|
تجري السمكة من محطة لمحطة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6817 - 2021 / 2 / 18 - 23:18
المحور:
الادب والفن
حبل يتدلى في الفضاء، والشمس تحترق وترسم جمرا أحمر في الافق البعيد، حروف ورقية الطعم تلعب بها الريح في الشارع، تطيرها في السماء مع حبات الرمل الدقيقة، الحبل المتدلي يتحرك يمينا ويسارا .. يتحرك شمالا وجنوبا.. في
جميع الاتجاهات، حسب حركة الجسد المتدلي، والذي يرسل ارتعاشاته الأخيرة. الجسد الساكن يتأرجح في الفضاء، يدور حول نفسه، مئات العيون الباردة تحدق فيه وتتمنى لو تستطيع أن تحيله حرفا ورقيا يطير مع الريح وحبات الرمال، تتمنى لو يتلاشى الجسد المتأرجح في الفراغ، يذوب في الهواء، ويختفي مثل دخان سيجارة تحترق .. تحترق الشمس وتحرق الأرض المحروقة، والآف المسحوقين يخرجون من قبورهم وأيديهم على رؤوسهم، ويستجدون قطعة خبز من جلادهم قبل أن يسلخ جلودهم في الشوارع، في المكاتب، في المصانع، في الزنازين أو على شاشات التلفزيون. تحترق الشمس كل يوم، وتطفئها أنهار الويسكي والشامبانيا وحليب النياق على موائد الجنرالات والرؤساء والملوك والشيوخ والأباطرة والقياصرة ورجال الأعمال وأصحاب البنوك ورؤوس المال وذيوله. يساومون نصرهم وهزيمتهم، ويعدون القتلى والمحروقين، ويسبحون الله وحده ويحمدونه، ويتبرعون بقطعة نحاسية يقذفونها أمام المغني الأعمى في الشارع، ويطلبون منه أن يغني، أن يمدح السلطان وحاكم المؤمنين. آه لو أجد الفكرة التي من أجلها أستطيع أن أحيا وأموت !! حرقت البخور ليلة ميلادي .. وضعت الجاوي والفاسوخ على جمر الكانون، وغسلت لساني بالماء المالح، ولبست صباطي، وفتحت الباب، وانطلقت في أصقاع الدنيا. أسير في السهول والقارات حافيا مدمى القدمين، وجسدي يقطر بدم الحيض الساخن، أجرجر خلفي الحبل السري الذي يربطني بنخلة كبيرة وسط ساحة بيتنا القديم، أتدحرج من شارع لشارع، ومن مدينة لمدينة، أسقط في المجاري والأنهار والبحار، أسقط مرات ومرات، اسقط وأنهض وفي راسي ورم بحجم رمانة، أصرخ بملء رئتي .. أصرخ كما يصرخ كل الأطفال حين يولدون ويرون أول مرة في حياتهم هذه الوجوه والعيون والأنوف والآذان والشفاه. يالهذا المخلوق الغريب .. يالهذه الكارثة.. ماذا نفعل في هذه المغارة في منتصف الليل ؟.. وأنا .. لماذا اليوم .. الآن بالذات ؟.. لماذا ليس أمس ؟ أو غدا ؟ أو بعد غد ؟. ولماذا هنا وليس هناك؟. وبسكين صدئ قطعت الحبل السري الغليظ الذي حملته معي عشرات السنين، قطعته بضربة فأس كحية مسحورة، سقط على الأرض يزحف ويزحف حتى اختفى في شق ضيق في جدار مسود في دهاليز الذاكرة. اقفل عيني بيدي، وأضع يدي في جيوبي وأقفز نحو السماء .. سوداء .. فارغة ..باردة، تجتازها أصوات بعيدة ترن وترتطم بطبلة أذني، أغنية الصياد الأعمى الذي عاد بأشرعته الممزقة ذات ليلة محملا بسمكة وحيدة تتألق على ضوء فناره، وتعكس أشعة الضوء الباهت، ترتعش بين أصابعه ارتعاشاتها الأخيرة حين ألقى بها وسط جمع النساء على الشاطئ، حيث تحولت حية تسعى وتبتلع كل ما حولها، ابتلعني بجسدي الذي يما زال يقطر بدماء الحيض المتخثرة ذات الرائحة القوية. وتعود الحية كما كانت، سمكة تجري في الفراغات المتعددة، وتسكن طرقات المدن المهجورة الغارقة في طمي الأنهار، تسكن الحجرات الضيقة المسكونة بالطحالب والرطوبة وأغاني الفقر والرماد، تجري السمكة من محطة لمحطة، وتطير في سماوات غابت عنها الألوان، تطير وتفقد زعانفها في الطريق .. تتساقط، تتقشر وتنهار عارية على الرصيف المقابل في علبة القمامة، تطأها أقدام الرجال والنساء المسرعين إلى جحورهم اليومية، تبول عليها كلاب العجائز المتقاعدين، ويلتقطها في المساء عامل أفريقي لم ير في حياته سمكة عارية على الرصيف تطأها أقدام العابرين ويقذف بها لقطط الشوارع. ويعود الصياد الأعمى حزينا، مدركا أن أحدا لا يستمع إلى حكايته، يعود إلى البحر على قدميه المتورمتين، يطفو على سطح الماء، يتضرع للحوت الكبير أن يريه الطريق، ويتوسل للنجوم البعيدة الباردة أن ترسل إليه نجمة سوداء تضيء له طريق الشاطئ، وطريق الأعماق الداكنة، وترسل إشارات للأسماك النائمة تخبرها بقدومه باحثا عن جنية الأعماق. ويرسل بريدا الكترونيا، ثم يتلفن إلى الله المتربع هناك على عرشه، يلعب بالنرد وحده على طاولة صغيرة في ركن منعزل من السماء، يتجرع قهوته الباردة، وينهي سيجارته الصباحية، ويتثاءب بتعب، حين يسمع صوت رنين التلفون، يقول "ميرد" دون أن ينهض، ويواصل اللعب وحيدا مع ظله الضخم دون أن يفكر لحظة واحدة في الصياد الأعمى الذي جذبته التيارات المائية الى وسط المحيط في عاصفة لا يرجع منها أحد. غير أن الصياد الأعمى كان يعرف أن الله لم يعد أكثر من عجوز هدمه الزمان والكحول، لايسمع ولا يرى ولا يتكلم، مجرد شبح يأكل ويشرب ويخرا على العالم، يقضم رقاب البعض من حين إلى آخر، أو يرسل بهم إلى أعماق البحر، ويطأ بقدميه أطفال الشارع، هذا على الأقل ما تتناقله أفواه سكان قريته على الشاطئ. الصياد الأعمى بعد ان تعب من الصراخ والصلاة والتضرع، وعرف أنه ليس هناك أحدا يسمعه، وقبل أن تجذبه المياه الباردة إلى أعماقها، رفع رأسه عاليا إلى السماء، وعمل له إشارة من ذراعه صارخا "بره نيـٌك". ويعود إلى الشاطئ بأشرعته الممزقة، حاملا في سلته رأسه المقطوعة، ترتسم على شفتيه ابتسامة القديسين.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليبيا : كارثة فبراير المجيدة
-
الدال والمدلول وما بينهما
-
علاقة اللغة بالأشياء
-
هل كلمة -كلب- تنبح ؟
-
الحرف الأول
-
الحرب ضد العدم
-
الآلة والدولار والزمن
-
إصطياد الزمن
-
طعم الكارثة
-
العدمية والثورة
-
العدمية وأخلاق العبيد
-
الرجل والملح
-
الجهادية ليست حركة عدمية
-
ضجيج الأشياء
-
ميلانكوليا
-
السلطة والمال والكينونة
-
خلق الله الأنف لحمل النظارات ..
-
معنى الحياة والموت
-
قذارة البشر .. والآلهة
-
عبثية الإنتحار
المزيد.....
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|