|
(محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
صباح هرمز الشاني
الحوار المتمدن-العدد: 6814 - 2021 / 2 / 14 - 14:45
المحور:
الادب والفن
حسب تعريف كوبيديا للأسطورة: هي حكاية تقليدية تروى أحداثا خارقة للعادة، أو تتحدث عن أعمال الآلهة والأبطال وهي تعبر عن معتقدات الشعوب في عهودها البدائية، وتمثل تصورها لظواهر الطبيعة والغيبيات في عقائد الأغريق القديمة، تحكي معظم الأساطير عن أناس وأماكن وأحداث يمكن إدراكها. وفي عهود أقرب تقوم بعض الأساطير على أشخاص حقيقيين أو أحداث حقيقية، ولكن الكثير منها يتعلق بشخصيات خيالية. ولو قارنا هذا التعريف للأسطورة بالرواية التي نحن بصددها، من حيث حكايتها وأحداثها وشخصياتها، لتبين لنا تطابقا كبيرا بينهما. ذلك أنها تعول على أحداث خارقة للعادة، متمثلة هذه الأحداث بالحروب الدائرة بين الآلهة بالصواعق والأمطار والرعود وكل ما هو غير طبيعي و غير متوقع. كما أنها تتصدى لأحداث لا يمكن أن تجري على أرض الواقع، وهي أقرب الى الخيال منه الى الحقيقة، وتصور الآلهة والأبطال على الشاكلة ذاتها. لهذه الأسباب التي تعتمد على الأسطورة الأغريقية، في متنها الحكائي وبناء شخصياتها، تختلف هذه الرواية لأحمد خلف عن غيرها من رواياته، وثمة سبب أخر لا يقل أهمية عن الاسباب الآنفة الذكر، إن لم يكن أهمها، وهو لغة السرد البلاغية التي تميزت بها، هذه اللغة التي لا يتفوه بها إلآ الآلهة والأباطرة والشعراء، مذكرة إيانا بأبطال ملحمة (الألياذة والأوديسة ) لهوميروس، والمسرحيات الأغريقية للثلاثي (أسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس). ولو لا إتباع المؤلف لهذه اللغة، نهجا لروايته لكانت قد فقدت أهم مقوماتها الفنية، ألا وهي وحدة الموضوع. وبإضافة هذه اللحمة على روايته التي تعول على الأسطورة في متنها الحكائي، يمنح الشروط والمواصفات المتوفرة فيها حقها، من حيث بنائها الفني وتماسكه في وحدة فنية.
إن الثيمة التي تدور حولها هذه الرواية، يمكن أن تنسحب الى كل الدول التي تحكم شعوبها الأنظمة الشمولية والدكتاتورية المتمثلة بالرأس الهرمي لحاكمها الطاغية. وإذا كان العراق من أكثر الدول في العالم كذلك، فمن الطبيعي والحال هذا أن تتصدى هذه الرواية الى شعب هذا البلد المسكين. واللافت للنظر أن أبطالها هم الآلهة ومن هم أقل شأنا منهم وليس شعب أثينا، أمثال كبير الآلهة زيوس وأبنته فينوس، ومارس آلهة الحرب والدمار، وكيوبيد آلهة الحب، والآلهة روميلوس، والملك (مينوس)، كما أن الصراع الدائر فيها ليس بين الآلهة والشعب، وإنما بين الآلهة نفسها، بيد أن المتضرر من هذه الحرب هو الشعب فقط. بدليل أن السارد الضمني يكرر الجملة التي تكسب هذا المعنى ثلاث مرات في الرواية، وفي كل مرة بصياغة مختلفة عن الأخرى. ليقر هو الآخر بأنه عن طريق إهمال أثينا، يتضامن مع الآلهة زيوس في نسيان هذه المدينة العريقة، وإضطهاد شعبها المغلوب على أمره. في المرة الأولى بهذه الصيغة: (ها أنتم ترونني لا أتحدث عن أثينا بل عن آلهتها.). وبالتأويل ليس عن بغداد، بل عن حكامها المستبدين. وفي الثانية: (ها أنتم ترونني اتحدث عن كيوبيد وفينوس وقد نسيت أثينا ولم آت على ذكرها). والثالثة: (ها أنتم ترونني أواصل الحديث عن فينوس وكيوبيد وقد أرجأت الكلام الى أثينا). وموحيا من البداية عن طريق السرد الذاتي (أنا)، الى أنه لو كان الأمر لا يعنيه لما ورط نفسه في رواية ما حدث. أي أنه جزء من الحدث، وينال قسطا من أضراره. لذا فبالإستناد الى قصدية السارد، في إيحائه الى نشوب هذا الصراع في العراق، سوف أحاول، بالتعويل على هذه القصدية، تفكيك شفرات هذه الرواية. مبعث الصراع الدائر بين الآلهة، هو على إمتلاك الصولجان، ذلك أن من يناله هو الذي سيهيمن على زمام الأمور كلها. لذا فما على الطرف الذي ينوي الإنقضاض على خصمه للحصول على الصولجان، إلآ أن يسعى لإيجاد وسيلة خسيسة لتحقيق هذا الهدف، وحياكة نسج المؤامرات، كما هي قائمة في عهدنا الحالي على قدم وساق، كذلك فهي ولربما بشكل أوسع كانت تدار من خلف الكواليس قديما. لتذكرنا المؤامرة التي حاكها مارس ضد زيوس بالمؤامرات التي شهدها العراق من يوم تأسيسه عام 1921 الى يومنا هذا، وهو يتوسل ب (مينرفا) الطيبة عشيقة زيوس، أن تتوسط له لدى زيوس النائم في حضنها، أن يعطيه الصولجان لليلة واحدة فقط، عاهدا إياها أنه سيعيده اليه الذي بطبيعة الحال يخون العهد، ويتحدى أثينا للهيمنة على زمام الأمور، كون الصولجان في متناوله. ترى ألا تذكرنا هذه المؤامرة بعام 1968، عندما أتفق الأنقلابيون مع ضابطين كبيرين في الحكومة بتقليدهما لمناصب كبيرة، أثر إستيلائهم على الحكم، وعندما نجحت خطتهم، بدلا من أن يفوا بوعدهم للضابطين، قاموا بنفيهما خارج البلد، ومن ثم تصفيتهما. بالرغم من أن هذه الرواية كتبت بعد عام ونيف من سقوط النظام السابق. أيلول 2003- تشرين الأول 2004، غير أن فيها من الأحداث الموحية الى فترة ما بعد الإحتلال، أي الوضع المزري الذي يعيشه الشعب العراقي حاليا. وهي بذلك تتصدى لأبرز وأخطر، لا وبل أسوأ عهدين مر بهما العراق، من عام 1968 – 2003. ومن 2003 الى يومنا هذا، حيث عاش الشعب العراقي تحت ظل الحروب والفقر والجوع والمهانة. إن جملة: (لقد تركوا المدينة حطاما بعدما أشبعوها عبثا وفوضى)، لا تنطبق هذه الجملة على مدننا للحطام الذي تركه النظام السابق فحسب، وإنما على النظام الحالي أكثر. فإذا كانت صواريخ أمريكا والدول الحليفة معها في حرب الخليج، تهز مدينة بغداد من جذورها، وتدمر بنيتها التحتية، بكل ما تمتلكه من ثروات، فإن دخول داعش الى مدينتي الموصل والرمادي، أدى الى تدميرهما بالكامل، لا بل فعلا كما يقول السارد، لقد تحولتا الى حطام. وهذه المفردة، مفردة (حطام) فقط تنطبق على ما حل بهاتين المدينتين. أما جملة: (كان ذلك توريطا لبعض أبنائنا في الدخول الى صميم التهلكة). فهي بقدر ما تذكرنا في سوق أبنائنا الى أتون الحرب في مواجهة ثلاثون دولة في العالم، وهي تمطر بلا رحمة بوابل أسلحتها الفتاكة صدور هؤلاء الشباب في صحراء جرداء ومفتوحة للعدو، بالقدر ذاته تذكرنا بمذبحة سبايكر الذي راح ضحية توريط أبنائنا في هذا المعسكر، أكثر من الف و ستمائة شاب . وجملة: (والثمن الذي دفعناه نحن أبناء أثينا كان باهضا)، توحي الى الثمن الذي دفعه أبناء بغداد، سواء في العهد السابق، أو العهد الحالي، ليس عبر تضحياتهم في حرب الخليج فقط، وإنما في الحرب مع داعش أيضا، ولم يقتصر الثمن على التضحية، بل تجاوزه الى تجويعهم وسلب حرياتهم. وأيام الحصار ما زالت عالقة في ذهن الشعب العراقي، وقد بلغ الجوع به حدا أضطره الى تناول علف الحيوانات الممزوجة مع نوع من الحبوب الموزعة للحصة التموينية. وإذا كان الحصار في العهد السابق قد دفعه أن يمسي كذلك، فإن الفوضى المستشرية في البلد في العهد الحالي، دفعت الكثير من الناس الى الإنتحار، نتيجة سوء معيشتهم. ناهيك عن عمليات النهب والخطف. أما عن الحرية الممنوحة في السابق، لا مجال للنقاش حولها، لأن من يأتي على سيرة الخروج عن نهج النظام مصيره الموت. والحرية التي جاءت بها أمريكا لا تختلف عن حرية النظام السابق، إلآ في شيء واحد، وهو أن المعارض في السابق كان يقضي عليه النظام بشكل علني، أما في هذا العهد بشكل سري. فإما أن يخطف، أو يتم تصفيته بالرصاص الكاتم. وجملة: (أما نحن جمهرة الناس من أبناء أثينا فقد كنا نحدق مبهورين بثور المدينة مطروحا ومحزز الرقبة، دون إعطاء فرصة المشاركة في اللذة من أبناء مدينتا.). تذكرنا هذه الجملة بالهدايا ونوطات الشجاعة التي كان الطاغية يوزعها على المقربين والموالين له، بمسوغ تضحياتهم، ودفاعاهم عن الوطن، بينما الحقيقة هي بعكس ذلك، أنه كان يغدق هذه الأمتيازات لهم، لأنهم كانوا يدافعوا عنه وعلى بقائه في كرسيه، في الوقت الذي كان فيه الشعب يتضور جوعا، ولا يستطيع أن يعبر عن الظلم الذي لحق به، وهو يرى كلاب النظام يزدادون ثراء، ومن أمثاله يزدادون فقرا. أما في العهد الحالي فيذكرنا هذا الثور المطروح، بالكعكة التي تقاسمتها الأحزاب فيما بينها، وهذه الكعكة هي ثروات الشعب العراقي التي نهبتها هذه الأحزاب لتثري أبنائها وبناتها وأحفادها، وتزيد من أملاكها وعقاراتها في الداخل والخارج، وأبن الخائبة المسكين إذا ما تجرأ ودافع عن حقوقه، عن طريق التظاهر، سوف يتعرض إما للخطف، أو الأغتيال بالرصاص الكاتم. لأن الديمقراطية التي جاءت بها أمريكا، هكذا ينبغي أن تطبق في العراق، وإلآ فهي ليست ديمقراطية. ولعل هذه الجملة تعبر عن العهدين، في أصدق معانيها: (حين بلغ الأباطرة الأسياد أحتجاجات نفر من الشباب أرسلوا لهم عشرة من رجال أشداء مدججين بالهراوات والقبضات الحديدية وسببوا بها ضربا مبرحا، وراحوا يسومونهم أصناف العذاب على مرآى ومسمع من أهاليهم، بعد ذلك الضرب المبرح لم يعد الأهالي يعلمون ماذا حل بأولادهم وفي أي المغارات دفنوا أو حشروا حتى قيام الساعة.). ما من إلهة من الآلهات الأربع المتصارعة فيما بينها، داعية للخير، بما فيهم زيوس كبير الآلهة. وبالرغم من أن فينوس ترمز الى الوطن، ويحبها الكل، بيد أنها هي الاخرى مثل الآلهة الأربع لم تنج من حبها لنفسها، وهي تسمح لمارس أن يواقعها لتحبل منه، بعكس شقيقتها (سكالا) الطيبة العفيفة التي لم تسلم نفسها لمخلوق. لذا فإن هذه الشخصية وإن كان ظهورها قليلا في الرواية، إلأ أن طهارتها، جعلتها أكثر تأثيرا وقوة على الأحداث الجارية فيها، قياسا مع شخصية فينوس، ذلك أنها تسمع الى نداء الجماهير وتستجيب له. أو كما يقول السارد: (ولكن من أجل سكولا محبوبة الجميع، والتي يطلقون عليها سكولا المتعففة عن الدناءات والتي تنكر ذاتها من أجل محبة الضعفا وفقراء الأرض. .). إن فينوس أبنة زيوس، لإستسلامها لغواية مارس، وربما كما قيل، بالعكس هي التي أغوته، ولم تصغ لنصائح شقيقتها سكولا العاقلة والعفيفة، فإن صح هذا، فإن الخطيئة لهذه الأسباب تجسدت فيها، لتصبح عاهرة، أو كما يقول السارد: (ينالها كل مفلس، هي سبب الخراب فماذا ستفعل بالجنين المسخ في أحشائها؟ أين ستلقي به يا زيوس؟). إن إستسلام فينوس لغواية مارس، هي بمثابة إستسلام الشعب العراقي لحكامه، وعدم التصدي له، وهو يقوده الى حروب لا ناقة له فيها ولا جمل في العهد السابق، وينهب ثرواته في هذا العهد. (أثينا أية نهاية تنتظرك في آخر المطاف. . أجيبي على صرختي وندائي! أين العهود؟ وأين الوعود؟). هنا في هذه الصرخة التي ترددها الجماهير تكمن محنة فينوس. تأويلا بالحرية والإنفتاح والسعادة التي وعدت بها الأحزاب للشعب العراقي التي جاء بها الأمريكان على دست الحكم. فإذا بهذه الحرية تنقلب الى كم الأفواه، والإنفتاح الى الإنغلاق إقتصاديا وأجتماعيا، والسعادة الى نقمة وتعاسة. أو كما يقول أحدهم: (كنا جميعا نعرف حقيقة ما يجري وكيف يكذب علينا السدنة.). في إشارة الى المسؤولين الذين يسوقون العراق الى الهاوية، من خلال التعويل على مقولة رومل الخسيسة: أكذب أكذب حتى يصدققك الشعب. أية صرخة مدوية هذه التي تجهل ما سيحل ببغداد؟ هل ثمة صرخة أقوى منها، من ألآ تعرف مصير مدينتك التي كانت قبلة المدن! هل من المعقول أن تتحول هذه المدينة الى ثكنات لميليشيات مدججة بالسلاح، والى مرآب لتراكم النفايات، وسواتر وصور عجيبة وغريبة ملصقة على جدران في الشوارع والأزقات، تشوه معالم المدينة. نعم ليس أصعب من ألآ تعرف ما سيحل بمدينتك؟، ولكن الأصعب أن تعرف بأن ما سيحل بها سيكون الأكبر والأسوأ: (ألم تكن هذه المدينة صرحا من صروح الدهر؟ كيف تجرأ زيوس الجبار على تهديدها بالصاعقات الماحقات، حتى قضى على كل زرع وأمات كل ضرع). بالتأويل الى العهد السابق: (كيف تجرأ الطاغية على تهديد بغداد بالدخول في معركة غير متكافئة مع ثلاثين دولة، حتى قضى على خيرة شبابها، وهز عرش بنيانها الإقتصادي والأجتماعي. وكيف تجرأ رافع شعار الديمقراطية الحالي على تهديد الموصل والرمادي بالصاعقات الماحقات من أجل إخراج داعش منهما، حدا بلغ الحطام؟. ما الفارق بينهما؟ بين النظام السابق والنظام الحالي؟ السابق دك بغداد، أما هذا النظام فقد دك مدينتي الموصل ونينوى. ما الفرق بينهما إذن؟ وبشكل أوضح أن كلا النظامين حولا العراق الى حطام. هذا هو السؤال الذي تطرحه هذه الرواية دون أن تجيب عليه. ذلك أن أمريكا، لم تأت بجديد، بقدر ما جاءت بنظام لا يختلف كثيرا عن سابقه. إن السارد يروي الأحداث من زوايا عديدة وليس زاوية واحدة. ففي مطلع الرواية يرويها بإعتباره على إطلاع بكل ما حصل وجرى في مدينة أثينا. وبعد عدة صفحات يرويها كما لو كان قد رآها بأم عينيه، وهو يراقب ما يجري من مكمنه: (رأيت كيف تجمع حشد من نزقين وأباطرة وجمع من سدنة العابد حول الثور المذبوح). ثم يتبع أسلوب السماع أو النقل من الآخرين في سردها، كما في هذه الجملة: (قيل أن فينوس أبنة زيوس هي الدافع الذي جعل الناس في حالة من مرح ومسرة في بداية الأمر ، حتى إذا بلغ الإنشراح مداه، تحولت الأفراح الى أتراح). وبغض النظر عن إختلاف زاوية السرد في هذه الجملة عن الجملتين السابقتين، فإن قصد السارد منها، تذكرني ببداية إستلام قادة 1968 للحكم في العراق، حيث أطلقوا سراح المسجونين، وأعادوا المفصولين الى وظائفهم، وأنفتحوا على الأحزاب المعارضة، بلغ حدا الى عقد التحالفات معها. ولكن ما أن أستقروا في الحكم، حتى أنقلبوا على هذه المكاسب. وإذا كان السارد في المرة الأولى يعتمد في سرده على مدى معرفته بأحداث الرواية، وفي المرة الثانية شاهدا عليها، وفي المرة الثالثة نقلا، فإنه في المرة الرابعة أعتمد على تسجيلها، وهو يقول: (حين وجدت ذلك يتكرر لمرات عدة امتشقت اليراع لتسجيل ما اراه وما أسمعه وما يحاصرني من أخبار وحكايات.). في إشارة واضحة الى أنه بدأ بكتابة هذه الرواية. (اليوم يؤمن النقد الروائي بأن الرواية على خلاف الشعر والملحمة والتمثيلية وكل الفنون النثرية الاخرى، ينبغي أن تتضمن شيئا خارقا وغير عادي يكون من شأنه أن يدفع الحدث في كل لحظة الى مأزق معين ونحو أفق جديد. وأول الأشياء التي يمكن تؤدي ذلك هو التناقض. ويصير من المحتمل أن تكون كل شخصية مؤهلة لأن تحتوي تلك البذرة، إن لم تكن تحتويها أصلا.).1 وأبرز الشخصيات المؤهلة لأن تحتوي بذرة التناقض في داخلها في هذه الرواية لتدفع الحدث في كل لحظة الى مأزق معين، هما فينوس ووالدها زيوس. وذلك من خلال التقلبات الحاصلة في مواقفهما. زيوس مع الشعب وفينوس مع كيوبيد، وذلك من خلال الإنتقال من الحب الى الخيانة، بالنسبة للثاني، وعزوف الأول عن معاناة الشعب، والإنشغال بشهواته، فبالإضافة الى فينوس وزيوس، فقد لعبت شخصية كيوبيد الدور نفسه، عبر تراجعه من ساحة المعركة، وإنهزامه منها دفاعا عن فينوس ووالدها زيوس. ولكن الثلاثة في النهاية، يعودون الى موقفهم السابق الذي تخلوا عنه، أو أن ظروفا غير طبيعية جعلتهم، أن يتخذوه. وهذا التحول في شخصيات روايات أحمد خلف ليس جديدا، إذ وظفه في روايته التحفة (الحلم العظيم) في شخصية الفلسطيني. ولكن الفارق بين التحولين، هو أنه في هذه الرواية، يأتي بشكل غير مفاجيء على المتلقي، بينما في الحلم العظيم بشكل مفاجيء. لم يقتصر إهمال زيوس لأثينا التي كانت صرحا من صروح الدهر، ومعروفة بناسها الذين يعيشون بمرح وسعادة، وإنما راح يهدد ضربها بالصاعقات الماحقات: (حتى قضى على كل زرع وأمات كل ضرع.). أما فينوس التي تحمل جنين مارس في أحشائها ولا تعرف مصيره وعلى أي شاكلة ستكون هذه النطفة التي تحملها من الجاني، في خطوة لتراجعها من فعلتها الشنيعة، لا تتوانى أن تصب جام غضبها على عبث الآلهة، بإعتبارها قاسية على الرعية التي ترزح تحت نيرها وبلائها، أو كما تقول: (آه يا لأثينا المسكينة التي أهملتها آلهتها وعافتها نهبا للجناة والبغاة). ترى ألا تذكرنا هذه الصرخة التي تطلقها فينوس، بصرخة الشعب العراقي، وهو يطالب بنأي الجناة والبغاة من التحكم بمصير العراق؟ أو كما يقول السارد: (لماذا يجري هذا كله وزيوس والآلهة الأخرى لا يحركون ساكنا.. ؟). وبالتأويل. . لماذا يختطف يوميا عشرات من الشباب في ساحات التظاهر، ولا يكشف المسؤولون عن الجهة التي قامت بعمليات الخطف، وهكذا بالنسبة لعمليات أغتيالهم، سرا أو علنا. اما كيوبيد الذي عوقب من جاتب مارس، لم يصمد أمام العاصفة التي أجتاحت أثينا، وصيحة مارس المدوية لتحدي كيوبيد، جعلت من: ( أثينا ميدانا لعبث العابثين). ليدخل أتباع مارس سوق المدينة لينهبوا ويسلبوا، تماما مثل ما فعل أتباع الطاغية، عند دخول الأمريكان مدينة بغداد، حيث إستغلت فرصة غياب الأمن. ويمكن قراءة شخصيات هذه الرواية من منظور آخر، وليس من خلال المنظور الأول المتمثل بالتناقض، وإنما عبر الأخطاء التي تقع فيها، ما يتوجب عليها أن تدفع ثمن هذه الاخطاء، كما يحدث لشخصيات المسرحيات الأغريقية، على سبيل المثال لا الحصر، شخصية (أوديب) في مسرحية (أوديب ملكا) لسوفوكليس، نتيجة الخطأ الذي وقع فيه، قتل أباه وتزوج من أمه وفقأ عينيه. ومحنة فينوس شبيهة بعقدة أوديب، ذلك أنها إذا كانت تحمل في أحشائها نطفة شر، فإن النطفة التي زرعها أوديب في أحشاء أمه لا تقل شرا عن شر نطفة مارس. لهذا فهي لا تعرف كيف تتخلص من هذا الشر. إن أوديب نجا بنفسه من المحنة بفقأ عينيه، أي إنتقاما من نفسه، أما فينوس بعكس أوديب فقد عالجت محنتها بالحب، بحبها لكيوبيد من جهة: (سأدعي أنت أبوه)، أي كيوبيد، ودفعت والدها من جهة أخرى لمواجهة مارس، والتخلي عن عقاب أثينا في الوقت نفسه. إذن أن محنة الأثنين، تتمثل في حبهما للخير، وإدانة الشر. فقد عالجها سوفو عن طريق الإنتقام، وأحمد خلف عن طريق الحب والحرب، أي عن طريق شيئين يتناقضان مع بعضهما البعض، شأنهما شان تناقض الشخصيات مع نفسها، ووقوعها في الخطأ. إن هذه الرواية ما هي إلآ وثيقة إدانة لعهدين في تأريخ العراق الحديث، إدانة لممارسات عهد النظام السابق ونظام العهد الحالي، لما قاما به من ظلم وإضطهاد بحق الشعب العراقي، وتجاوزهما لأبسط حقوقه، والنيل من حريته وكرامته، سواء كان من خلال فرض التقاليد البالية عليه والتي مر عليها عشرات العقود، أو عبر فرض أيديولوجية الحزب الحاكم عليه. وقد أدى الصراع بين الآلهة، والظلم الذي بحق شعب أثينا على إنشطاره الى قسمين، قسم يناصر الآلهة زيوس، والقسم الآخر مارس، وبالتالي ليدخل الطرفان في حرب طاحنة، مثلها مثل الشعب العراقي الذي أنقسم الى عدة قوميات وطوائف وأحزاب، وراح بدافع المصلحة أو التطرف، يناصر هذا الحزب، ومعاديا الأحزاب الأخرى، وبلغت شدة الصراعات والحروب بين هذه الأطراف الى القتل على الهوية: (وكان ذلك معينا لي على الوصول الى مكتبي لرؤبة ما يجري بين الجماعتين المتحاربتين وإن عد البعض من الناس ثمة فريق ثالث وربما رابع وخامس . .). المصادر: 1-اسلوبية الرواية. الدكتور أدريس قصوري. عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع. الطبعة الاولى عام 2008.
#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد
...
-
التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
-
سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
-
قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
-
خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
-
بنيات السرد في روايات محسن الرملي
-
هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟
-
حدائق الرئيس. . بين التناص والإيحاء. . لمحسن الرملي.
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 3ـ وفاة بائع متجول
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 2ـ كلهم ابنائي
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 1 الثمن
-
اوجين اونيل بين.ثلاثي . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 5- ور
...
-
اوجين اونيل بين ثلاثي. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 4-أن
...
-
اوجين اونيل بين. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية . 3- الحداد
...
-
اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبيرية. 2 ا
...
-
مسرحيات اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبي
...
-
ذئبة الحب والكتب.. لمحسن الرملي
-
الفتيت المبعثر. . لمحسن الرملي
-
عمكا.. رواية قومية المكان ومنحى الميثولوجيا
-
بغداد مالبورو. . بين الإيحاء والتوازن بين الشخصيات والأحداث.
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|