|
ترنيمة فتحي عبدالله الأخيرة: القصائد المخطوطة بقلم/ مؤمن سمير.مصر
مؤمن سمير
شاعر وكاتب مصري
(Moemen Samir)
الحوار المتمدن-العدد: 6903 - 2021 / 5 / 19 - 02:35
المحور:
الادب والفن
يعد ديوان "يملأ فمي بالكرز" الصادر عن دار "الأدهم" إبان وفاة الشاعر الراحل فتحي عبدالله صباح يوم الخميس 18 فبراير2021، هو ديوانه السادس وعمله الأخير المنشور، بعد دواوين: راعى المياه-هيئة الكتاب1993، سعادة متأخرة -هيئة الكتاب1998، موسيقيون لأدوار صغيرة-هيئة قصور الثقافة2000، أثر البكاء-هيئة قصور الثقافة 2004، الرسائل عادة لا تذكر الموتى– منشورات الدار 2007 لكن شاعرنا الراحل أعلن على صفحته الشخصية على فيس بوك أنه انتهى من ديوان جديد أطلق عليه اسم(للجبل رعاة لا ينامون) وأنه سيقوم بنشر قصائده تباعاً وبالفعل قام بنشر سبع قصائد من الديوان المذكور ثم دخل في أزمته الصحية الأخيرة فتوقف بالتالي نشر القصائد ثم وافته المنية للأسف لنفقد شاعراً حقيقياً وإنساناً نادراً.. واحترازاً من تأخر ورثة أو أصدقاء الراحل الكريم في نشر قصائد هذا الديوان المخطوط، رأيت أن أنسخ هذه القصائد السبع وأن أكتب لها هذه المقدمة رغبة في تثبيت وجود هذه القصائد في دفتر الشعر المصري وكذلك الإشارة ولفت النظر إلى ما حوته من تميز وجمال.. تتبدى قصائد الديوان المخطوط (للجبل رعاة لا ينامون) للراحل فتحي عبدالله (المولود عام 1957والتي تنتمي تجربته الشعرية لما تم التعارف على تسميته بجيل الثمانينات الشعري الحداثي) باعتبارها شاهداً على مرحلة خاصة بحق وفاتنة، ربما في سبورة الشعرية العربية المترامية، قوامها الاقتحام والفتح العارم والشبقي لبوابات الخيال المشرعة عادةً على استحياء، لكنها الماكرة العصيَّة طول الوقت، ورفدها بطاقة خلاقة ونهمة للتحليق والاقتحام وصولاً للكشف والاكتشاف واللمس والذوق ثم الرشف حتى الثمالة، مما يضخ الدماء الفوارة في عروق الشعرية ويضاعف قدرتها بالتالي على قنص أرواح وكيانات وتواريخ وحيوات رعوية: أعرف أن حبيبتي في صحراء و حولها رعاة يشعلون النيران في ملابسها التي تحملها فارفع ذراعي لغيمة قريبة وأهرب إلى كهف بعيد.. وكأنما ارتأت هذه الروح الشعرية الجسورة أن تعيدُ الخلق كلما يبزغ النور على الكون المنظور وصنوه الخفي، وأن تقتات على روح الشعر الشفافة، البدائية والسحرية والوحشية، وتفكك أنماطها وأحلامها وكوابيسها وأنقاضها الملونة العجائبية: نسمع في أول الجبل طبولاً وحشية وندفن أعضاءنا في الرمال وتقبض على رأسي بيديها الصغيرتين وتغني بصوتها الذي يخطف الطير فأرى أعناقاً مقطوعة و ريشاً على رأس أسد.. هذا الاندياح الفني الفياض، الذي يبدو من قوة وحِدَّة وعرامة انطلاقه، وكأنهُ غير محسوب ولا متماسك ولا يخضع مطلقاً لأي حسابات للقبض والتأطير على هيئة عمل فني أو جسد محدود بتراتبيته وحيّزه المكاني والزماني و الفني الجمالي، يمكننا أن نعده وشماً أو خصيصة جمالية تمثل بصمة الراحل الأسلوبية، التي توزعت بامتداد دواوينه الأسبق ثم وصلت لأعلى درجات انفلاتها وبالتالي تميزها، في هذه القصائد المخطوطة بعد أن اختبرت هذه العرامة سابقاً في "يملأ فمي بالكرز": الساحر خلع قبعته وأخرج صقرين أمام الخيمة التي ننام بها و قال: لا يخرج من هنا ملاكم أو لاعب بالطيور فقبضت حبيبتي على عود القصب و قالت: لا يمكن أن نترك الحزام على حاله أريد أن أزور الضحية والرمال تغلق النافذة وهلالي تملؤه الرغوة البيضاء فأين المحفظة التي ورثها المقتول في أول الجبل.. و يتضح جلياً أن قصائد ديوان "يملأ فمي بالكرز" تشترك مع هذه القصائد المخطوطة، وكأنما هي حالة أو رؤية للعالم عبر منافذ متجددة، لكن مساحتها اتسعت لتجربتيْن أو ديوانيْن ينبعان من نفس الروح والتوجه الفني خاصة قيمة تصدير الحسية و أسطرة الحالة الشبقية: يؤلمني هلالي هذه المرة فقد أهملته كثيرا و أريد أن أدخل أصابعي في الرمل وأقضم الحشائش المبلولة وأفرح بالرغوة البيضاء على ظهري وأخلع سروالي أمام الشمس في نشوة فإذا جاء الطوفان ولم أدرك السفينة أنام على ذراعيك في خوف و تأخذني إلى شجرة لا تأتي الطيور لها وتسمع الصدقات بين حين و آخر وننزع حمالة النهدين ونذهب إلى فراش من الرمل حتى الصباح.. ثم رفد هذه القيمة الجمالية وتغذيتها بكل ما هو متاح أو مُخْتَرع، بدءاً من الصحاري و التواريخ: لقد خطفوها من أعلى الجبل ولفوها بالملاءة الحمراء و قرؤوا على جثمانها الممزق لفائف(قمران) ولم تجد قمحها كما قالوا ولا أكياس الذهب.. و مروراً بالأساطير و الحكايات وحتى الرموز الثقافية: فقد رأي (ابن عربي) إليتها على صدري وأنا أقرأ فصوصه على شمعة ضعيفة أدعو أن تقوم على أول الجبل فالرحلة في أولها ولا ذراع لي.. نحن في ترنيمة فتحي عبدالله الأخيرة، الأكثر اقتراحاً جمالياً وجنوناً خاصاً في الحقيقة- بإزاء نصوص طائرة ومحلقة للأعلى وللأسفل معاً، في سموات الآلهة والأنبياء والأولياء والأقطاب وزعماء وكهان القبائل، وفي نفس اللحظة الشعرية، في باطن الأرض الأولى، حاملة الحكايات والأساطير والترانيم: فأنا عاصفة سوداء تأخذ العظام المكسورة إلى بئر لا يعرفها أحد وتغطس بين الدلافين في غمضة عين وتخرج بالخاتم الضائع.. مع الجدات والحبيبات والجنيات و الدراويش والراقصين والخائفين طول الزمن الحالمين بالتماس النبع من بين أصابع العارفين الباحثين عن السلوى في الحب أو وسط الجماعة البشرية الحاضنة أياً كان شكلها أو مكوناتها الثقافية: تتبعني المجندة الشقراء في البراري وأنا لا صقور لي وتقرأ صحائفها أمام البوذيين في كبرياء لا حدود له لا تقترب من سفينة المهربين إلا بإشارة مني.. وكأن هذه النصوص طيور خرافية لها القدرة على استخدام السكين وإسالة الدم، لكنها لا تزيل إلا الزوائد غير المنتجة مثل التواريخ المزيفة والذكريات التي ثبت عجزها عن تجديد أجنحتها لصالح قلب الإنسان الحقيقي: ربما خطفها حارس الرؤوس وأنزلها إلى بئر عميقة وتنتظر الأدلاء من مهاجر صغير يطرد الذباب عن حوضها ويبكي على العشب حتى تعود وحملها وراء ظهره حتى يرى القمر نصفين فيخلع قلنسوته السوداء وينادي على روحي التي مزقوها في الحرب فكيف أمشي على الجماجم و العظام والضحية تتبعني من سوق لآخر و لا أرى مَلاكي إلا من المؤخرة.. إنها قصائد منفلتة، متوحشة وعارية، لا تتغيا إلا الوصول إلى كل ما هو جوهري وحقيقي وصافي ومتوهج وصادق .. إن الروح الفنية المتأرجحة بين السيريالية و الدادائية هنا، تجمع بين أطراف وأهداب وأعراف الوجود والتواريخ والذكريات والأصوات والأفكار والروائح واقتراحات رتق خيوط العالم الممزقة ..الخ بأداء عفوي لا افتعال فيه ولا تغريب رغم الجمل التي تبدو وكأنها ممزقة الأنفاس أو مقطعة الأوصال بل هو الصدق فقط، حتى لو كان صدق الحواس التي انفلتت أخيراً من عقالها الخانق، فصارت هي الروح المنفتحة على تشوشها البديع وذاكرتها الملتهبة البليغة، وحواسها العرفانية الباطنية التي تذوق وتعرف: فيأخذني المنشد الأعمى إلى حلقة البوذيين ويضحك من الإشارات المفضوحة حبيبي شارته خضراء ويضع رأسه على بطني.. وصارت كذلك هي البلاغة المنفتحة، باندياحها وشجاعة خيالها ومكره وتحفزه، على جميع البلاغيات ولكن بالضد والعكس و النقيض.. ربما وصل هذا الشاعر الكبير بديوانيه الأخيرين، المنشور منهما و المخطوط، إلى ذروة تميزه في هذه الشعرية التي يقدمها نصه بالتحديد في ديواننا العربي الحديث.. وربما تبقى هذه القصائد بمثابة محفز جمالي للحفر في مجمل أعماله وإعادة اكتشاف ترنيماته ورؤاه الفنية، بعد اكتمال همسه وصراخه وبوحه الفني بالرحيل الفيزيقي.. تلك النصوص التي ربما، لم تعطي نفسها لنا نحن المتلقين، نظراً لطبيعتها المراوغة، بما يكفي ويليق بتميز التجربة الشعرية التي خرجت من رحمها وخصوصيتها، حتى الآن..
#مؤمن_سمير (هاشتاغ)
Moemen_Samir#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر والقضايا الكبرى بقلم/ مؤمن سمير. مصر
-
-فأسٌ و حفراتٌ في اللحم- أوكار اللعب مع الحياة-: كتاب جديد ل
...
-
موقف الذات وتأسيس ملامح الخطاب الشعري في ديوان -بلا خبز ولا
...
-
- الروائي يهزُّ رأسه بمكرٍ و الشاعرُ يرتعش
-
رياض باشا شحاتة، رائد الفوتوغرافيا المصرية بقلم/ مؤمن سمير
-
مسرحيتان قصيرتان من مجموعة-صانع المربعات ومسرحيات أخرى- للكا
...
-
الشعر كاهن اعترافي ..
-
وحيد الطويلة .. نظرة الرائي العليم بقلم / مؤمن سمير
-
الشاعر مؤمن سمير: أحرقُ مسودات أعمالي حتى أنجو ..حوار نضال م
...
-
-الذي ينامُ فيرتعد- شعر/ مؤمن سمير.مصر
-
-الستائر- شعر / مؤمن سمير.مصر
-
ديوان -سلة إيروتيكا تحت نافذتك- لمؤمن سمير.. رقصة حسية بتجلي
...
-
«حكاية بنى سويف الجميلة».. كتاب جديد للشاعر مؤمن سمير ..بقلم
...
-
الشاعر مؤمن سمير: أشكال الكتابة لا تتوقف عن التطور..حوار:حسي
...
-
كتاب -الأصابع البيضاء للجحيم -:هو الشعر مهما تناسوا: سيرة ال
...
-
-حزام البهاء حسين- بقلم/ مؤمن سمير.مصر
-
مفهوم المثقف وإبداعات الثورة
-
-حيزٌ للإثم- مجموعة الشاعر المصري مؤمن سمير:الساحرة الشريرة
...
-
ملاحظتان نقديتان حول ديوان -سلة إيروتيكا تحت نافذتك - للشاعر
...
-
شاعر يرى الكتابة قلقا ولعبا ومجازفة،مؤمن سمير:قصيدة النثر قا
...
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|