أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي يوسف - جان دمّـو … إلى أين ؟















المزيد.....

جان دمّـو … إلى أين ؟


سعدي يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 483 - 2003 / 5 / 10 - 06:57
المحور: الادب والفن
    


                                                       

الخبر مؤكّــدٌ : جان دمّو فارقَ الحياة ، في منفاه ( مَنْــساه ؟ ) الأستراليّ ، بـ " سيدني " ، أمسِ  ،
الخميس 8 / 5 / 2003 – إذاً ، بدأت القصة …
***
لأقلْ إنني أريد البدء من ذلك النهار الذي أردنا فيه ( جليل حيدر وأنا ) أن ننصب خيمةً لـجان في حديقة منزل اليرموك ، حيث كان جليل وهاديا يسكنان .
كان جان دمّو _ كما أخبرَنا _ عبئاً ثقيلاً على قريبٍ له أو قريبةٍ ، في ضواحي بغداد القصيّـة ، وقد هدداه
بالطرد ( لا معنى هنا لإلقاء حقائبه في الشارع فهو بلا حقائب دوماً ) .
لكن جان لم يأخذ هذا الأمرَ ، شأنَـه مع الأمور الأخرى ، مأخذَ التنفيذ … هكذا خسرنا جميعاً أطروحةً جميلةً بحقٍّ !
***
في عمّــان ، مَـطالعَ التسعينيات ، كان يزورني يومياً تقريباً ، ومن يعرفون جان لهم درايةٌ بما تعنيه زيارتُـه !
قال لي في زيارته الأولى : هذا البيت ليس بيتك …إنه لنا !
- أنت تأمرني ، يا جان …
-  أقول لك هذا البيت ليس بيتك !
كان يأتي صباحاً . نجلس في حجرة المكتبة . نتحدث حديثاً مشتتاً . منتقلين كالصواريخ العابرة ، من قارة إلى أخرى . لم يكن الحديث ذا نفعٍ  ، لكنه كان مادةً منشطةً للخيال أو الخبَـل . أتعرف يا سعدي أنني كابتن فريق
في كرة القدم ؟
أخذوني إلى الجبهة ، وألبسوني بدلة الجيش الشعبي ، لأنني كابتن فريق في كرة القدم ، وكانوا يطعمونني دجاجاَ !
لكني لا أحبّ الجبهة والخنادق  ، فأهرب ، بلا إجازة ، وأذهب لأشرب في اتحاد الأدباء . أسكرُ فأشتم سامي مهدي ، أقول له إن سعدي يوسف هو الشاعر . يضحك سامي مهدي ، لكني في اليوم التالي ، أستفيق ، لأرى أنني في مستشفىً للأمراض العصبية ، قريبٍ من اتحاد الأدباء …
أقول مبتسماً لحالي : هذا المكان خيرٌ من خنادق الجبهة !
لكنهم لا يبقونني في هذه النعمة طويلاً .
***
ويغيب عني جان أياماً ( نحن لا نزال في عمّـان ) ، وأنا لا أعرف ممّـن أستقصي أخباره ، فأنا أعيش شبه متوحِّـدٍ في العاصمة الأردنية ، ولا أكاد أغادر منعـزَلي .
وفي صباحٍ ما ، مبكِّـرٍ ، أفتح الباب المؤدي إلى الحديقة ، وإذا بي إزاء جسمٍ طريحٍ شبهِ هامدٍ …
إنه جان . أمضى ليلته مع أصدقاء أو معارفَ ، وفي الصباح لم يعرفوا أين يمضون به . لقد فعلوا خيراً إذ جاؤوا به
إليّ ، فأنا امرؤٌ صبورٌ ، محبٌّ لجان دمّــو .
المصيبة ليست هنا . إنها حين يفيق جان من ســكرته !

عيناه الضيّـقتان الماكرتان ( مكرَهما الخاصّ ) لا تنفتحان رأساً . إنهما مترددتان ، تكادان وترتدّان ، كأنهما ترفضان أن تنفتحا على عالمٍ بكل هذا القبح المركّــز . لا أظنّ أحداً تملّــى عيني جان : إنهما جميلتان زرقاوان
بالرغم من ضيقهما وطول إطباقهما بسبب نعاس الـمَـخْـمَـرةِ المقيم أبداً .
أستعين بصوتي لإيقاظه ، ثم بيدي ، ثم بكلتا يدَيّ …
هل أرشّــه بقليلٍ من الماء ؟
أخيراً ، يتململ جان ، متمهلاً ، مدمدماً ، لاعناً ، يلتقط من جديدٍ أطرافَه المتناثرة ، ليعود جسماً على شاكلة أجسام البشر الفانين .
أمضي به إلى المغتسَــل ، وهو راغمٌ ، أساعده في انتزاع أسماله الملتصقة بجسمه ، وآتيه بمنشفة . أفتحُ الماء الساخن ، وأنتظره في حجرة المكتبة المجاورة ، حيث سيقضي وقتاً . حجرة المكتبة ، بالمناسبة ، كانت مقامي ومنامي في منزلي الأردنيّ .
عادةً ، وفي حالاتٍ كهذه ، يقيم جان لديّ ، بين يومين إلى ثلاثة ، ثم أضطرّ إلى إعادته ، لأنني أريد أن أعود إلى
المألوف من عادات القراءة والكتابة والمنام .
لكن السؤال العجيب يظل عجيباً : إلى أين سآخذ جان ؟
هو : من لامكان ، إلى لامكان .
تقول له زوجتي بعد أن أفلحتْ في إدخاله السيارة ، سيّــارتها : إلى أين نأخذك يا جان ؟
يأتي الجواب دمدمةً ، وإشارةَ يدٍ غامضةً كأنها تلوِّحُ للجهات كلِّـها …
أخيراً ، نمضي به إلى وسط عمّــان حيث المقاهي .
وتأتي المعضلة الجديدة : كيف ينزل جان من السيارة ؟
هو لايستطيع أن ينزل لأنه متعتعٌ  ، وهو لايريد أن ينزل لأنه لا يعرف تحديداً إلى أين يذهب ، بالرغم من أنه يسكن في نُزْلٍ ما  بالمنطقة الشعبية من وسط المدينة .
وبين زحمة السيارات وأبواقها الزاعقة ، أنزلُ وأُخرجُ جان من السيارة بالتقسيط . كان حذاؤه ينحشر أوّلاً ،
ثم يستحيل ، هو ، إلى شبه هُلامٍ …
السيارات تزعق ، وشرطيّ المرور في عمّــان مهيبٌ ، وأنت في خضمِّ عمليةٍ كبرى .
يأتي الشرطيّ ، فتعتذر . الشرطيّ يقبل عذرك . لكنّ جان يفيق فجأةً ليشتم …
وتحبس أنفاسك حذراً .
يخرج جان من السيارة ، تراقبه وهو يقطع الشارع إلى الرصيف الآخر ، حيث المقهى والشبان العراقيون المعتزّون به دائماً ، والذين يكنّــون له احتراماً وودّاً أثيرَينِ .
***
ظلّت ذاكرة جان مشتتةً .
وفي داخل هذا التشتت كان الزمن حُــرَّ التداخل .
تفاجأ حين يتذكر جان نصّـاً كاملاً قرأه قبل ثلاثين عاماً ، مثل ما تفاجأ بأنه لايتذكر أين أمضى ليلة البارحة.
غير أني لحظتُ أن ذاكرته تحوم دائماً حول ما فيه جمالٌ وخيرٌ ومعرفةٌ وإبداعٌ .

العلاقة الأسترالية قد تبدو غريبةً ، لكنها ليست كهذا ، فللرجل أخٌ مقيمُ هناك منذ وقتٍ طويل ، وكان جان ينتظر عوناً من أخيه .
في أحد الأيام اتصلتُ هاتفياً بالرجل ( وكان من سكنة سيدني ) ، وقد أخبرتُه بقصة أخيه ، وظروف إقامته بعمّان،
وما إلى ذلك ، لكن الرجل ردّ عليّ بكل ودٍّ قائلاً : إنني أشتغل عاملاً في عملٍ صعبٍ من الصباح إلى المساء ، وأساعد عائلتي ، وأرسل مالاً إلى أخٍ لي سكّــيرٍ  باليونان . أنا لاأتحمل عبءَ جان الذي تعرفه .
لكن جان دمّــو يريد الوصول إلى هناك …
جاءني مرةً في الصباح الباكر . قال إنه يجمع تبرعاتٍ ، بادئاً بي .
حسناً ، يا جان … لِـمَ التبرعُ ؟
• لأذهب إلى أندونيسيا .
- وماذا تفعل هناك ؟
- أعبرُ إلى أستراليا في زورق صيّــادين .

قدّم أوراقه إلى الأمم المتحدة ، مرفقةً بشهادةٍ مني تفيد أنه معارضٌ … إلخ ( يبدو أن شهادتي معترفٌ بها لدى مكتب الأمم المتحدة بعمّــان ) .
وهكذا سافر جان دمّو على نفقة الأمم المتحدة إلى أستراليا  ، حيث سيلقي شقيقُه بحقيبته ( صارت لديه أخيراً حقيبةٌ ) إلى الشارع ، وحيث سوف يستقبله " غيلان"  في منزله خير استقبال .
على أي حالٍ !
وأنا في لندن ، ربما قبل عامٍ ونصف عامٍ ، أو عامين ، هاتَـفَـني غيلانُ قائلاً إنه اضطرّ إلى إدخال جان في عيادةٍ
بمنطقة " الجبال الزرق " الجميلة لكن النائية ،  مختصّــةٍ بمعالجة مدمني الكحول من الشعراء والفنانين .
قال غيلان أيضاً إن جان كان يشرب قنينة ويسكي كاملة كل يوم ، وربما زاد على القنينة …
آخر ما بلغني عن جان ، كان في أواخر شهر شباط 2003 ، حين قال في شبه مقابلة صحافية  إن العراق يحتاج إلى رجّـة . وقد أشرت إلى قوله في مادةٍ نشرتها " السفير " .
***

الأثر الشعري المطبوع الوحيد الذي خلّــفه جان دمّــو كان كرّاس " أسمال " الذي تبرّع بطبعه الصديق
فاضل جواد ، المقيم حاليّـاً في الولايات المتحدة ، كما أعتقد . ومن الممكن أن لدى فاضل نصوصاً أخرى
ممّـا كتب جان دمّــو .
هل كان جان شاعراً ؟
أتذكرُ ما قاله عبد القادر الجنابي عنه :
شــاعرٌ بلا نصٍّ . نصٌّ بلا شاعر !
                                                          لندن 9 / 5 / 2003



#سعدي_يوسف (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منطقُ الطَّـيْـطَــوَى
- أجوبةٌ إلى - أخبار الأدب- القاهريّــة
- قلتُ : أعودُ إلى الألوانِ المائيّــةِ
- توضيــــح
- الخوَنةُ ، خدمُ الجنرال المتقاعد غارنر مسؤولون عن مذبحة الفل ...
- آيةُ الله … كنعان مكّــية
- الجــــمعـــة اليتـــيمـــة
- ابتدأت معركة التحرير
- الجـــنرال الأصلع و طابورُه
- الفالاشا العراقية ودرس الخوئي
- أنا العراقيّ ، كيف أستعينُ بنفسي …
- الطّــوافُ بالمقاهي الثلاثة
- مصـطــفى
- يومٌ في منتهى الغرابة
- - العراقيون C.I.A - مثقفو الـ
- بغداد ON / OFF
- أوراقُ التينِ اليابسةُ
- عن العراق الذي لم يكنْ
- نشــيدٌ شــخصــيٌّ
- بــيــزنــطــة


المزيد.....




- صلاح الدين الأيوبي يلغي زيارة يوسف زيدان إلى أربيل
- من الطوب الفيكتوري إلى لهيب الحرب.. جامعة الخرطوم التي واجهت ...
- -النبي- الروسي يشارك في مهرجان -بكين- السينمائي الدولي
- رحيل الفنان والأكاديمي حميد صابر بعد مسيرة حافلة بالعلم والع ...
- اتحاد الأدباء يحتفي بالتجربة الأدبية للقاص والروائي يوسف أبو ...
- -ماسك وتسيلكوفسكي-.. عرض مسرحي روسي يتناول شخصيتين من عصرين ...
- المسعف الذي وثّق لحظات مقتله: فيديو يفند الرواية الإسرائيلية ...
- -فيلم ماينكرافت- يحقق إيرادات قياسية بلغت 301 مليون دولار
- فيلم -ماينكرافت- يتصدر شباك التذاكر ويحقق أقوى انطلاقة سينما ...
- بعد دفن 3000 رأس ماشية في المجر... تحلل جثث الحيوانات النافق ...


المزيد.....

- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي يوسف - جان دمّـو … إلى أين ؟