|
السردية الوطنية لمئوية الدولة العراقية – العراق العثماني وتأسيس الدولة لغاية 1941 (الجزء 1 من 2)
فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 6852 - 2021 / 3 / 28 - 14:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما أزالت جرافات داعش الساتر الترابي بين الحدود السورية والعراقية في حزيران 2014 معلنة انهاء "حقبة سايكس بيكو"، كان العراق هو مركز الحدث في المنطقة التي كانت تسير حثيثاً باتجاه "الشرق الأوسط الجديد" الحافل بالتقسيم والانفصالات على أسس هوياتية "مكوناتية". وعلى الرغم من هزيمة داعش وعدم نجاح مشاريع الانفصال والتقسيم في العراق، إلا أننا لا نزال نعيش تداعيات شيوع المنظور المكوناتي للمجتمع العراقي منذ 2003 والذي يرى بأن العراق هو دولة مصطنعة أقامها المستعمر البريطاني لخدمة مصالحه وجمع فيها مجتمعات متباينة: الشيعة والسنة والكرد من الصعب تعايشهم في دولة وطنية حديثة ذات هوية جامعة. وفي حين تمر في هذه السنة الذكرى المئوية لتأسيس الدولة العراقية، لا يزال النظام السياسي العراقي يعاني من عدم الاستقرار المزمن والذي يعود – حسب المنظور المكوناتي – الى صراع الهويات الناتج عن الإنقسام الطائفي والإثني "المتأصل" في المجتمع العراقي.
لكن انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019 أظهرت حالة الافول في سيادة المفهوم المكوناتي في المجتمع العراقي والتصاعد لمفهوم وطني بديل حملته رايات الحركة الاحتجاجية يستند على محاربة المحاصصة الطائفية وتحقيق دولة المواطنة السيادية والمستقلة عن النفوذ الأجنبي مع هوية وطنية جامعة عابرة للانتماءات الفرعية وتعتز بالعراق وطناً أصيلاً للعيش المشترك. غير أن هكذا هوية تحتاج الى سردية وطنية تستند على ذاكرة تاريخية جامعة تعمل على إعادة تشكيل الوعي الوطني العراقي باتجاه التعايش والتكامل، وتعزيز الشعور الوطني نحو تثبيت السلم الأهلي وتدعيم الوحدة الوطنية.
حالياً، لا يوجد إجماع مجتمعي على سردية وطنية تاريخية يمكن أن تؤسس لهوية وطنية جامعة أو توفر الأرضية للتوافق الاجتماعي والسياسي. فمضامين السردية الوطنية للدولة العراقية تشتتتْ بتغير الأنظمة الحاكمة. فسردية العهد الملكي تمحورت حول الثورة العربية في الحجاز التي قادها الشريف الحسين بن علي والد الملك فيصل الأول، فيما ركزت سردية الحكم الجمهوري على نضال الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني والمتعاونين معه، ثم بعد ذلك تأثرت بالإطار الأيديولوجي العروبي، خاصة بعد مشروع "إعادة كتابة التاريخ" الذي قاده صدام حسين في سبعينيات القرن الماضي. فيما تتعارض السردية القومية الكردية جذرياً مع السردية الوطنية لمجمل العراق، فهي تتمحور حول "خيانة" المجتمع الدولي للكرد بعد وعدهم بالدولة الكردية في معاهدة سيفر 1920، حيث تم إلحاق كردستان العراق بالدولة العراقية الجديدة في 1926 كجزء من تنكر الحلفاء لإلتزاماتهم السابقة.
أمّا السردية الوطنية العراقية الجامعة التي أحاول التأسيس لها هنا، فهي تستند على قراءة بديلة للتاريخ العراقي الحديث عبر التركيز على أعمال ونشاطات المجتمع العراقي الثقافية والسياسية التي تعكس توجهات مجموع العراقيين نحو المساهمة في بناء دولتهم الوطنية، بدرجة أكبر بكثير مما تعكسه تصرفات فاعلين منفردين أو إجراءات لحكومات منعزلة عن مجتمعها، وهو ما يركز عليه المنظور المكوناتي. إن هذه السردية الوطنية البديلة وإستخدامها لبناء الذاكرة العراقية التاريخية، تعمل على إعادة التأسيس لهوية وطنية عراقية جامعة تساعد في عملية العبور من مرحلة التصارع المكوناتي الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي، وكذلك أيضاً للتواصل مع هذه الذاكرة التاريخية الغنية والبناء على النجاحات فيها وأخذ الدروس من إخفاقاتها.
العراق العثماني كيان وطني لمجتمع تعددي
يعود تاريخ العراق بمفهومه الحديث الى حوالي 170 سنة قبل تأسيس الدولة العراقية على الضد من ادعاء المفهوم المكوناتي من أن العراق كما نعرفه الان لم يكن معروفاً قبل الاحتلال البريطاني. فقد استطاع المماليك أن يفرضوا إرادتهم على سلاطين اسطنبول ويتسلموا الحكم في بغداد التي أصبحت مركز إقليم العراق المتميز جغرافياً وسياسياً عن بقية أقاليم الدولة العثمانية بحيث كان والي بغداد والملقب بالوزير تصل سلطته الى ولايتي الموصل والبصرة وإمارة بابان الكردية (كردستان العراق). وكان هذا حدثاً فارقاً بالنسبة للعراقيين التواقين إلى أن يحكموا أنفسهم ذاتياً بسبب أن المماليك الذين نشأوا في بغداد كانوا يعدّون أنفسهم من أهل البلد ويتعصبون لأبناء محلاتهم. كما كان لزعماء العراقيين ورؤساء عشائرهم دور كبير في حسم التنافس بين المماليك على السلطة. فتداول مؤرخو العراق في ذلك الزمان مثل الشيخ رسول الكركوكلي والشيخ عثمان بن سند البصري سيرة وزراء العراق وقصص "بطولاتهم" في كسر شوكة العشائر والمتمردين وإشاعة الاستقرار في ربوع العراق.
بعد زوال حكم المماليك في 1831 حكمت العراق بصورة لا مركزية نخب من مختلف أنحاءه ارتبطت بالحكومة العثمانية في بغداد وتلقت منها توجيهات وأوامر الحكم ما أدى الى ترسخ هوية العراق المحلية. فقد وصف المؤرخ والسياسي سليمان فائق بيك في كتابه "تاريخ بغداد" من يدير دفة الحكم في انحاء "العراق" في الستينات من القرن التاسع عشر، بانها "أسر عراقية" مثل آل بابان في السليمانية وآل عبد الجليل في الموصل وأبناء العمادية وآل شبيب (أصبحوا يعرفون لاحقاً آل سعدون) في المنتفق (والذي يتضمن معظم جنوب العراق). وهذا طبعاً يشير بصورة كبيرة إلى أن مفهوم العراق الجغرافي والسياسي في تلك الحقبة كان قريباً جداً من مفهومه الحديث.
ولم يقتصر الشعور بالهوية العراقية في ذلك الزمان على الأسر الحاكمة وزعماء العراقيين، بل تعداه الى مثقفي ذلك الزمان، حيث وصف أبو الثناء الالوسي شعوره عندما وصلته رسالة من العراق وهو في سفره الى اسطنبول:
أهيم بآثار العراق وذكره / وتغدو عيوني من مسرتها عبر وألثم أخفافاً وطئن ترابه / وأكحل أجفاناً بتربته العطرى وكذلك رحب المهنئون برجوع الآلوسي الى بغداد به باسم العراق فقالوا: هي عودة سُرّ العراق بها وكم / سُرّ العليل بعوده العُوّاد وافى بوجه أبيض فانجاب عن / قطر العراق بذاك كلُّ سواد
أما في بداية القرن العشرين فيدل الإنتاج الثقافي للعراقيين حينها على ازدياد توطد علاقتهم بالعراق والاشارة اليه كوطن مشترك مع تطور وعيهم السياسي، فكان نائب السليمانية سعيد أفندي كركوكي زادة يشير الى ناخبيه كعراقيين، حيث نشرت جريدة صدى بابل في 1911 شكوى لسعيد أفندي في مجلس المبعوثان العثماني من مظالم والي العراق ناظم باشا بقوله "اذا دامت الحالة على هذا المنوال ينتهي أمر العراقي الى ما لا تحمد عقباه".
كانت مجلة لغة العرب لصاحبها الأب أنستاس الكرملي والتي عمل فيها مثقفون عراقيون من مختلف الأطياف، متميزة بانتمائها العراقي، فقد عكس مقالها الافتتاحي في 1911 خطاب وطني عراقي حداثي، حيث أشار الى الغاية من انشاء المجلة هي "ان نعرّف العراق وأهله ومشاهيره" ... و"ننقل الى وطنيينا العراقيين" ... و"ليدخل العراق في مصاف الربوع المعروفة بين الامم المتمدنة المتحضرة". وكان لها قسم ثابت في كل عدد بعنوان "تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره". كما تضمنت المجلة مقالات عرّفت العراقيين بتاريخهم الحديث عن فترة المماليك وبتاريخهم القديم عن العباسيين والكلدانيين وبآثار بلادهم الشاخصة مثل سامراء وبابل ودعتهم الى اللحاق بمجد أجدادهم.
لقد تطورت تجربة العراقيين السياسية خاصة بعد الدستور العثماني في 1908، حيث مثل ولايات العراق عدد متزايد من النواب ومن مختلف أطياف المجتمع العراقي وصل الى 31 نائب في مجلس 1914، كما أسس طالب النقيب حزب الجمعية الإصلاحية في البصرة في 1913 الذي إرتبط به النادي الوطني العلمي في بغداد فكانت مطالبهم تتضمن الحكم الذاتي للعراق وتشجيع اللغة العربية فيه.
كذلك حافظ المجتمع العراقي مع تطوره السياسي على تنوعه الديني والطائفي وانفتاحه تجاه مختلف الثقافات، فكان أحد نواب بغداد الثلاثة في مجلس المبعوثان العثماني في 1877 من الطائفة اليهودية هو مناحيم دانيال. وفي حين تم تكفير البابية والبهائية وارتكاب المجازر بحقهم في طهران وأنحاء ايران، إنفتح المجتمع العراقي في كربلاء وبغداد عليهم، ولم يقبل المرجع الشيعي الأعلى في النجف (الشيخ مرتضى الأنصاري) تكفيرهم رغم انعقاد مؤتمر في الكاظمية للنظر في أمرهم.
ويمكن من خلال تتبع مسار بعض الشخصيات الوطنية المحورية في تلك الحقبة مثل جعفر أبو التمن، أن نسلط الضوء على تطور الوعي الوطني والسياسي لنخب مجتمعية عراقية واسعة منذ بوادر دخول الحضارة الحديثة الى العراق وخاصة بعد الدستور العثماني في 1908 وخلال الغزو البريطاني للعراق ومقاومة العراقيين للاحتلال حتى تأسيس الدولة العراقية. فيمكن من خلال هذا التتبع الدلالة على أن ثورة العشرين – وهي التي عدّها عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي "المدرسة الشعبية الأولى" للعراقيين حول مفاهيم الوطنية والاستقلال – لم تحدث فقط بسبب الاحتلال البريطاني للعراق، وانما أيضاً كتسلسل منطقي لتطور الوعي الوطني للعراقيين.
لقد استفاد جعفر أبو التمن من انفتاح المناخ السياسي في العراق ليتفاعل بصورة أكبر مع السلطة العثمانية في بغداد حيث أسس المدرسة الجعفرية في 1908 وانخرط في نشاطات المجتمع المدني البغدادي. فما أن بدأ الغزو البريطاني للعراق في 1914 حتى هبّ العراقيون من مختلف أطيافهم - ومن ضمنهم الحاج داود أبو التمن جد جعفر – لمقاومتهم عبر حركة الجهاد التي وإنْ كان غطاءها ديني إلا أن جوهرها كان وطنياً بامتياز حيث لم يسبق للعراقيين أن ساهموا بجدية في أي من حملات الجهاد السابقة للجيش العثماني بل كانوا يعدّون التجنيد وبالاً عليهم. فكان أن انتدبت السلطة العثمانية جعفر ليكون حلقة الوصل بينها وبين حركة الجهاد هذه التي جمعت أكثر من 20 ألف مقاتل من العرب والكرد والتركمان جاءوا من مختلف أنحاء العراق لمقاتلة البريطانيين في البصرة.
وقد عكس الخطاب الذي ألقاه والي بغداد سليمان نظيف بك عند تسلمه الولاية في بداية 1915 مفهوم إقليم العراق الحديث ومجتمعه التعددي عندما خاطب أهل بغداد "يا ابناء العراق النجباء" وبأنه أخذ زمام الإدارة "في ولايات هذا العراق". كما أشار الى معرفته السابقة بالعراق بانه كان مأموراً على البصرة ووالياً على الموصل. كذلك خاطب سليمان بك المتطوعين في حركة الجهاد بأنهم "الكتيبة المجسمة من الحمية من أبناء العرب والأكراد الذين جمعهم الإخلاص والإيمان". أما شعبياً، فقد أطلق أهل السماوة هوستهم المعروفة: ثلثين الجنة لهادينا/ وثلث لكاكه أحمد وأصحابه، دلالة على تآخي العرب والكرد في الدفاع عن الوطن المشترك.
تعاون أبو التمن بعد سقوط العراق تحت الاحتلال البريطاني مع الناشطين المعارضين للاحتلال عبر الانضمام الى جمعية حرس الاستقلال التي ضمت الوطنيين العراقيين من مختلف أطيافهم وعملت على إقامة الحفلات الدينية التي تجمع بين المولد والتعزية للتحشيد لمقاومة الاحتلال، فأصبح أبو التمن أحد المندوبين لتمثيل الشعب في المطالبة بإستقلال العراق قبل ثورة العشرين. ثم أصبح أحد قادة ثورة العشرين بعد اندلاعها وأحد أهم حلقات الوصل بين ثوار الفرات الأوسط والمعارضة السياسية للاحتلال البريطاني في بغداد ما أدّى الى نضوج مطالب ثوار العشائر في الفرات الأوسط وارتباطها بالمطالب الوطنية ضد الاحتلال البريطاني.
إن الصلة الوثيقة بين ثورة العشرين وتأسيس الدولة العراقية هي واحدة من أهم محاور السردية الوطنية البديلة. فقد طالبت الثورة بتأسيس دولة عراقية مستقلة بقيادة أحد أنجال الحسين بن علي ملك الحجاز، كما لجأ عدد من قادة الثورة إلى الحجاز وعادوا إلى العراق مع الأمير فيصل عند تتويجه. لقد أقرت الوثائق البريطانية بأن ثورة العشرين وخسائر البريطانيين المكلفة فيها كانت السبب الرئيس في تكليف برسي كوكس أن يمضي قدماً في إنشاء حكومة وطنية في العراق تمهد الطريق لتأسيس الدولة العراقية برئاسة الملك فيصل، فيما كان ويلسون الحاكم البريطاني في العراق قبل الثورة يسعى لأن تحكم بريطانيا العراق بصورة مباشرة على الطريقة الهندية.
إن النخب العراقية ومن مختلف الاطياف التي أسست وقادت الدولة العراقية ومجتمعها المدني لم تأتِ من فراغ بل كانت فاعلة في الكيان الوطني العراقي ضمن الدولة العثمانية كمشاركين في الحياة السياسية وكضباط في الجيش العثماني وكمثقفين من ناشطي المجتمع وكرؤساء للعشائر. إن هذه السردية الوطنية بالإضافة الى موضوعيتها ورصانتها تاريخيا وأكاديمياً، فهي تبرز مشاركة مختلف أطياف المجتمع العراقي في العمق التاريخي للدولة العراقية الحديثة، وتتلاءم مع مفهوم الشراكة بين العرب والكرد في الوطن العراقي والذي أصبح فيما بعد أحد أهم أركان الدولة العراقية في عهدها الجمهوري، كما سيتم التطرق اليه في الأجزاء القادمة من هذه المقالة.
العراق الملكي (1921-1941) دولة وطنية ذات قصور بنيوي
لم يبتعد الملك فيصل الأول كثيرا ًعن الواقع عندما أنكر وجود شعب عراقي بعد في رسالته المشهورة المؤرخة في 1932 والمنشورة في كتاب تاريخ العراق السياسي لعبد الرزاق الحسني، حيث عزا ذلك أساساً الى نقصان العراق "للوحدة الفكرية والملّية والدينية". غير أن ما يغفل عنه المتبنون للمفهوم المكوناتي – وهم غالباً ما يستخدمون هذه الرسالة للدلالة على ترسخ الانقسام العمودي "المكوناتي" في المجتمع العراقي – أن من الطبيعي لأي مجتمع تعددي أن لا تجمعه وحدة فكرية أو إثنية أو دينية. فالدول الاوربية "المتطورة" حصلت على هذه الوحدة في مجتمعاتها بالدم والنار عبر عقود وقرون من الاحتراب الداخلي والغزو الخارجي والتطهير الديني والعرقي وملايين الضحايا.
كما إن المجتمع العراقي في بداية تأسيس دولته كان لا يزال يعاني من تفشي الجهل فيما كانت نخبه المثقفة غير متمرسة بمفاهيم وأمور الدولة الوطنية الحديثة، فلم يكن هناك اتفاق على من يكوّن المجتمع السياسي في العراق وما هو النظام السياسي الأمثل الذي يلائم مجتمعه المتعدد، فيما تحتاج هذه القضايا الاجتماعية المعقدة الى عقود من الزمن لمعالجتها وإنجاز توافق مجتمعي حولها. فعلى سبيل المثال كان القرن الأول من تاريخ الثورة الفرنسية حافلاً بالأحداث والفوضى تقلّب فيه نظام الدولة بين الجمهورية والملكية والامبراطورية عدة مرات بحيث لم تحكم الجمهورية المجتمع الفرنسي خلاله أكثر من 33 سنة. وكذلك بريطانيا التي – وعلى الرغم من حفاظها على النظام الملكي – استغرق تغير نظام الحكم فيها عدة قرون لتصل الى ما نعرفه اليوم عنها، وحتى الآن لا تزال تواجه التحديات بين انتمائها إلى الاتحاد الأوربي أو الخروج منه وتداعيات استفتاءات انفصال اسكتلندا.
لقد فرض المستعمر البريطاني دولة مركزية على الطراز الغربي على مقياس مصالحه في العراق، فحصل الملك على صلاحيات واسعة من ضمنها حل مجلس النواب وإقالة الحكومة لقطع الطريق على المعارضة، بينما حصل رئيس الوزراء على قوة مركزية تنفيذية كبيرة للتمكن من تنفيذ السياسة البريطانية في العراق. وأوكلت بريطانيا الى "الافندية" – وهم النخبة العراقية المثقفة من الموظفين والضباط والتي كانت تعتمد عليهم الدولة العثمانية في حكم العراق – المناصب الأساسية في الدولة العراقية وجهازها الإداري. كما ملّكت رؤساء العشائر – وغالبتهم من الشيعة والكرد – الأراضي وحولتهم الى إقطاعيين ووسطاء للسلطة على الريف عبر سن قانونهم الخاص، فلا تُطبق قوانين الدولة العراقية على إقطاعياتهم، فكانت العوائل الشيعية تمثل 44% من العائلات الرئيسية المالكة للأرض في العهد الملكي فيما مثلت العوائل الكردية 20% منها.
وفيما كان المجتمع السياسي العراقي حينها – والذي كان يتشكل من الأفندية ورؤساء العشائر والملك – منقسماً أفقياً بصورة عابرة للعصبيات الطائفية أو القبلية والاثنية، بين الوطنيين المطالبين باستقلال العراق الكامل عن بريطانيا وما بين المتعاونين معها باعتبارها المسيطرة على الوضع في العراق، إلا أن ذلك لا يعني نضوج العملية السياسية حينها، حيث كان معظم السياسيين يتبادلون الأدوار فيما بينهم، فكانوا يطالبون باستقلال العراق الكامل في المعارضة ويغضون عنه الطرف عندما يكونوا في الحكومة. أما الملك فيصل الأول فكان دائماً ما يحاول التوفيق ما بين الطرفين.
لقد تحولت محاور السياسة والسلطة في العراق مع تأسيس الدولة المركزية من منظوماتها التقليدية الدينية والعشائرية والأثنية الى العاصمة بغداد ما أدى الى الصدام بينهما وبالتالي الى اضعاف هذه المنظومات بسبب الدعم البريطاني للدولة العراقية. فقامت الحكومة العراقية وبدعم من قادة العشائر الشيعية بنفي المرجع الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي الخالصي وعدد كبير من المراجع الشيعة الى ايران، من دون احتجاجات تذكر في 1923 بسبب اصدارهم فتاوى بتحريم المشاركة في إنتخابات المجلس التأسيسي. كما قامت ثورات قومية كردية بقيادة الشيخ محمود البرزنجي طوال العشرينيات وبقيادة الشيخ أحمد البارزاني في 1931/1932. كذلك تمردَ الآشوريون ضد الدولة للمطالبة بحقهم في تقرير المصير في 1933، كما تمردت العشائر الشيعية في جنوب العراق وبدعم من المرجعية في 1935/1936 للمطالبة بتعزيز تمثيل الشيعة في الدولة. غير أن الجيش العراقي وبدعم بريطاني استطاع القضاء على جميع هذه التحديات ولو بصورة لم تخلُ من الفظائع والقمع الوحشي.
كانت الدولة العراقية عند تأسيسها قد تبنت هوية عربية أحادية لتعزيز شرعية الملك فيصل الآتي من الحجاز، وعملت على تحقيقها بواسطة مركزية التعليم الحكومي الذي توّلاه طوال العشرينات المنظّر العروبي ساطع الحصري كمدير للمعارف، وكذلك عن طريق الجيش الذي سيطر عليه العروبيون في الثلاثينيات وتوسع كثيراً عبر التجنيد الالزامي. إلا أن هذا كان لا يتماشى مع تعددية المجتمع العراقي وخاصة الكرد الذين كانوا يتمتعون بحكم ذاتي لمعظم العهد العثماني في إماراتهم مثل بابان وسوران وبهدينان وتصاعدَ شعورهم القومي كما العرب بعد الحرب العالمية الأولى. على الرغم من ذلك، فقد كان الملك فيصل الأول يسعى الى الحفاظ على علاقات جيدة مع مختلف أطياف العراقيين، مثل موقفه حول الحادثة بين ساطع الحصري وشاعر العراق محمد مهدي الجواهري حين أصّر الحصري على فصل الجواهري الذي كان مدرساً في مدرسة حكومية عراقية نتيجة أبيات شعر تغنّى فيها الجواهري بمناظر إيران الطبيعية، فتدخل الملك فيصل واستوظف الجواهري في ديوانه الملكي.
لقد حافظ الملك فيصل أيضاً على علاقة جيدة مع الكرد فسمح لعدد من المدارس بتدريس اللغة الكردية، وأشار رسمياً بأن النجمتين في العلم العراقي الملكي "هما رمزان للشعبين العربي والكردي – الشعبين الرئيسيين في العراق". كما كان الكرد ممثلين بقوة في الجيش العراقي ولهم واجهاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية، وكانوا ممثلين في الحكومات المتعاقبة – ولو بصورة محدودة – ولهم نشاط ملموس في البرلمان العراقي والوسط الثقافي خاصة في بغداد. فقد كان معروف جياووك النائب في البرلمان العراقي في 1928 يكتب في الصحافة العراقية في العشرينيات للدفاع عن القضية الكردية وعدم اعتبار الكرد أقلية في العراق، كما كان يؤكد في كتاباته بأن ولاية الموصل ومن ضمنها كردستان العراق هي جزء من العراق.
وكذلك أصبح محمد أمين زكي، الضابط في الجيش العثماني، آمراً للكلية العسكرية العراقية وبعدها نائباً بالبرلمان ثم وزيرا لحكومات متعاقبة منذ 1925، وألف كتباً عديدة مثل خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، ومشاهير الكرد وكردستان. فيما كان إبراهيم أحمد ناشطاً في الوسط السياسي خاصة مع اليساريين وأصدر كتاب الأكراد والعرب في 1937 داعياً الى الاعتراف المبدئي لكل شعب للآخر بحقه في الاستقلال، لكنه في الوقت نفسه دعا "لتوثيق روابط الإخوة والصداقة بين العناصر العراقية المختلفة ومحاربة كل ما يشم منه رائحة التفرقة" في الدولة العراقية. أما اجتماعياً فقد أسس الكرد في بغداد نادي الارتقاء الكردي في 1930 الذي أصبح واجهة الكرد الثقافية في العاصمة بغداد، وكذلك حلقة الوصل مع النشاطات السياسية الداخلية والخارجية.
لقد حقق الملك فيصل الأول بحنكته السياسية ووسطيته توازناً إيجابياً بين القوى المؤثرة على المشهد العراقي بحيث حافظ على انفتاح وتعددية المجتمع العراقي من جهة وتحديث مؤسسات الدولة التي ورثها من العثمانيين من جهة أخرى. ولعل شاعر العراق محمد صدقي الزهاوي اختصر هوية العراق الجامعة المنفتحة والتواقة للتحرر في العشرينيات في قصيدة نُشرت في جريدة الاستقلال:
إن العراق لمنجب شعباً له مجد تليد / فرحت بوحدته السعيدة في مراقدها الجدود المسلمون على وفاق والنصارى واليهود / تأبى سلالة يعرب عن أن تفرقها الحقود عار عليها أن تثبط من عزائمها السدود / ومن المذلة أنها يوماً تساد ولا تسود
فقد تمكن الملك فيصل والنخبة السياسية العراقية من تطوير بنية حديثة لمرافق الدولة وبناء جيش وطني حديث وتقديم خدمات غير مسبوقة للشعب العراقي وبدعم مباشر من البريطانيين، بحيث كان العراقيون يديرون معظم مؤسسات الدولة عند انتهاء الإنتداب البريطاني في 1932. كما دعمت بريطانيا النظام الملكي العراقي عبر ردع التهديدات الخارجية مثل تركيا التي حاولت ضم الموصل اليها وكذلك الوهابيين الذين هددوا المدن الشيعية المقدسة.
غير أن الملك غازي الذي تبوأ العرش الهاشمي في العراق بعد وفاة والده فيصل الأول في 1933 كان شاباً وقليل الخبرة، فاستغل العسكر قوة الجيش العراقي وصعود أنظمة عسكرية دكتاتورية في تركيا وايران في الثلاثينيات للتدخل في سياسة الدولة وتنفيذ انقلابات عسكرية للسيطرة على السلطة. وقد تصاحب هذا مع رواج الأفكار الأيديولوجية اليسارية والفاشية في العالم والتي انعكست على المشهد السياسي العراقي وخاصة في العاصمة بغداد التي بدأ مجتمعها المدني بالتوسع مع تعزيز سلطة الدولة وانحسار تأثير المنظومات الاجتماعية التقليدية.
بدأ صراع الأيديولوجيات بين القوى السياسية العراقية في العاصمة بغداد ما بين اليساريين العراقويين الممثلين بالشيوعيين وجماعة الأهالي الذين عدّوا أن العراقيين يشكلون أمة بحد ذاتها مع التركيز على التضامن العالمي من أجل العدالة الاجتماعية، على الضد من العروبيين مثل ساطع الحصري ونادي المثنى وجمعية الجوال العربي والذين كان العراق لهم هو جزء من الأمة العربية التي لا يمكن أن تنهض إلا بوحدتها. ثم تصّدر هذا الصراع المشهد السياسي العراقي مع دخول العسكر كأطراف فيه، حيث اصطف قائد الجيش بكر صدقي مع العراقويين في انقلاب 1936، لكن العروبيين سيطروا على الدولة عبر ضباط الجيش المعروفين بالمربع الذهبي عقب القضاء على حكومة انقلاب بكر صدقي في 1937، حيث كانوا أكثر هيمنة على مفاصل الدولة والجيش والمجتمع المدني في بغداد.
وأدى تداخل المد العروبي في العراق مع المد العالمي لصعود الفاشية الوطنية وعسكرة المجتمع في الثلاثينيات إلى تفشي النزعة العروبية المتطرفة، فرأى سامي شوكت – وهو أحد قادة التيار العروبي حينها – أن سبيل نهوض الأمة العربية هو في "اتقان صناعة الموت" والقضاء على أعدائها الداخليين من غير العرب "بإستئصال جذورهم بلا شفقة ومن دون أية رحمة"، في حين لم يرَ أية فرصة للأمم الصغيرة في الاحتفاظ بثقافتهم أمام قدرة الأمة العربية في "هضم وتمثيل العنصريات والقوميات التي تسيطر عليها". لكن سيطرة التيار العروبي على السلطة في العراق حينها لم تستمر طويلاً بعد بدأ الحرب العالمية الثانية، حيث غزت بريطانيا العراق حين شعرت بتهديد مصالحها فيه بسبب تعاون حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني مع المانيا على الرغم من المقاومة الشعبية للغزو، وبالتالي أعادت الدبابات البريطانية الوصي عبدالاله ونوري السعيد الى سدة الحكم بعد أن هربا عقب تشكيل حكومة الدفاع الوطني.
لقد أدت هذه التطورات الى الصاق وصمة التآمر على استقلال الوطن والعمالة للأجنبي بعبدالاله ونوري السعيد وعلى كامل النظام الملكي الذي سيطرا عليه، حيث استمر هذا القصور في شرعية النظام أمام مجاميع العراقيين وخاصة الشباب الثوري طوال حقبة الاربعينيات والخمسينيات. وعلى الرغم من صعوبة التوافق والتعاون بين الأحزاب والقوى السياسية المعارضة للنظام الملكي بسبب التباين الأيديولوجي فيما بينها، إلا أن هذه القوى المعارضة تمكنت من التحالف سياسياً والتنسيق مع الجيش العراقي في اسقاط النظام الملكي في ثورة 14 تموز 1958 والتي أنجزت استقلال العراق الكامل وتحرره من القوى الغربية التي سيطرت عليه منذ 1917، كما سيتم التطرق اليه في الأجزاء القادمة من هذه المقالة.
#فراس_ناجي (هاشتاغ)
Firas_Naji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشروع الوطني لثورة تشرين والانتخابات القادمة
-
التحولات السياسية والثقافية التي حققتها ثورة تشرين
-
حياد العراق بين الافتراض والواقع
-
العراق بين الانتظار العبثي وبناء جبهة وطنية فاعلة
-
ثورة تشرين وإصلاح النظام السياسي العراقي
-
ثورة تشرين تقيل حكومة المحاصصة...وماذا بعد؟
-
ثورة تشرين و إعادة تأسيس الهوية الوطنية العراقية
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|