سيد طنطاوي
(Sayed Tantawy)
الحوار المتمدن-العدد: 6835 - 2021 / 3 / 9 - 19:44
المحور:
الادب والفن
جاء في الأثر أن رجلًا عاش مع حيةٍ، واتفقا على أن يُعطي كل منهما الآخر الأمان، لكن في لحظة فكر الرجل في الغدر وقرر ضربها بالفأس فأخطأها وهربت، فطلب منها أن تسامحه على أن يعودا للتعاون سويًا فردت عليه قائلة: "كيف أعاودك وهذا أثر فأسك".
الإبداع الآن في نفس الموقف يخاف فأس ازدراء الأديان التي طالت الكثيرين، وأدخلتهم السجن، فأصبح لسان حال الأدباء يتساءل: "كيف أبدع وهذا أثر فأسك؟
فأس ازدراء الأديان، تم تكييفها قانونيًا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بإدراجها ضمن مواد قانون العقوبات، وبدايتها بوضع قانون لردع المتشددين بعد أحداث الفتنة الطائفية في منطقة الزاوية الحمرا بالقاهرة، لكن هذه المادة انقلبت وتحولت إلى سلاحٍ في يد المتطرفين لمواجهة أصحاب الفكر، وتنص الفقرة "و"، من المادة 98 من قانون العقوبات على أنه يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه كل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو الكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية.
وفي عام 2006 صدر القانون رقم 147 لسنة 2006 وعدل عددًا من مواد قانون العقوبات ومنها نص المادة (98 فقرة و)، وحُذفت عبارتي "أو التحبيذ" و"السلام الاجتماعي" من النص لغموضهما وعدم تحديد معناها تحديدًا دقيقًا، لينتهي النص إلى صيغته الحالية: "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه، ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير، أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية".
الغريب أن هذه الفقرة لم تستخدم ولو لمرةٍ واحدة في ردع متشدد.
المثير أن المتطرفين كانوا بارعين في الجلد بالقانون إذ لم يكتفوا بالفقرة "و" من المادة 98، والتي تكفي في الحقيقة لمحاكمة كل المجتمع، بل استخدموا أيضًا المادتين 160 و161 من قانون العقوبات، والمعروفتان بمادتي الاعتداء على الأديان، والمادة 160 تنص على أنه يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تزيد على 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين: أولًا: كل من شوش على إقامة شعائر ملة أو احتفال ديني خاص بها أو عطلها بالعنف أو التهديد، ثانيًا: كل من خرب أو كسر أو أتلف أو دنس مبان معدة لقامة شعائر دين أو رموزًا أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس. ثالثا: كل من انتهك حرمة القبور أو الجبانات أو دنسها، وتكون العقوبة السجن الذي لا تزيد مدته على 5 سنوات إذا ارتكبت أي من الجرائم المنصوص عليها في المادة 160 تنفيذًا لغرض إرهابي، وتنص المادة 161 على أنه يعاقب بتلك العقوبات على كل تعد أحد الأديان التي تؤدي شعائرها علنًا، ويقع تحت أحكام هذه المادة أولا: طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدي شعائرها علنا إذا حرف عمدًا نص هذا الكتاب تحريفًا يغير من معناه. ثانيًا: تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية به أو ليشاهده الحضور.
لماذا نقول إن الفقرة "و" في المادة 98 كفيلة بمحاكمة كل المجتمع؟
الإجابة من واقع المادة ذاتها فالمادة حاكمت على النية وليس الفعل، بأن قالت كل من استغل الدين بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، إذن القول والكتابة لفظتين شاملتين يندرج تحتهما أي قول والتفسير هنا يقع على منّ يستخدم هاتين المادتين، كما أن المادة حملت ألفاظًا مطاطية، منها الإضرار بالوحدة الوطنية، فأي لفظ هو بالطبع حمّال أوجه، وبالتالي سيستخدمه المدعي على الوجه الذين يدين المُبدع دائمًا.
أما مادتي الاعتداء على الأديان، فقد جرمتا السخرية دون حدود، إذ تعاقب المادة كل من قلد احتفالًا في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية، أليست السخرية فرعًا من فروع الأدب؟ كما أن الدستور ينص في مادته (65) على أن حرية الفكر والرأي مكفولةـ ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.
ربما يرى البعض أن تفسير المواد ينبئ عن مبالغات، لكن لا عجب فهذه المواد حاكمت البديهيات، ومنها ما حدث مع المستشار يحيى الجمل، الذي وصل لمنصب نائب رئيس الوزراء، ويُلقبه البعض بالفقيه القانوني، وانتقد في أحد البرامج التلفزيونية المناخ السياسي في عصر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وتطرق لحصول مبارك في كل الاستفتاءات الشعبية على نسبة 99%، وقال: "إن الله يحمد ربنا لو حصل عليه استفتاء وجمع 70%"، مبررًا الأمر بأن هناك غير مؤمنين بالأديان السماوية".
ممدوح إسماعيل أحد المحامين اعتبر البديهية التي تحدث بها الراحل الدكتور يحيى الجمل، ازدراءً لله، وأقام ضده دعوى قضائية يتهمه فيها بازدراء الأديان، مما اضطر "الجمل"، للاعتذار عما قال مخافة السجن.
حالة الدكتور يحيى الجمل، نقطة في بحر ازدراء الأديان، ومن هذا البحر أيضًا الحكم الصادر من محكمة جنح أحداث بني مزار في القضية رقم 350 لسنة 2015، بالحبس لثلاثة طلاب أقباط هم مولر عاطف داود وألبير أشرف وباسم أمجد، خمس سنوات، وإيداع المتهم الرابع كلينتون مجدي مؤسسة عقابية لصغر السن عند إحالة ملف القضية، وذلك على خلفية تصوير مقطع تمثيلي ساخر يتهكم على بعض ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام "داعش".
الأزمة أن التحقيق لم يفرق بين السخرية من داعش والسخرية من الإسلام، وذهب كثيرون إلى أن الحكم يمكن تفسيره على أن "داعش" هي الإسلام.
أيضًا في 16 يونيو 2014، سُجنت دميانة عماد، وهي معلمة تبلغ من العمر 23 عامًا في الأقصر، لمدة 6 أشهر، واتهمت بأنها ادعت أن البابا شنودة كان أفضل من "محمد"، وهو ادعاء نفاه مدير المدرسة.
وفي 2015 وجهت إلى إسلام بحيري تهمة إهانة الإسلام وأدين وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وبعدها خفضت المحكمة مدة العقوبة إلى عام واحد في السجن، وتم العفو عنه لاحقًا من قبل عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية.
كما قُدم بلاغ ضد الممثل أحمد الفيشاوي، بسبب فيلمه "الشيخ جاكسون"، يتهمه بأنه قدم رجال الدين، بصورة متشددة، من أجل انتصار صاحب الرقص والفكر المعاصر على صاحب الدين والأفكار المتحررة.”
والمفارقة أن مقدم البلاغ يدعى عبدالرحمن عبد الباري، ويقدم نفسه باعتباره الأمين العام للجنة الحقوق والحريات، في نقابة المحامين بالجيزة.
الأمر وصل إلي درجة أن أحد المواطنين قدم عريضة إلى النائب العام المصري ضد الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، ومفتي الجمهورية التونسية، يتهمهما فيها بازدراء الدين الإسلامي وزعزعة الأمن القومي للبلاد، وذلك بسبب فتوى وتصريحات عن المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، وإباحة زواج المسلمة من غير المسلم من أهل الكتاب.
بين الحين والآخر، تنطلق عدة مطالبات لإلغاء مادة ازدراء الأديان، وكل المناقشات تنحصر في الفقرة "و"، من المادة 98، ولا يتطرق أحد لمادتي الاعتداء على الأديان (160، 161)، ورغم ذلك فإن كل هذه المساعي تُحبط في المهد، ولعل آخر هذه المحاولات ما كان في يونيو 2016، حينما تقدمت البرلمانيتان الدكتورة نادية هنري، والدكتورة آمنة نصير، بمشروع قانون لإلغاء المادة 98 فقرة (و) الخاصة بازدراء الأديان، بناء على طلب وقّع عليه 100 نائب برلماني.
الحكومة رفضت التعديل، وقال المستشار أيمن رفح ممثل وزارة العدل خلال اجتماع اللجنة التشريعية بالبرلمان: إن الوزارة ترى ضرورة وجود الفقرة وبالمادة 98 من قانون العقوبات على ما هي عليه, وأنه لا يجب الخلط بين حرية الفكر والرأي وبين ازدراء الأديان، وأنه لا يوجد حق طليق بدون أي قيود.
بعد أن استتب الأمر بأن فأس ازدراء الأديان لن تُمنع تقدم أحد البرلمانيين، في البرلمان المنتهية ولايته في يناير 2021 ويُدعى عمر حمروش، بمشروع قانون يُطالب فيه بتجريم إهانة الرموز، ينص القانون في مادته الأولى على حظر التعرض بالإهانة لأي من الرموز والشخصيات التاريخية، وفسرت المادة الثانية الرموز والشخصيات التاريخية، بأنها الواردة في الكتب والتي تكون جزءً من تاريخ الدولة.
وحدد مشروع القانون عقوبة إهانة الرموز في مادته الثالثة بأنه «يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف كل من أساء للرموز والشخصيات التاريخية، وفى حالة العودة يعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات وغرامة لا تقل عن 500 ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه.
مُقدم مشروع القانون لم يتطرق إليه من فراغ، لكن أهوته الساحة التي تستبيح حرية الرأي والتعبير، وتقدس ازدراء الأديان، فلما لا يكون واحدًا ممن ضيقوا على المُبدعين، لكن في النهاية رفض البرلمان هذا القانون، مكتفيًا بالمواد (98، 160، 161) التي يمكن من خلالهم محاكمة الناقد والمبدع والنص ذاته.
أيضًا كان الأزهر أعلن عن مشروع قانون لمكافحة الكراهية، كان مفخخًا بالتربص بحرية الرأي والتعبير.
لم يحو القانون سوى ألفاظًا فضفاضة كعادة هذه النوعية من القوانين، فالفقرة الثالثة من المادة الثانية نصت على «منع التطاول على الذات الإلهية والأنبياء والرسل أو الكتب السماوية تصريحًا أو تعريضًا أو مساسًا أو سخرية»، وهي أمور سبق أن حُوكم بها مبدعين منهم نجيب محفوظ –الحاصل على جائزة نوبل في الأدب-، وحلمي سالم عن قصيدته في «شرفة ليلى مراد».
المادة الرابعة، كانت الأكثر عجبًا، إذ كانت كاشفة للتربص بالإبداع، ونصها: «لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير أو النقد أو حرية الإعلام أو النشر أو الإبداع للإتيان بأي قول أو عمل ينطوي على ما يخالف أحكام هذا القانون»، أي أن المادة تمكن من مصادرة كل هذه الحقوق والحريات بجرة قلم.
قانونا مكافحة الكراهية، وإهانة الرموز لم ير أي منهما النور، لكن يبقى ازدراء الأديان، يفعل فعلهما وأكثر، لدرجة أنه يمكن اعتباره إرهاب بالقانون.
وبعيدًا عن القانون، لا ننسى أن هناك منّ وقعوا تحت مقصلة المتطرفين بشكل مباشر، وتعرضوا لاعتداءٍ غاشم بعيدًا عن ساحات المحاكم، ومن هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر فرج فودة، الذي اغتاله إرهابيون في تسعينيات القرن الماضي، وآخر الضحايا كانت الشاعرة أمينة عبدالله، التي تعرضت لتهديدات بالقتل من متطرفين، بعد إلقاءها قصيدة "بنات الألم في مؤتمر طنطا للشعر، وهددها البعض بتشويه وجهها وقتلها.
إذا كان المبدعون هربوا من مشروعي قانون إهانة الرموز ومكافحة الكراهية، فإنهم في مصيدة ازدراء الأديان منذ نحو 40 عامًا، ويبقى السؤال، هل قبل استحداث هذه المواد في قانون العقوبات كانت الأديان مستباحة؟
الإجابة أنه رغم تطور المجتمع إلا أن حرية التعبير في مصر ترجع إلى الخلف، فقديمًا وتحديدًا في عام 1948، تم عرض فيلم ابن الفلاح ليوسف وهبي، وفي لقطة بديعة منه كانت والدته تعرض عليه صور لفتيات من أجل أن يتزوج بإحداهن، فإحدى الفتيات كان فمها كبير فقال بتلقائية: "حرام عليكي يا أمي.. دي بُقها أوسع من رحمة ربنا"، وفي فيلم "شارع الحب" 1959، كان عبدالسلام النابلسي يتفاخر بنفسه ويقول: أنا اتجوز الآنسة حنفي؟ ثم دعا "أبسطها يا باسط"، فألقت عليه زينات صدقي "الملوخية"، فقال بتلقائية: كفاية متبسطهاش أكتر من كده".
والأمثلة كثيرة، لكن يبقى السؤال: هل في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي لم يكن هناك إسلام أو مسلمون يغارون على دينهم؟
الإجابة كان هناك إسلام ومسلمون، لكن كان لدينا أيضًا حرية تعبير، ولم نكن نعرف الفأس حتى نخاف منها، لذلك إلغاء مواد ازدراء الأديان عمل مقدس ينقذ الإبداع.
#سيد_طنطاوي (هاشتاغ)
Sayed_Tantawy#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟