محمد أحمد أبو النواعير
(Mohammed Ahmed Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6826 - 2021 / 2 / 27 - 14:40
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
د. محمد أبو النواعير*
المقدمة :
مع أن مفهوم الاستعمار وما لصق به من مصطلحات الاستحواذ والاحتلال والسيطرة والإخضاع, كلها قد اشتركت في خط مسار واحد لسلوك دولة أو قوة بشرية, تجاه دولة أو قوة بشرية أضعف, مع ذلك فإن الاستعمار الأوربي الحديث قد خرج بمميزات جديدة لم تكن موجودة لدى التجارب السابقة له, إذ أن المختلف في أمر هذا النوع من الاستعمار, هو محاولة توطين بشري وثقافي ولغوي وهوياتي, في المناطق التي يخضعها لنفوذه وسيطرته, فبرزت مع ظهوره مصطلحات جديدة تتلائم ومنهجيته الأيديولوجية الخاصة به, منها (الكولونيالية والامبريالية والرق والعبيد ومسخ الثقافات وتوطين اللغات الوافدة ... الخ), منطلقا من منطلق جيوسياسي يعمد إلى قصد مكان غير آهل يحتاج للوجود ليكون مكانا قابلا للحياة، بحجة كونه قائم على اللاإنسانية، من خلال الاعتماد على الجانب الإنساني أحيانا لتبرير هذا الفعل, أو الجانب الديني, بإعطاء الإذن أو السلطة للعمل على إعمار المكان غير الأهل ، وهذا بتحديد ما يجعل مفهوم الاستعمار من منطلق لغوي متطابقا مع المفهوم الاصطلاحي ، فيعتبر الفعل الكولونيالي سمة منتشرة ومتكررة في التاريخ الإنساني كما لدى الإمبراطورية الرومانية والمغول، وحضرة الأزتك والفتح الإسلامي والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصينية ومع ذلك، فإن كل ما سبق لم يشهد ممارسات استعمارية كالتي قادها الأوروبي. ( 1)
التبرير الأيديولوجي :
لقد عمد الاستعمار الأوربي الحديث الذي انطلق منذ عصر النهضة بثوبه الجديد, إلى تبني عدد من السياسات المنهجية التي كانت تميزه, أبرزها كان منطلقا من مبدأ الإنتشار الجغرافي الواسع, مرة بدافع ديني, ومرة بدافع انساني, والأهم كان بدافع التنافس ودافع الحصول على الثروات المادية والبشرية, ولكن مع ذلك لا يمكن عد كل هذه الأسباب والدوافع حصرية تماما, بل كان هناك مجال واسع لإنطلاق العديد من الدراسات والعلوم التي عملت على دراسة وفهم المجتمعات المستعمرة, لتنطلق بعدها رؤى أيديولوجية, تبناها المحتل الإستعماري, من أجل تبرير وجوده وانتشاره, وعلى الرغم من الغايات النهائية السيئة للمستعمرين, إلا أن ذلك قاد لفائدة ظهور دراسات تم استخدامها بعد ذلك من قبل نفس الشعوب المحتلة, من أجل تحقيق النهوض والإنعتاق من الإستعمار, كالدراسات اللغوية, والتمازج الثقافية, وبعض المحاولات البسيطة للمستعمر لنقل ثقافته العلمية والأدبية لشرائح واسعة من سكان البلدان المحتلة, على الرغم من أن ذلك كان يمثل سببا رئيسا في إطفاء أصالة الثقافات المحلية للبلدان المحتلة .
لقد تعاضدت المعرفة والإيديولوجية الكونيالية المتمركزة حول ذاتها, لتنتج نزعة كليانية, والتي أنتجت بدورها صورة عنصرية عرقية كانت مركزية الثقافة الكولونيالية، تتمحور حول فكرة تفوق الجنس الأبيض البيولوجي والتاريخي وتفوق البناء المؤسساتي والسياسي الأوروبي، ومع الإفقار الثقافي للثقافة المحلية كانت المفاهيم الغربية حول الديمقراطية والعقلانية والتنوير تطرح كأفكار من موقع متعال ثقافيا وماديا وتاريخيا, ليكون المتقبل أو المتلقي هو التابع الهمجي القليل الفكر والثقافة. ( 2)
وعلى الرغم من كون الإستعمار الأوربي في فترات ما بعد عصر النهضة لم يكن هو الشكل الوحيد من أشكال الإستعمار في العالم, حيث كانت هناك أشكال كثيرة ومتنوعة, منها الإستعمار العثماني, والإستعمار الناتج عن احتلال دول لدول أخرى حتى على صعيد القرة الأوربية نفسها, إلا أن دخول البشرية في القرن التاسع عشر, خلق فجوة كبيرة بين أنماط الإستعمار الموجودة في العالم, وبين نمط الإستعمار الأوربي الحديث الذي بات معتمدا على التطوّر الذي أصاب الغرب بالآتي: إختراع وسائل الملاحة في المحيطات للوصول إلى شعوب بعيدة وتطوّر القدرات العسكرية لغزو تلك الشعوب. مما سهّل توسّع الغرب تفوّقه في التنظيم والانضباط وتدريب القوات ، ثم في النهاية الأسلحة المتفوقة ، وسائل الانتقال والإمداد والتموين والخدمات الطبية وكان ذلك كله من نتائج قيادته للثورة الصناعية. تطبيق العنف المنظّم, كما يذهب لذلك صموئيل هنتنغتون. (3 )
النمط الجديد من الإستعمار جاء من خلال الإشتغال على نسق مؤدلج, عمد إلى تغيير ديمغرافي, وثقافي, من خلال زرع نماذج ثقافية داخل البلدان المحتلة, تارة تكون بأشخاص من نفس جنسية الدول المحتلة, أو من خلال أشخاص من أهل البلد, تجري تعبئتهم ثقافيا وعلميا, ليكون مصادر تصدير مؤيد لفلسفة الإستعمار وأدبياته, من خلال مرويات ثقافية كبرى, جرى اعتمادها لتكون انساق عليا, تخاطب طبقات دنيا لتنويرها ! وتتسلل المرويات الكبرى الى الوعي الثقافي الجمعي لتصبح عبر سلسلة من التراكمات أشبه بالمعرفة القبلية التي توجه وتقود الوعي الثقافي و الحضاري لامة ما. ( 4)
الخطاب الكولونيالي كوسيلة لأدلجة الإستعمار :
لا نبتعد كثيرا عن الدقة إذا قلنا بأن الإستعمار الكولونيالي, تعكز على الكثير من المقومات العلمية والاقتصادية والثقافية من أجل أدلجة خطابه التبريري, والذي كان يبرر شرعية بقائه, إلا أن من أهم موارد الأدلجة الكولونيالية هي تصدير خطاب له ثيمة تسلطية عليا, خاصة ببذوق الأوربي الذي كان يمثل دور (السيد), في مقابل الدول المستعمرة, والتي كانت تمثل دور (العبد), كما هو حاصل في جدلية هيجل بين السيد والعبد. وقد كان الخطاب الكولونيالي الثقافي والديني والعلمي والسياسي والإقتصادي, من أهم الوسائل التي عبرت عن التجربة الاستعمارية التي غطت معظم أنحاء العالم في العصر الحديث، فالاستعمار وخطابه متلازمان كون هذا الخطاب نشأ داخل المنظومة الكولونيالية بكل هياكلها، وكان موازيا لها في فعلها اتجاه الشعوب المستعمرة سمي خطاباً. كولونيالياً بوصفه أداة لفرض السلطة يعرفه بيل اشكروفت (الخطاب الكولونيالي هو مركب العلامات والرموز والممارسات الذي ينظم الوجود الاجتماعي داخل العلاقات الكولونيالية). ( 5)
الحديث عن مرتكزات الفكر الأيديووجي الكولونيالي, لا يعني قصر الكلام عن مسبب أو أداة واحدة من أدوات انتشار هذا الفكر, بل نحن نتحدث عن مجالات نظرية, ومجالات تطبيقية عملية, انتشرت في الكثير من الممارسات المؤسساتية والثقافية, حث كانت تؤدي إلى الوصول إلى المركزيات المتسلطة, بتحين الفرصة لتفرض سطوتها، وتبرمجها وفق مطامحها عبر مختلف المؤسسات كالمؤسسات الأدبية، الاقتصادية، السياسية...الخ فالفكر الأوروبي لا يحتوي على ايدولوجيا واحدة فقط وانما على اديولوجيات مختلفة تخدم بعضها البعض, ويكمل بعضها البعض الآخر, كانت تصب في مجملها في إطار إعلاء وتفضيل العنصر الأوربي على غيره من القوميات والشعوب على الأرض. (*)
وعلى الرغم من تعدد التوصيفات التي تبنت المرتكزات الأيديولجية للخطاب الكولونيالي, إلا أن الأقرب منها لواقع الممارسات كان يذهب إلى أن الخطاب الكولونيالي منظومة من المقولات التي يمكن إطلاقها من المستعمرات والشعوب المستعمرة، وعن القوى المستعمرة وعن العلاقة بينها وهو منظومة المعرفة والمعتقدات بشأن العالم الذي تحدت داخل أركانه أفعال الاستعمار وعلى الرغم من هذا الخطاب يتم توليده داخل مجتمع المستعمرين وفي حدود ثقافاتهم، فقد صار هو الخطاب الذي قد يرى المستعمرون أنفسهم داخله أيضاً, عبر عملية تماهي مقصودة, وتنشئة ممنهجة, يقوم بها المُستَعمِر بحسب ضوابط هو وضعها, ويستجيب المُستعمِر له, بحسب ضابط وضعتها الطبيعة البشرية التي تتأثر بالمدخلات التثقيفية الأقوى. ( 6)
لقد كان هناك نوعاً من التداخل والتشابك بين مصطلحي الاستعمار والإمبريالية (*)، وقد ميّز إدوارد سعيد بين الإمبريالية والاستعمار"فأحال الأولى إلى الممارسة والنظرية، ووجهات النظر التي يملكها مركز حواضري مسيطر يحكم بقعة من الأرض قصية. أما الاستعمار فهو عقابيل الإمبريالية، وهو عبارة عن زرع مستوطنات في بقاع الأرض البعيدة، فالفعل الكولونيالي الكلاسيكي، على الرغم من انحساره إلا أن الإمبريالية ما زالت حاضرة من خلال الأسلوب، أو الممارسة التي تنتهجها الدول للإبقاء على الهيمنة، وتثبيت الإمبراطورية، كما هي ممارسات بعض الدول الكبرى في زمننا المعاصر، فهنالك ممارسات ثقافية واقتصادية وسياسية، تتيح صون موقعها المتميز، كمركز حواضري في الدول التي اصطلح عليها بالأطراف أو الهامش"( 7)
لقد كان المرتكز الأيديولوجي الكولونيالي, ذا قدرة كبيرة, وإمكانات واضحة , مكنته من تقسيم وتحديد الشعوب المستعمرة وثقافاتها, عبر مجموعة من الخصائص العرقية, كاللون, والبشرة, والبيئة, والسلوك, بهدف تحقيق مفهوم دونية الآخر واختلافه, حيث اصبح مفهوم (الاختلاف) مجالا شائعاً في النصوص الأدبية للمحافظة على تبعية الآخر, مما يبرر أخلاقيّاً استعباده, ومصادرة وجوده, كونه لا يمتلك الحق في إدارة وجوده بكل ما يحتويه, هذه الممارسة أوجدت اشكاليات عميقة لدى الشعوب التي تعرضت لهذا النسق من الاضطهاد, وقد انعكس مجملها في خطابها, بل انه تحول بفعل فلسفة التقادم, إلى حالة طبيعية يستشعرها المُستَعمَر, أي أن حالة الإحساس بالقصور والدونية, قد تحولت إلى حالة قبول في وعي المُستَعمَر, من أجل إخضاع هذا الوعي, لسطوة ونفوذ تلك الأيديولوجيا, من أجل تثبيت أساسات وجودها.(8 )
على الرغم من أن فلسفة الإمبريالية التي قادت الإستعمار الكولونيالي كانت تريد لنفسها أن تكون شاملة من حيث تعاطيها مع مفهوم الإنسان, إلا أن هذه الشمولية بقيت عرجاء, بتأسيس مفهوم ثقافة المركز والأطراف ! فبحسب تعابير الفكر الليبرالي الذي يعلن المساواة بين الجميع, فإن العنصرية التي مارستها الكولونيالية (بأدوات الإمبريالية) كانت غير منطقية. لذا ليس غريبا أن نجد أن في عمق هذه الممارسة الليبرالية, مبدأ تكوّن وتطور ينادي بالتمييز بين البشرة البيضاء والسوداء, وكانت هذه الفلسفة مدعاة لإحتقار المرء بسبب لون بشرته, وهذا ما دعى الكثير من الباحثين إلى التشكيك بصحة مبدأ العقلانية الذي قامت عليه الإمبريالية الليبرالية, في ممارساتها الكولونيالية. إن المثقف الأسود الذي تعلم عن عصر الأنوار, ويردّ على نفاقه, يختار السبيل الوحيد المفتوح أمامه, وهو السبيل (نحو اللاعقل). وبعد ان تشرب المثقفون السود المنتمون إلى الطبقة الوسطى الثقافة الفرنسية,وتعلموا بثبات أساليبها الأخلاقية ) وعقلها فإنهم أقنعوا انفسهم بأنهم فرنسييون, ولكنهم وجدوا العالم الأبيض عصيّاً على الاختراق, بل قمعيّاً أيضاً (9) ومن هذا المنطلق, تعاظمت فكرة العبودية في الفكر الكولونيالي الإستعماري, على الرغم من أن فلسفات الليبرالية التي استندت عليها الليبرالية, كانت ترفض معنى العبودية بكل أشكالها.
يرى مايكل هاردت صاحب كتاب (الإمبراطورية), بأن أزمة الحداثة الأوربية* قد أظهرت أنواع كثيرة من ردات الفعل العلاجية, ومنها بالأخص ما كان متعلقا بالاستعمار الأوربي لدول العالم, وإخضاع شعوبها بفرض مبدأ التبعية والاستحواذ عليهم, فكان تشكل الكولونيالية وعملية الإخضاع العنصري, حلا مؤقتا لأزمة الحداثة الأوربية, ليس على الصعيدين الاقتصادي والسياسي فحسب, بل وعلى مستويات الهوية والثقافة أيضا. لأن هاردت يرى بأن الكولونيالية تبادر إلى بناء رموز آخرية, أي تقسيم بشري منطلقا من منطلق التفارق الخُلقي والبيئي والنفسي والعقلي, مما قاده للقول بتكشفها كبنية ديالكتيكية معقدة. فعملية البناء السلبي لآخرين لا أوربيين هي التي تقم , آخر المطاف, بتأسيس الهوية الأوربية نفسها وإدامتها, أي طالما أن هناك فرق وتباين بين الأوربي الأببيض المتطور في جيناته الوراثية, والتميز بتطوره العقلي, بالضد من (الأخر= الشعوب الغير أوربية), فإن ذلك سيكون مبررا لسيادتهم وتميزهم وفرض سلطاتهم (الأخلاقية والدينية التبشيرية) فضلا عن أطر الهيمنة الإقتصادي والسياسية. ( 10)
لقد كانت الدراسات الإستشراقية من ضمن أهم الأدوات التي استعان بها الغرب الكولونيالي, من أجل : معرفة تفاصيل حياة وثقافات السعوب المحتلة, لتقديم دراسات وافية لحكومات الدول المستعمِرَة, من أجل تسهيل عملية الهيمنة على شعوب تلك الدول المحتَلَّة, ومن ناحية ثانية عملت تلك الدراسات على خدمة أغراض الهيمنة الغربية, لإضفاء الشرعية على الإمبريالية "وإقناع سكان هذه المناطق بأن قبولهم للثقافة الغربية هي عملية تمدين ايجابية، ومن خلال تعريف الاستشراق للشرق، فإنه يعرف أيضا كيف يصور الغرب نفسه ( وذلك من خلال التعارضات الثنائية فالتشديد على الشهوانية والبدائية والاستبدادية في الشرق يؤكد على الصفات الرشيدة والديمقراطية عند الغرب" ! ( 11)
لقد عملت الهوية الكولونيالية, عن طريق منطق ثنوي (مانوي) قائم على الإقصاء والاستبعاد, حيث يجري إقصاء المستَعمَرين عن الفضاءات الأوربية, ليس فقط على الأصعدة المادية والإقليمية, وليس فقط من حيث الحقوق والإمتيازات, بل وحتى على مستويات الفكر والقيم, لأن الآخر (المُستَعمَر), هو مختلف في كل شيء عن أصالة الأوربي, الآخر هو لا متحضر, هو همجي, لا يستحق أن يكون متقبلا لرقي وتطور وحضارة الأوربي, فيجب أن يبقى تابعا, ويجب مراقبة وضبط سلوكياته, لكي لا يكون سببا للمشاكل ! فنشأ نتيجة لذلك اعتزاز كبير بالهوية الأوربية, بالمقابل حاول الغرب الكولونيالي تمييع هوية الـ (الآخر), في محاولة لصق صفة الدونية على هذا الآخر. ( 12)
وقد لا تكون هذه التوصيفات كلها بعيدة عن الواقع, فهناك نسبة قليلة من السلبيات التي طُبعت بها أخلاقيات الشعوب المُستَعمَرة, كانت تمثل بنيتها الأخلاقية والقيمية, وكانت تمثل فعلا قربا من الهمجية القائمة على المبدأ العنفي في التعاطي مع قضايا الحياة, ومع أن البعض كان يعتبر أن المُستَعمِر هو أشد اجراما وعنفا وممارسة لأدوات القتل من تلك الشعوب, إلا أن هناك فرق يجب علينا أن نلاحظه, وهو أن الدول المستعمرة, أو الأوربية بشكل عام, كانت تحوي على جنبتين, الجنبة الأكاديمية الداخلية التي اشتغلت على العلوم والمعارف بإخلاص وتفاني قاد إلى تطورها, والجنبة الثانية هي جنبة الدولة الحاكمة التي كانت تحوي على السلطة ومسببات القوة, والشغف نحو الإحتلال والإستعمار وتوسيع الإمبراطوريات؛ فعملية المثاقفة (المتبادلة), لم تكن كلها منطلقة من منطلق استعماري استحواذي تدميري اقصائي بحت, ولكن كانت هناك شذرات, ولو كانت بسيطة, كان الهدف منها هو نقل بعض الثقافات والعلوم إلى أهل تلك البلدان.
فالمسألة كان فيه تفريط وإفراط, ومبالغة في بعض المواطن وإهمال في أخرى, بل وصل الحد في التطرف العنصري لدى بعض الآراء الإستعمارية, إلى المناداة بحجب كل أطر التحضر والثقافة الغربية عن الشعب المستعمرة, لأن جميع القيم لا تلبث ان تُصاب بعلل التسمم والأمراض المستعصية على الشفاء فور السماح لها بالاتصال مع العنصر المستعمَر. (13 ) وهو رأي بحد ذاته يمثل أقصى صور الراديكالية العنصرية (البايلوجية), حيث ينطوي نقاء الهويات, بالمعنيين (البيولوجي) الحيوي والثقافي, على اهمية فائقة, ويشكل الحفاظ على الحد الفاصل هاجسا ومصدر قلق لا يستهان به لدى الدول المستَعمِرَة. أما الحدود التي تحمي هذا الفضاء الأوربي النقي فتكون محاصرة على الدوام. !
لقد قامت الأيديولوجية الكولونيالية على فكرة مركزية, ألا وهي ثنائية المركز والأطراف, حيث كانا يمثلان المفهومان الجوهريان لخطاب الكولونيالية, وهذ قاد إلى أن يكون مركز المستعمر هو موطن المعرفة والحداثة والعصرنة والتطور, في حين أن الأطراف الخاضعة للإستعمار, هي مرافئ الخرافة والتخلف, واللا اكتمال والفوضى؛ وتبعا لهذا المنطق، فعلى المركز أن يحكم تلك المظاهر السلبية الخاصة بهذه الأطراف، منطلقا من مبدأ انساني يوجب عليه نشر ما توصل إليه من ثقافة وعلوم, كي يحمي هذه الشعوب من نفسها, حيث أن الدول المستعمرة لجأت في السابق إلى الغاء ومحاربة العوامل التي تعمل على بعث القوميات التي من شأنها تقويض الهيمنة الكولونيالية, فكانت اللغة هي الأداة الأولى من أدوات تحديد الاختلاف القومي, وهذه الأداة تضم عددا من الكيانات البشرية. ( 14)
وعلى الرغم من انهيار هذه النظرية الثنائية المانوية في الوقت المعاصر, التي تنظر إلى الوجود البشري إلى مركز راقي (أوربا) , وأطراف هامشية فوضوية جاهلة, إلا أن ثقافة الهيمنة والإستحواذ قد بقيت مستمرة, إن اتخذت أشكال أكثر خفاءا وتسترا.
وفي المقابل، نشاهد الديالكتيك الكوني القائم على صيرورة نضالية بطيئة، نتجت عن وعي الشعوب المستضعفة بذاتها ولذاتها، انطلاقة لتكسير تلك الأطر التي اعتمدتها الحداثة الكولونيالية، في السيطرة الأيديولوجية على مقدرات الشعوب وتأريخها وثقافتها .
××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
* دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.
1- لومبا, آنيا, في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية, ص: 10, مصدر سبق ذكره.
2- يُنظر : لارين, جورج، الايديواوجيا والهوية الثقافية، ترجمة : فريال حسن خليفة، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى,2002، ص 13- 14.
3- يُنظر : صموئيل هنتنغتون, صدام الحضارات, ترجمة: مالك عبيد أبو شهيوة, محمود محمد خلف، الدار الجماهيرية, 199, ص 82-89.
4- يُنظر: معن الطائي ،المرويات الكبرى وجماليات تزييف الواقع في الثقافة الكولونيالية, مقال منشور على موقع الحوار المتمدن, العدد: 1530 , 24/ 4/ 2006.
5- يُنظر : اشكروفت وآخرون، دارسات ما بعد الكولونيالية- المفاهيم الرئيسية ، مرجع سبق ذكره، ص 10.
* - كانت أكثرية الجنود والإداريين والمستعمرين المتعطشين للذهب والسلطة, ترى أهل هذا العالم الجديد (آخر) يتعذر تغييره, أقل من أن يكون إنسانا, أو هو دون مستوى الأوربيين على الأقل. فقد كانت معاملة القادمين الجدد من الأوربيين لهؤلاء الناس كانت أسوء من معاملتهم لحيواناتهم. يُنظر :
Karl, Marx, The Britisd Rule in india, in surveys from Exile, vol. 2 of political writing (London: Penguin. 1973, p. 306.
6- يُنظر : المصدر السابق.
* - عندما نتحدث هنا عن الإمبريالية, فإننا نتحدث عنها من جانبها الأيديولوجي الذي تم استغلاله من قبل نزعات الإستعمار والكولونيالية الأوربية للسيطرة على الشعوب الأخرى, لذا نجد أن إدورد سعيد يعرف الأمبريالية بأنها "الممارسة, والنظرية, ووجهات النظر التي يمكلها مركز حواضري مسيطر يحكم بقعة من الأرض قصية, أما (الاستعمار) الذي هو دائما تقريبا من عقابيل الإمبريالية,فهو زرع مستوطنات في بقاع من الأرض قصية. وكما يعبر مايكل دويل, فإن الإمبراطورية هي علاقة رسمية أو غير رسمية, تتحكم فيها دولة ما بالسيادة السياسية الفعّالة لمجتمع سياسي آخر. يمكن تحقيق هذه العلاقة بالقوة, أو بالتعاون السياسي, أو بالتبعية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. أما الامبريالية فهي ببساطة العملية أو السياسة اللتان بهما يتم تأسيس الامبراطورية أو إدامتها والحفاظ عليها. وفي أيامنا هذه يكاد يكون الاستعمار المباشر قد انتهى , لكن الامبريالية, تستمر حيث كانت موجودة دائما: في مناخ ثقافي عام, وفي ممارسات سياسية وعقائدية واقتصادية معينة أيضا. سعيد, إدوارد, الثقافة والإمبريالية, ترجمة : كمال أبو ديب, دار الآداب للطباعة والنشر, بيروت- لبنان, الطبعة الرابعة, 2014, ص 80.
7- أبو شهاب , رامي, السرديات الكبرى والهوية بين خطابين: المستعمر والمضاد له في الدراسات مابعد الكولونيالية , مقال منشور في جريدة القدس العربي, Jun 22, 2016.
8- أبو شهاب, رامي, الرسيس والمخاتلة- خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر النظرية والتطبيق, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت- لبنان, الطبعة الأولى, 2013, ص : 75.
9- يُنظر : غبسون, نايجل سي, فانون- المخيلة بعد الكولونيالية, تر : خالد عايد أبو هديب, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, بيروت- لبنان, الطبعة الأولى, 2013, ص 140- 141.
*- لقد تزامنت أطروحات الحداثة وتقديس العقل الأوربي الغربي, مع مشاريع الإستعمار الغربي, لذا نجد أن مفهوم المركزية الغربية (العقلية والفكرية والثقافية), قد توائم مع مد أذرع الاستعمار الغربي لكل أرجاء المعمورة, وفي عصر ما بعد الحداثة. أما عصر ما بعد الحداثة, فقد كان على النقيض من ذلك, متوائما مع نقد مبدأ تقديس العقل الذي جاء به نتاج الفكر الأوربي, حيثُ نُقِدَ العقل الذي كانت له السيادة المطلقة بداية من القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين, أي لحظة الاستعمار الغربي لبقية العالم تقريبا. فقد ساد الاعتقاد أن للعقل وطنا واحدا وهو أوربا, وأن الحضارة التي ينجزها العقل الأوربي هي الصحيحة والسليمة, ومن ثم يجب ادراج جميع البشرية في مسلك العقل الأوربي! بما في ذلك عبر الاحتلال والاستعمار. وقد تم سحب هذه المقولة إلى عصر ما بعد الحداثة, عصر نهاية الاستعمار التقليدي وبدأ الإستعمار المعاصر, والذي انطلق من مقولة أن الغرب هو صانع الحضارة بامتياز, وأن التأريخ الغربي هو الذي يجب أن يرتب ما بعد الحداثة وتداعياها على العالم كله ! ومن هذا المنطلق فُرضت مقولة أن العالمية هي الغربية, وأن جميع ما ينتجه الغرب هو بالضرورة قابل للتصدير, كأفضل وأسلم طريق لكتابة التأريخ الحديث, ثم ما بعد الحديث. يُنظر :
ثنيو, نور الدين, قراءة وكتابة تأريخ الاستعمار في لحظة ما بعد الكولونيالية, بحث منشور في المجلة العربية للعلوم السياسية, تصدر عن الجعية العربية للعلوم السياسية, العدد 33, 2012, ص 57-58.
10- يُنظر : المصدر نفسه, ص : 193.
11- جديلي, بسمة, دراسات ما بعد الكولونيالية من منظور أبرز أقطابها, مجلة إشكالات؛ دورية نصف سنوية محكّمة تصدر عن معهد الآداب واللغات بالمركز الجامعي لتامنغست – الجزائر, العدد التاسع, 2016, ص: 241.
12- يُنظر : هاردت, مايكل وأنطونيو نيغري, الإمبراطورية- امبراطورية العولمة الجديدة, مصدر سبق ذكره, ص 194.
13- يُنظر : المصدر السابق, ص 194.
14- يُنظر : بلقيز, عبد الإله, الفرنكوفونية- أيديولوجيا- سياسات- تحدّ ثقافي- لغوي, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت- لبنان, الطبعة الأولى, 2001, ص 99- 100.
#محمد_أحمد_أبو_النواعير (هاشتاغ)
Mohammed_Ahmed_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟