقتٍ طويل ، وكان جان ينتظر عوناً من أخيه .
في أحد الأيام اتصلتُ هاتفياً بالرجل ( وكان من سكنة سيدني ) ، وقد أخبرتُه بقصة أخيه ، وظروف إقامته بعمّان،
وما إلى ذلك ، لكن الرجل ردّ عليّ بكل ودٍّ قائلاً : إنني أشتغل عاملاً في عملٍ صعبٍ من الصباح إلى المساء ، وأساعد عائلتي ، وأرسل مالاً إلى أخٍ لي سكّــيرٍ باليونان . أنا لاأتحمل عبءَ جان الذي تعرفه .
لكن جان دمّــو يريد الوصول إلى هناك …
جاءني مرةً في الصباح الباكر . قال إنه يجمع تبرعاتٍ ، بادئاً بي .
حسناً ، يا جان … لِـمَ التبرعُ ؟
• لأذهب إلى أندونيسيا .
- وماذا تفعل هناك ؟
- أعبرُ إلى أستراليا في زورق صيّــادين .
قدّم أوراقه إلى الأمم المتحدة ، مرفقةً بشهادةٍ مني تفيد أنه معارضٌ … إلخ ( يبدو أن شهادتي معترفٌ بها لدى مكتب الأمم المتحدة بعمّــان ) .
وهكذا سافر جان دمّو على نفقة الأمم المتحدة إلى أستراليا ، حيث سيلقي شقيقُه بحقيبته ( صارت لديه أخيراً حقيبةٌ ) إلى الشارع ، وحيث سوف يستقبله " غيلان" في منزله خير استقبال .
على أي حالٍ !
وأنا في لندن ، ربما قبل عامٍ ونصف عامٍ ، أو عامين ، هاتَـفَـني غيلانُ قائلاً إنه اضطرّ إلى إدخال جان في عيادةٍ
بمنطقة " الجبال الزرق " الجميلة لكن النائية ، مختصّــةٍ بمعالجة مدمني الكحول من الشعراء والفنانين .
قال غيلان أيضاً إن جان كان يشرب قنينة ويسكي كاملة كل يوم ، وربما زاد على القنينة …
آخر ما بلغني عن جان ، كان في أواخر شهر شباط 2003 ، حين قال في شبه مقابلة صحافية إن العراق يحتاج إلى رجّـة . وقد أشرت إلى قوله في مادةٍ نشرتها " السفير " .
***
الأثر الشعري المطبوع الوحيد الذي خلّــفه جان دمّــو كان كرّاس " أسمال " الذي تبرّع بطبعه الصديق
فاضل جواد ، المقيم حاليّـاً في الولايات المتحدة ، كما أعتقد . ومن الممكن أن لدى فاضل نصوصاً أخرى
ممّـا كتب جان دمّــو .
هل كان جان شاعراً ؟
أتذكرُ ما قاله عبد القادر الجنابي عنه :
شــاعرٌ بلا نصٍّ . نصٌّ بلا شاعر !
لندن 9 / 5 / 2003