|
انحطاط الأخلاق العربية
عبدالله محمد ابو شحاتة
الحوار المتمدن-العدد: 6849 - 2021 / 3 / 23 - 14:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لكل أمة اخلاقها الخاصة ، ولا تتعجب ، إن أخلاق كل أمة من تلك الأمم مطلقة، أو هم يظنون هذا ، يتحدثون عن أخلاق ثابتة مطلقة ماورائية ثم ننظر في الواقع فلا نرى إلا النسبي الإنساني ، فأين هذا المطلق المزعوم ؟ أم أنه لا يوجد إلا في عقل المؤمنين به فقط !.
إن مكمن المعضلة في أن الإنسان لا يثق مطلقاً في نفسه، أنه يتذكر حين كان طفلاً كاد أن يحرق نفسه بعود الثقاب أو يطرق مسماراً في أسلاك الكهرباء ، ولكن حكمة الآباء وفطنتهم أنقذته في الوقت المناسب. ثم يصبح فيما بعد هو ذاته أباً ، ولكنه يزال كما هو، لا يرى في نفسه مصدراً للحكمة وحسن التصرف، فيبحث لنفسه عن مرجع مطلق، والذي يجده في نهاية الأمر في الميتافيزيقيا وعوالم ما بعد المادة ، بحكمتها المطلقة ومُثلها وأخلاقياتها المطلقة التي تغدقها علينا، وعلينا أن ننظر إلي تلك الأخلاقيات المطلقة محاولين التمسك بها في حياتنا، وهنا يبدأ الصراع ، حيث يجد الإنسان نفسه عاجزاً عن الالتزام بتلك المطلقات الخيالية ويجد نفسه غارقاً في نسبية الأخلاق رغماً عن أنفه، فتتراكم تلك المطلقات الغير قابلة للتغير و تتراكم عليها أتربة الزمن دون أن يجرؤ المؤمن أن ينفضها ، فهي بالنسبة له صالحة لكل زمان ومكان إنها مطلقة لا يجوز مسها ، صحيح ان محاولة تطبيقها أصبحت تجر المتاعب في هذا العصر ، ولكن العيب ليس فيها ؛ العيب في ذاك العصر اللعين. ((يا أعزائي...دعونا نرجع إلى الماضي حتى تعود أخلاقياتنا المطلقة للعمل بشكل سلس)) .
ومع طول فترة جمود تلك الأخلاقيات تفقد معناها وتصبح مجرد محددات عمياء للفعل تُطبق بلا فهم ، فها هو صديقنا العربي مولعاً بشرفاً لا يعرف له معنى ، هو فقط يعلم أن أي علاقة تربط إحدى اناث عائلاته بأحد الرجال الغرباء هو تدنيس للشرف وجريمة لا تغتفر، بل هي أكثر بشاعة من العنصرية ومن القتل ومن كافة الجرائم الممكنة وغير الممكنة ، إنه يقف هذا الموقف دون أي فهم أو تعقل، والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون مفهوماً في ضوء عصرنا الحالي ، فعلينا إن أردنا فهمه أن ننقب في التاريخ البائد كعلماء الآثار. لقد كنت أقترح دائماً كمتخصص في علم الاجتماع إضافة ميدان جديد لهذا العلم وهو ميدان مهم خصوصاً للشرق الأوسط ، إنه ميدان التنقيب عن الحفريات الأخلاقية ، والحقيقة وبلا فخر فأني قد برعت في هذا المجال مؤمناً بحقيقة أن الاموات يحكموننا من قبورهم ، وعلينا إن أردنا أن نفسر هيستريا الشرف عند صديقنا الشرق أوسطي أن ننقب في حفريات الأخلاق الأرستقراطية، حيث كان يُقسم البشر إلى نبلاء أشراف و عامة معدومي الشرف ، فالشرف هنا هو مرادف للسلطة والنفوذ الطبقي ، ولا شك أن أي علاقة قد تجمع أنثى من تلك العائلات النبيلة بأحد أفراد العامة هو إهدار لتلك السلطة والنفوذ بمشاركتها مع الطبقات الدنيا و بالتالي هي إهداراً للشرف وتهديداً لمصالح تلك الطبقة من النبلاء ، بل وهو أعظم جرماً من القتل، فالقتل في تلك العصور لم يكن بهذا السوء الذي هو عليه الآن ، فقتل أحد النبلاء لأحد الاقنان أو العبيد لم تكن سوى مخالفة بسيطة . كما أن زيجات إناث تلك العائلات كان المفترض دائماً أن تكون موجهة من العائلة بغرض تحقيق مصالح العائلة الاقتصادية أو السياسية، ولذلك كان من الضروري بسط النفوذ على الإناث وإخضاعهم للقواعد العائلية خصوصاً في الأمور التي تتعلق بمسائل الزواج والعلاقات العاطفية. جاء روسو و فولتير وقامت الثورة الفرنسية وسقطت الأرستقراطية القروأوسطية بسقوط الإقطاع و ظهرت الرأسمالية لكن لايزال صديقنا العربي البروليتاري يمارس أخلاق الاقطاعي حتى دون أن يدري انها أخلاق الاقطاعي ، حتى بعد أن أصبحت فارغه من محتواها بعد تبدل الواقع المادي والظروف الاجتماعية. وهكذا نرى كيف أن الإنسان محترف في خلق سادته وفي تربية جلاديه ، فإن لم يجدهم فإنه حتماً سيصنعهم، وهذا هو الحال مع الأخلاق المقولبة الجامدة التي يصنعها ثم يركع أمامها، يصنعها ثم تستبد به ويبقى عبداً لها حتى ينسى أنها من صنع يده ، فيظنها بدلاً من ذلك هبة نزلت عليه من السماء، هبة لا ينبغي ابداً أن يدنسها بأن يحاول أن يبدلها أو يعدلها. إنها الكارثة الأخلاقية الكبرى، نداء الماضي والعودة التقهقرية للقبور. فعلى إنسان المستقبل أن يدرك أنه هو من يصنع أخلاقه ويدرك أنه باستطاعته أن يغيرها متى شاء وفقاً لضرورة الواقع، ولا يخشى الخطأ فبدونه لا يمكن أن نعرف أي جديد ، إنه لا يحتاج مطلقات الميتافيزيقيا ، وليطلق العنان للحرية والإرادة والعقل النقدي وليكسر قيود القطيع فالقطعان سمة للحيوانات الدنيا علينا أن نتجاوزها نحن من نقبع أعلى شجرة التطور. علينا أن نتجاوز اخلاقياتنا باستمرار إلى ما هو افضل وأصلح منها ولا ندع اخلاقياتنا هي التي تتجاوزنا فتصير هي سيدتنا بدلاً من أن نكون نحن سادتها.
((٢))
ولكننا للأسف لا نرى في الشرق الأوسط سوى متحف أخلاقي، وقيم منتهية الصلاحية، كقيم الصدقة والعطف على الفقراء والتي يُحمٌلوها ما يفوق الاحتمال من المبالغة، تلك القيمة التي تدفعك للعطف على البؤساء ، إنها القيمة الذهبية التي يثبت بها أي فكر إنسانيته ، فما أن يدعو أي شخصاً أو توجهاً ما إلى مساعدة الفقراء حتى ينظر بفخر إلى ذاته، إنها تقريباً القيمة التي اتفقت عليها كافة الايدلوجيات واضعه إيها موضع الأولوية ، جميعهم يدفعوك لكي تساعد هؤلاء المساكين. ولكن وانت تُخرج من جيبك عملة فضية تلقيها لذاك البائس وانت تشعر بالفخر قد يتبادر إلى ذهنك سؤالاً عابراً؛ لما لا نحاول القضاء على الفقر نفسه بدلاً من تركه يستشري ثم مساعدة من يعانون منه ببضع فلسات ! ، وما أن تسأل نفسك هذا السؤال حتى ينقلب جميع مناصري الصدقات ضدك ، فالدين يتهمك بمحاولة قلب إرادة الله الذي قسم البشر الي طبقات، و السياسيين يتهموك بنشر الأفكار الهدامة ، والملحدون يتهموك بتحدي قوانين الطبيعة ، و الجمعيات الخيرية لابد أنها سترى فيك مُفسداً لعملها ، ثم كيف لك أن تُريد حرمانهم من ذاك الشعور العظيم بالتفوق والسيادة وعظم الذات الذي يصاحب عملية التصدق المبجلة ! أنه شعور عارم لا يضاهى بالأخلاقية ويبدو أنهم في وقتنا الحالي لا يخططون للتنازل عنه ، كما لا يخططون أيضاً للتنازل عن مكتسبات طبقاتها الوراثية لصالح مجتمع أكثر عدلاً. فترسيخ العطف على الفقراء كمسلمة ليست سوى رغبة خفية في إقرار الفقر والجوع كأمر أزلي لا يمكن تجاوزه. محاولة وضيعة لإقرار الطبقية كقانون لسير العالم ، فما يجب فعله حيال الفقر هو ترسيخ كراهية الطبقية ، لا أن نعلم الناس أن مكتسباتهم الوراثية الطبقية حقوق ، وإلقاء الفتات للفقراء مكرمه خُلقيه يحمدون عليها. وهذا هو بالضبط ما لا يفعله الخطاب الأخلاقي الميتافيزيقي في الشرق الأوسط، الذي لا يمل من تزكية الصدقة من جهة وبالتالي الطبقية من الجهة الأخرى. بتمجيد الصبر المُثبط لهمم الفقراء ، إخفاء حقيقة كون الصبر على الظلم لا شيء سوى الجبن ، والصبر على الأمراض والكوارث ليس إلا العجز ، أما الصبر بمعناه الإيجابي فهو الاحتمال لحين إحداث التغيير ، أو السخرية واللامبالاة من منطلق القوة وانعدام الرغبة ، لا وجود الرغبة مع العجز عن تحقيقها ومع الصبر دون محاولة ، فتلك علامة أخلاقية للعبيد. وهي الأخلاق التي يسعى الفكر الميتافيزيقي لخلقها وتمجيدها بالأخص وسط الطبقات الدنيا.
((تمجيد الطاعة ))
ويقوم ذات الفكر الميتافيزيقي العربي بتأدية مهمته في خدمة الفاشية وإبقاء القطيع تحت السيطرة مستعيناً بتمجيد وتقديس الطاعة، تلك القيمة التي لا يُفهم لها معنى ، إنها نقيضاً للفهم والتفاهم والاقتناع ، فلو لم يفهم الإنسان فلما عليه أن يطيع ؟ و لو أنه فهم واقتنع فالطاعة وقتها لا تعني شيء ولا معنى لها. إن الطاعة لا يمكن أن تُبصر ورائها إلا الفاشية ، فالفاشي لا يملك وقتاً للأقناع ، إنه يريد التطبيق الفوري وبالتالي الطاعة العمياء ، كما أن الماوراء بدوره يتطلب الطاعة لاستحالة إثباته أو فهمه ، و لا يجب علينا الخلط بين الطاعة والالتزام أو الاحترام ، فهي تُخلط بهم عادة سواء بعشوائية غير مقصودة أو حتى بسوء نية. فالالتزام هو فعل إرادة وفهم كما الاحترام ، ولا يمكن للاحترام أن يكون اجباريا كما الطاعة وإلا كان إذعاناً أو مداهنة. إنهم يريدون شكلاً من الطاعة العمياء، شكلاً يشبه قصة امتثال إبراهيم لأمر ذبح الأبن في سفر التكوين ، وبعيداً عن التفسيرات الدينية المختلفة لتلك القصة، فيبدو أن مجتمعاتنا المنحطة لم تأخذ إلا بالتفسير الذي يُمجد الطاعة ، لقد اكتسبت من تلك القصة فكرة تقدير الطاعة أكثر من تقدير الأخلاق، وهكذا فإنها ترى مبرر الأخلاق في الطاعة ، فحتى لو اقتضت الطاعة نقيض الأخلاق فعليها أيضاً أن تنفذ دون جدال أو مناقشة. وبهذا الشكل تتهدم الأخلاق ويحل محلها الخضوع للسلطة حتى لو كانت أوامرها غير مبررة منطقياً. الخضوع لأخلاقيات الميتافيزيقيا دون السؤال عن مقاصدها أو منافعها ، الطاعة ولا شيء بعد الطاعة وكأن الطاعة هي القاعدة الذهبية للأخلاق. وبالتالي ضمان العبودية واستكانة الخراف للراعي. ولذلك فالثورات لا تحدث إلا في لحظة انسلاخ من الطاعة ومن الميتافيزيقيا ، في اللحظة التي يدرك فيها الأنسان أن له إرادة مستقله ولا تقبل المساومة ، في اللحظة التي يدرك فيها أن تغيير هذا العالم لن يكون إلا بقوانين هذا العالم لا بالميتافيزيقيات. وقد رأينا هذا في شعارات ما يسمى بثورات الربيع العربي، في الثورة المصرية على سبيل المثال حين نادت الجموع قائلة " الشعب يريد " فهكذا تظهر الإرادة وتختفي الطاعة، ولكن لحظات التحرر تلك سرعان ما تنهار إذا كانت لا تستند على أساس معرفي سليم ، فالفشل حتماً سيكون حليف تلك الجموع التي تردد شعارات لا تفهمها، أن يطالب إنسان بالحرية دون أن يعرف ما هي الحرية ! يمكنك بكل بساطة أن تعطيه عبودية تحت مسمى الحرية وسيقبلها متهللاً وقد ظن أنه نال مقصده. وكذلك فقد سقطت تلك الجموع مرة أخرى في الطاعة بعد أن عادت تحتضن الميتافيزيقيا والقومية المُغلفين بشعار الحرية .
وللطاعة أشكال عديدة ووسائل كثيرة تترسخ بها، أولها هو تقديس الآباء، فما دام الآباء هم أول ذوي سلطة يقابلهم الإنسان في حياته، فيبقى عليهم أن يرسخوا طاعة الآباء العمياء كمعيار لطاعة كل ذي سلطة منذ نعومة الأظافر حتى ولو كان فاشياً، ثم دعنا نرد على من سيأخذون الموضوع بالعاطفة ، معتبرين أن تقديس الآباء نابع من أنهم ضحو بالغالي والنفيس لصالح أبنائهم، وتلك هي الحجة التي يبرر بها أرباب الميتافيزيقيا هذا التقديس الأجوف ووجوب الطاعة العمياء للآباء، و بالرغم أننا بالطبع نعلم حقيقة أنه ليس جميع الآباء يعكفون على تربية الأبناء ، ولكن حتى لو أخذنا بالتحليل هؤلاء الآباء الذين عكفوا على تربية أبنائهم مؤدين ذلك الدور على وجهه الأكمل ، فما يا ترى الذي يجعلهم يستحقون تقديراً زائد عن الحد في قيامهم بتلك المهمة !، لقد كان الانجاب خيار الآباء منذ البداية فلا يمكن لعاقل أن يعتبر تحملهم لتابعات خيارهم الخاص تفضلاً زائداً على العادة ، أو تضحية تُذرف تقديراً لها الدموع. إن الذي يظن أنه يتفضل على أبنائه بتربيتهم لهو اشد البشر حمقاً وجهلاً وفوق ذلك شراً، إنه يريد و بخفة يد كالبهلوان أن يحول الواجب إلى تفضل، يا ترى ما الذي كان عليه أن يفعله؛ أن يرضي شبقه الجنسي ليأتي بأطفال يلقيهم في قارعة الطريق بلا مأوى؟ وإن كان من غير الأخلاقي أن يفعل ذلك ، فلما يعتبر عدم قيامه بذلك إنجازاً يجب أن يحترم لأجله ؟ ، وليست تلك دعوة لقطيعة الآباء أو الاساءة إليهم ، بل هي دعوة لعقلنة العلاقات، الآباء بشراً تحدد علاقاتنا بهم بقدر إحسانهم وإساءتهم. ولا يمكن أن تكون طاعتهم بأي شكل واجباً أخلاقياً على الأبناء البالغين.
وبعد أن نتجاوز الآباء نرى الطاعة وقد تلبست في قيماً أخرى مثل احترام الكبير، والذي يعد أكثر اشكال الطاعة انتشاراً ، التقدم في العمر يجب أن يُكسب الشخص احتراما (( غباء يتردد في كل مكان )) والاكثر منه غباءً هو وجوب احترام أصحاب المناصب العليا. وليست تلك دعوة ضد الاحترام بل هي دعوة لتقريره على نحو أكثر تنظيماً. إن البشر جميعهم يستحقون الاحترام ، لا يوجد انسان يستحقه وانسان لا يستحقه ، وإن كنا مدينين بالتقدير لبعض البشر فذاك لكونهم أكثر علماً وثقافة وإنجازاً ، لا لكونهم اكبر سناً أو ارفع مناصباً ، إن الاحترام للكبير وذو المنصب هو شكل مبطن من الطاعة ، فذاك الاحترام الأخرق يقي هؤلاء من المسألة الواجبة اتجاههم ، فيتحول حينها نقد أصحاب المناصب من حق مشروع إلى إساءة أدب ، فالآباء أو الشيوخ من كبار السن و الحكام وكل ذي سلطة يتحصنون بنقائصهم خلف جدار أجوف اسمه الاحترام، ويقدمون حق المعارضة المشروع كما لو كان نقيضاً للاحترام. ثم تتسرب إلينا من الطاعة ومن احترام العجائز أخلاقيات أخرى لا تقل عبثية ، كالنصيحة ، وأول ما تُذكر النصيحة قد يتبادر إلى ذهنك النصيحة كتقديم الدعم والرأي والخبرة لمن هم في ظروف صعبة ، ولكن ليست تلك بالطبع التي أقصدها ، بل أقصد النسخة الشرق أوسطية من النصيحة؛ و هي عبارة عن تدخل فج في كل أمر ذو طابع شخصي ومن دون أخذ أي أذن مسبق، بل وبدون حتى سابق معرفة من اي نوع، إنه شكلاً متطرفاً من عقيدة الطاعة، فأنت هنا عرضة للتسلط وانتهاك الخصوصية حتى في أكثر الأماكن عمومية ، الشوارع والمواصلات العامة ، ثم كيف لك أن تُبدي اعتراضك أو امتعاضك، عليك أن تُقابل الأمر بصدر رحب وإلا أصبحت أنت المدان والملام ، عليك أن تُصغي لتلك النصائح التي تطلقها ذات الفئات التي لها حق الكلام وحق الاحترام وحق الطاعة ( العجائز وذوي السلطة والمناصب ).
((٣))
إن تلك الأشكال المتسلطة للطاعة التي تُنادي بها الأخلاق الميتافيزيقية كقيمة أخلاقية مرغوبة تحافظ بها على الاحترام والتراتبية في المجتمع ليست إلا تمهيداً للفاشية ، السلطوية ، غياب الحرية ، اللجوء للمداهنة ، وفي النهاية تنامي الحقد في النفوس . ولقد كان المُتنبي ضحية لتلك الطاعة التي اضطرته لمداهنة الملوك ، ثم قادته المُداهنة للحقد ثم الحقد صنع العداوة ثم أدت العداوة إلى مقتله في النهاية. فالطاعة ستؤدي حتماً لإستبداد كل ذي سلطة ( الأب ، الحاكم.... ) ، فيصبح السبيل الأقرب والأسهل لأخذ الامتيازات أو حتى الحفاظ على الحقوق في ظل هذا الشكل من السلطة هو المداهنة، وبذلك يستشري النفاق في كل مكان ، الأبناء يُداهنون الوالد ، والمحكومين يُداهنون الحاكم، والاكثر نفاقاً يفوز بالتفوق، يستشري بذلك الكذب وتغيب الحقيقة ، و يظهر الحقد و الصراع ؛ فالمُداهن عادة ما سيشعر بالحقد والكراهية أتجاه من يُداهنه، والمُطيع إجباراً اتجاه من يُطيعه، كراهية تظهر جلية في أول فرصة مواتية، فكذلك كان يمدح المُتنبي الملوك شديد المدح ثم بعد ذلك يهجُوهم شديد الهجاء ، فكلما داهن الإنسان أكثر كلما كره أكثر وكلما أطاع أكثر كلما كره أكثر ( خُذوها مني كمسلمة رياضية ) ، ونتيجة لهذا يتحول كافور الإخشيدي برشاقة شعرية من " أبا كل طيب " إلى " الأسود المثقوب مشفرهُ " . وهكذا نرى كيف أن الطاعة كقيمة أخلاقية ميتافيزيقية تقود حتماً لكارثة أخلاقية واقعية، وعلى ذات المنوال تسير كافة قيم البناء الأخلاقي الميتافيزيقي .
((٣))
ثم دعنا نراقب تلك التربية التي تُعتبر هنا أنها أخلاقية، إنها التربية التي تخلق عبداً بامتياز، التي تخلق إنساناً عديم الشخصية، عاجز عن التساؤل والتفكير النقدي، الاعتراض ليس في قاموسه. ولا يرى لنفسه حقوقاً سوى تلك التي يُغدقها عليه أصحاب السلطة والسمو. التربية التي تحرم السؤال تحت مسمى العيب أو حماية المقدس ) والتي ليست سوى قناع يخفي تقديس الجهل ، فحق أصيل لكل إنسان أن يسأل وأن يجادل وان ينتقد وبخاصة الأطفال ومن هم في طور تكوين الشخصية، و أكثر الأمور اقتراباً من الحقيقة هي التي لا تخشى النقد ، ولا يصيبها التشنج من المعارضة ، فقط الخرافة هي ما تحتاج إلى التقديس وتجريم حتى مجرد التساؤل . ثم لعلك تسمع حجة صغر السن والتي يسوغون بها تضليل النشأ ومنع الأجوبة عنهم، وهذا بالطبع لا يمكن أن يكون سوى خداع وتضليل متعمد، فمن كبر بالقدر الكافي لكي يسأل كبر بالقدر الكافي لكي يتلقى الإجابة. تلك التربية المبنية على رفض التساؤل وتجريم التفكير و على التنفيذ التعسفي دون فهم، والترهيب أكثر من الترغيب، هي التي تخلق مواطناً لا يعرف سوى الطاعة، و يتفاخر قائلاً نحن شعب لا يسير إلا بالكرباج.
#عبدالله_محمد_ابو_شحاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انحطاط الفن
-
هل يريد العرب التقدم للأمام ؟
-
نيتشه الجينالوجي
-
التفكير الزائف لدى القطعان
-
سيكولوجية العبيد
-
إهانة المواطن العربي
-
اللاأدرية لماذا ؟
-
حوار مع صاحب رسالة الغفران
-
حتمية اللاإنجابية
-
الأسلام دين ودولة
-
طاعة المؤمن
-
هل يمكننا القضاء على الجوع ؟
-
مصطلحات الحداثة في خطاب جماعات الرجعية
-
المجتمع وحق التملك
-
اليهود بيننا
-
هل توجد علاقة طردية بين تدين المجتمعات و فسادها..؟؟
-
مجتمعات العصا ومجتمعات الحوار
-
التعليم والضفائر الفوشيا في مصر
-
الحرية وحدود القانون
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|