غانم عمران المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 6887 - 2021 / 5 / 3 - 02:58
المحور:
الادب والفن
اكتسبت الرواية الإجتماعية العراقية طابعاً فنياً واقعياً بعيداً عن الخيال والغوص في أعماق الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع الذي يُحيط الراوي (المؤلف) وبذلك يكون مُنتَجه انعكاساً لكل التمظهرات الخارجية النفسية والاجتماعية الخاصة والعامة وواقع البلد الذي يعيش فيه لذلك جاءت رواية " فتاح فال " للروائي عباس الحداد الصادرة من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2020 لتُمثّل حقبة زمنية حرجة جداً في تاريخ العراق هي فترة ما قبل سقوط النظام الدكتاتوري واستمرت أحداث الرواية إلى ما بعد السقوط بشخصيات متعددة تحمل وجهات نظر وأيديولوجيا متشابهة لكنها تختلف عن أديولوجيا المكونة لمحتوى النص الأدبي الذي يفصح عن الواقع وليس الخيال بإتجاهات فكرية يستطيع القارىء تحديد مَسارها من خلال العناوين الفرعية التي لجأ إليها الراوي بطريقة الحوار المنطقي لنقل الأحداث بأسلوب جميل متسلسل في الزمان ومتطابق مع الأمكنة التي أختارها الراوي محطةً لتمرير الصراعات النفسية والفكرية بين فئتين الفئة الحاكمة وما يتبعها من أزلام النظام البعثي والفئة المغلوب عليها وهم أغلبية الشعب..
فتاح فال" عنوان مُثير ومحفز للمتلقي لما يحمله من دلالة لغوية مدلوها متغيب في متن النص الأدبي حيث أن المضمون يُشّكل صورة حسيّة حركية لها أبعاد لغوية تشير إلى دلالة العنوان حيث أن العنونة تُمثّل الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل الرواية وما تتضمنه من شخصيات وأفكار و دلالات ومعاني والزمان والمكان..
جاء العنوان منسجماً مع صورة الغلاف الخارجي للكتاب الذي يمثل كَفيّ اليدين التي يستخدمها الفتاح فال في ممارسة عمله " فتاح فال" يشير إلى التعالق بين العنوان باعتباره المدخل الرئيسي ومفتاح الرواية وعتبتها الأساسية وبين النص الأدبي طريقاً يمنح المتلقي القدرة على التأمل والتحليل وفك شفرات البناء الداخلي والبنية النسقية للنص أما الإهداء فكان مُحدد وشخصي إلى " سهيلة عرافة قلبي..
أما الاستهلال ( أنا لم أقتل عجوزاً, بل قتلت نظاماً) فكان يُمَثّل تنويهاً فكرياً واسعَ الدلالات المؤجلة إلى حين أكمال قراءة الرواية والوقوف تأملاً على القيّمة الفنية الابداعية للمُنتج..
امتاز الكاتب بأسلوب سرّدي يتسم بالحبكة الفنية والمراوغة وشّد القارىء عن طريق إحداث صدمة أوليّة في مُخيلته حيث بدأ روايته بعنوان فرعي " نورا " حديث الأنا الباعث إلى الشفقة والحزن على صديقتها سعاد تلك الفتاة البسيطة الطيبة التي أحبتها من كل قلبها كما في حديثها " فكانت نعم الأخت والصديقة التي غمرتني بسمو أخلاقها وفيض حنانها" 1.
بين الكاتب من خلال حديث نورا بأن مكان وفاة صديقتها سعدية هي مدينة القاسم في محافظة بابل, ويستمر القارىء في تتابع الحدث ووصف حالة الميت عند وضعه على المنصة الكونكريتية وقيام المُغسّلة بطقوس الغسل لحين الصدمة المفاجأة التي أسس لها الكاتب وهي من أروع النهايات المشوقة والمُثيرة للرواية التي بدأ فيها الكاتب وهو صيّاح المُغسّلة " صرخت بصوتٍ مبحوح مليء باللوعة والحقد أبعدنّ رجلكم هنا وأرموه عند مغتسل الرجال" 2.
من خلال هذه الصدمة التي أحدثها الكاتب يتبين بأن سعاد لم تكُ من النساء وإنما رجل فمن هنا تبدأ مرحلة البحث والتقصيّ والشّد الذهنيّ والعصف الذي تلقاه المتلقي منذ اللحظة الأولى للرواية, كما أنه أشار بطريق غير مباشر إلى المكان الذي ماتت فيه سعاد وتبين بأنها رجل..
استطاع الكاتب عِبْر تقنيات تجديدية اتسمت بالإبداع والحَرفيّة الروائية والملكَة في الجريّان السرّدي الواقعي الذي يواكب مجريات ومعطيات المجتمع العراقي واستنهاض الماضي عن طريق ذاكرته النَشطة الفعال والقادرة على صياغة وبلورة الأحداث في حُلّةٍ جديدة لها الأثر البالغ في اخراج المكبوت الجمعي للفرد العراقي ولاسيما من عاصر النظام السابق حيث كان الأجال السابقه ومنهم الكاتب تراكمات وتركة ثقيلة مُحملة بالأوجاع والمآسي والهموم لفترة طويلة طبعت آثار مخالبها على جسد كل عراقي شريف وأصبحت كالوشمّ الذي لا يمحيّه إلا الموت وأصبحت التركة الثقيلة مادة أدبية دسمّة تطوّف فيها الأفكار كالنجوم في السماء حيث " أنَّ الفكرة أسبق من الكتابة واللغة أسبق من الدلالة والدلالة الجزئية تتشكل من اتساق عام يعطي المعنى الكلي على اعتبار تحليل مضمون الرسالة الإتصالية لدلالة كلية ماهيتها جوهر النص حين تحليله وليس حصيلة ناتجة عن لغات وثقافات أخرى" 3.
انتقل الكاتب إلى عنوان آ خر " سعدون " وعندما تسترسل في القراءة وتمثيل سعدون دور المقدم والرفيق في الحزب الصدامي وحالة الرُعب والخوف والقلق التي انتابت الأجهزة الحزبية والأمنية لحظة دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد وكانت على لسان سعدون الذي يبين لنا بأنه تعلم على يد والد زوجته " سبهان العلي " ويصف لنا حالة الهلع والخوف وكذب الإعلام على المواطن العراقي البسيط من خلال تصريح وزير الإعلام سعيد الصحاف وهو يصف قوات التحالف ب( العلوج)4.
ينتقل بسرّدٍ فني وبراعة سلسلة الأحداث والقتل والدمار الذي ساد في بغداد وجميع المحافظات العراقية من الانتقام من أزلام النظام السابق ثأراً لمن قُتل من ذويهم وحجم الألم والمُعاناة التي لحقتهم من جراء قمعهم وإجرامهم بحق أبناء الشعب..
ومنذ بداية الرواية وضع الكاتب خطوطاً لمكان الحدث والموقع الجغرافي والبيئة التي تدور فيها أحداث الرواية عن طريق تحريّك المخيال الجمعي للفرد العراقي واستنهاض المخفيّ وتهيّج الجروح التي لا تندمل أبداً..
انطلق الكاتب من التمظهرات الاجتماعية والنفسية الخاصة والعامة النابعة من رحم المجتمع الذي يُشكل العنصر الفعال في تكوين الأفكار وصقلها بمهارة معرفية وخلفية ثقافية واخراجها بإطار تجديدي يمر عِبْر عملية اتصالية مفادها المتلقي عن طريق "انبثاق الصورة الواعية من الجوهر للخارج بمؤثر اشتغالي نفسي يثير دهشة المتلقي ويسعى لإنشائه مُنتِج العمل كإبداع جديد له اسهام خاص تعالقياً بمسيرة الثقافة الإنسانية لحصول حالة تبنّي من الآخرين لذلك الانبعاث هذا التحديد ..." 5.
تستمر احداث الرواية بهروب الرفيق سعدون من بغداد إلى مسقط رأسه مدينة الإمام القاسم عليه السلام تاركاً زوجته وأولاده وسط الفوضى والقتل وحديثه " عذبتني بضع أسئلة لا تنتظر إجابة : ترى ما مصير النقطة التي كنا نحرسها ؟ وما مصير المجموعة ومسؤولها العقيد هاشم ؟ هل عادت أحداث عام 1991 واستيقظ الغوغاء ثانية من سباتهم بملابسهم البالية, ووجوههم الكالحة ؟ وزوجتي بلقيس المسكينة الوديعة هل أكلتها النيران, أم حملتها الأشباح كصيد ثمين ؟ " 6.
اتخذ الكاتب من أبطال الرواية عناويناً فرعية كما في " نورا, سعدون, شريفة, بلقيس " وهم يمثلون الشخصيات الرئيسية التي تدور الأحداث حولهم فكل بطل يتحدث بلسانه عن طريق الخطاب المونولوجي حيث أن الظروف التي مرَّ بها العراق من أحداث ساخنة متتالية وتحولات فكرية وانقلاب في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كان لها الأثر الكبير في بلورة الأفكار لدى الروائيين العراقيين واتجاههم إلى التعمق والغوص في أعماق الأنا والارهاصات النفسية التي تحيط بالشخصية والبحث عن سبل تجديدية للتعبير عنها وذلك عن طريق المنولوج الداخلي الذي يقول عنه وليام جيمس " إلقاء نظرة صريحة وطويلة وصبورة على حقائق الحياة الداخلية وذلك فقط لرؤيتها " وبذلك يكون للمونولوج الدور الفعال في تماسك ورص لبنات النص وفق وسيلة وطريقة صرخة الذوات واخراج ما في دواخلها المتمثل باللاوعي واللاشعور والتي تشحن وتغذي الحدث للتنامي والحركية كما في حديث شريفة والدة سعدون (سعاد) " العار بات يلاحقني كظلي "7.
وحديث سعدون " وجدت نفسي ملفوفاً بعباءة أمي كعرنوس ذِرَةٍ يابس وأنا أجلس بغرفة الضيوف بين جدي علوان وقريباتي البنات وقد غطيت رأسي بربطة سوداء, سحبتها من حقيبة أمي على عجل ..." ص49. وهنا يتم التحول في الشخصية من سعدون الرفيق إلى البنت سعاد وممارستها وعيشها كفتاة غير متزوجة وتودد قريبتها نورا لها وتعلقها بها حتى يبدأ الصراع والكبْت الجنسي لدى (سعدون – سعاد ) وعدم سيطرته على حالته عند اقتراب البنت الجميلة نورا منه وبذلك يكون المونولوج في السرّد الروائي مُحرك رئيسي لكل أدوار الشخصيات فتكون كل شخصية ناطقة عن هواجسها وآلامها ومشاعرها عن طريق تهيّج دواخل الذّات والتعبير عنها أي تكون الشخصية هي الساردة الناطقة وكذلك يظهر المونولوج في حديث بلقيس زوج سعدون " في يوم وليلة وجدت نفسي وحيدة, ضائعة, مهانة , أعدو بساقين فزعتين بشوارع بغداد وأزقتها ..." ص60 من الرواي.
حاول الكاتب من خلال حديث الأنا الكشف عن الظواهر السلبية والايجابية ورصدها وترك الساحة التأويلية والتقبلية للمتلقي حسب وضعه الاجتماعي وما مرّت عليه من ظروف قد تُشابه أحد أقطاب الشخصية الروائية وتحليلها جمالياً واجتماعياً ولم يجعل من نفسه طرفاً في المعادلة وإنما يطرح وجهات نظر متعددة من كل الأطراف وعلى لسان أبطال الرواية, كما يعيدنا الكاتب إلى أحداث الانتفاضة الشعبانية وما جرى فيها من ويلات وقتل وتعذيب وكان سعدون ابن مدينة القاسم هو من قام بنفسه بالتحقيق مع أبناء ديرته وقيامه بتعذيبهم فكانت الأحلام تراوده في كل حين من خلال ضحاياه ويفز من نومه, كما يلقي الكاتب الضوء على حالة المتلونيين والمنافقين الذين يُغيرون جلودهم مع كل زمان وفي كل وضع كما في قول صديق سعدون " ابتسم بخبث: آه اللحية والجبة ... هذه عدة الشغل الجديد يا رفيق" ص136 من الرواية. لينقل لنا حالة الانقلاب الاجتماعية بعد عام 2003 وتخفي القتْلة والمنافقين والمنتفعين بزي المتدينين عن طريق الحوار الذي دار بين الرفيق سعدون وأبو سعود ..
حتى يتحول سعدون فيكون شخصية عنونة الرواية فتاح فال عن طريق الصدفة ومساعدة والدته في مرضها وهو يلعب الدور بإتقان وبكل مهارة بين النساء اللواتي يطلبن طفل أو البواكر اللاتي يطلبن عريس وغيرها من أمنيات حتى نهايته المُروعة على لسان والدته شريفة " هل انتهت الحكاية ؟ كان لا بدَ لها أن تنتهي في يوم من الأيام ويا ليتني مت قبل أن أفجع بوحيدي" ص199 من الرواية ..
استطاع الحداد مفاجأة المتلقي عندما عاد الحوار والحديث السردي له وهو يقص لنا نهاية كل إنسان عن طريق حوار باطني خيالي مع الملك عزرائيل وهو يسأله " ها ... أين أنت ؟ قلت لا تخف, أن اليوم ليس يومك, وبصراحة أكثر أن موتك لا يشغلني بقدر انشغالك بموت سعدون بطل روايتك " ص205 من الرواية.
ربط لنا الكاتب بأسلوب فني وحبكة رائعة بين موت البطل سعدون ونهايته المحتومة وبين قبض الأرواح من قبل الملك عزرائيل وايجاد نقطة موحدة بين التعالق الواقعي والخيالي لإنتاج تيمة واحدة تجمع شتات التيمات المتفرقة التي جاءت على لسان أكثر من شخصية لتشكل لنا نسيج بنائي متداخل ومتماسك ..
نهج الحداد نهج تجديدي يختلف عن كتاب الرواية الذين سبقوه حيث أنه اتخذ من فلسفة وسيكولوجية النص معياراً أساسياً في الكتابة كما أشارإلى ذلك الدكتور الباحث سعد الساعدي " في حين ترى نظرية التحليل والإرتقاء : أن عنصرين مهمين غفلتها أغلب المناهج النقدية عن النص كمعيار مهم من معاييره وهما : فلسفة النص الحركية : التي تعني الفكرة الأصلية التي يتبناها الناصّ, وطرح قضية تصورية نابعة من ذات الناص للعلن وبمعنى أدق هي فلسفة الناص الشخصية في الحياة والتي منها تتحدد مفاهيمة ومقاصده ودوافع كتابته .
والمعيار الثاني سيكولوجية النص الكامنة : التي تحدد الحالة الشعورية للكاتب عبر ادراكه واحساسه بما موجود كحالة انعكاسية لما يعانيه ويعيشه هو والمجتمع الذي ينتمي إليه , أي ولادة حالة انبعاث جديدة متأثرة بدوافع كثيرة وارهاصات أضفت صبغتها على النص " 8.
تضمنت الرواية رؤية اجتماعية سياسية ضمن حقبة زمنية محددة وفي أماكن مختلفة من العراق عن أحداث عاصرها الشعب من بدايته بوتيرة يشوبها عنصر المفاجأة ليمهد لنا لأحداث طويلة مُثيرة فيها من المتعة والغرابة وتسلسل في الأحداث والمفارقات والدهشة وفيها الكثير من الأهداف والتيمات التي تحتاج دراسة مفصلة للوقوف على مضامينها ومقاصدها وأهدافها.
#غانم_عمران_المعموري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟