|
استراتيجية التنمية البشرية في المغرب1
عبدالاله سطي
الحوار المتمدن-العدد: 1622 - 2006 / 7 / 25 - 04:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نموذج المبادرة الوطنية للتنمية البشريةـ مــدخــل عــام:
لا يستقيم الحديث عن التنمية إلا بإرفاقها بالإنسان وجعل هذا الأخير محورها الرئيسي ومركزها الأساسي من داخل كليتها العامة. فالإنسان هو أداة وغاية التنمية حيث تعتبر التنمية البشرية النمو الاقتصادي وسيلة لضمان الرفاه للسكان، بالإضافة إلى أن هذه الأخيرة ما هي إلا عملية تنمية وتوسيع للخيارات المتاحة أمام الإنسان باعتباره جوهر عملية التنمية ذاتها أي أنها تنمية الناس بالناس وللناس. وتتحقق التنمية البشرية من خلال جملة من المعطيات والأوضاع والديناميات، التي تتفاعل مع مجموعة من العوامل والمداخلات المتعددة والمتنوعة من أجل الوصول إلى تحقيق تأثيرات وتشكيلات معينة في حياة الإنسان وفي سياقه المجتمعي وهي حركة متصلة تتواصل عبر الأجيال زمانا وعبر المواقع الجغرافية والبيئية على هذا الكوكب مكانا. ونظرًا لأن البشر هم الثروة الحقيقية لأي أمة، فإن قدرات أي أمة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفاعلية. وما تجربة دول جنوب شرق آسيا منا ببعيد، فتلك الأمم التي قطعت على نفسها التزامات هامة تجاه تجميع رأس المال البشري وتحويله إلى طاقة وميزة تنافسية عالية تم توجيهها إلى استثمارات عالية الإنتاجية؛ كان مبعثه إيمانها بأن سر نهضتها ونموها يكمن في عقول أبنائها وسواعدهم. وقد كان ثمار ذلك أن حققت اقتصادات تلك البلدان معدلات متسارعة من النمو فاقت بها أكثر البلدان تقدمًا حتى أطلق عليها النمور الآسيوية، وأصبحت مثلا يحتدا به لكل من أراد أن يلحق بركب التقدم. و حتى عندما تعرضت تلك البلدان لأزمة مالية كبيرة خلال السنوات الأخيرة استطاعت أن تسترد عافيتها بسرعة فاقت التوقعات، وهو ما أرجعه الخبراء إلى الثروة البشرية التي تمتلكها تلك البلدان، وما تتمتع به من جودة وكفاءة عالية. مما يؤكد بالملموس أن رهانات أي دولة متأخرة تستشرف المستقبل، لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تحرير المنظومة التنموية من طابوهات الماضي و إكراهاته، وزرع بذور الأمل والتحرر من قيود التهميش و الإقصاء ، باعتبار الفرد داخل المجتمع أغلى رأسمال و أسمى قيمة وبالتالي يكون هو المحرك و قطب الرئيسي في كل العمليات التنموية التي تقدم عليها الدولة، التي تعتبر في الأول و الأخير منطلقها الإنسان و فاعلها الإنسان و هدفها الرئيسي الإنسان.
وهذا ما تنبه له المغرب من خلال "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" التي أعلن عنها العاهل المغربي الملك محمد السادس بتاريخ 18 ماي 2005 من أجل إرساء لغة الأمل في المستقبل و القطع مع دابر سنوات التهميش و الإقصاء العجاف، التي ضربت حصارا و أفرزت واقعا اجتماعيا مزريا أحدث لردح من الزمن نوع من القطيعة ما بين الدولة و المجتمع. فهذه الأخيرة جاءت كمحاولة جادة وفاعلة لخلق شروط الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي و الاعتراف بالمواطن كشرط أساسي بل وضرورة حتمية لأي تقدم وتطور منشود، لا سيما و أن المغرب يوجد اليوم في منعطف حاسم ودقيق يقتضي جبهة وطنية صلبة و ملتحمة لمجابهة مجمل التحديات الداخلية والخارجية، بعيدا عن المزايدات و المرافعات و الديماغوجية الفجة. فما هي الأسس و المقومات التي تقوم عليها هذه المبادرة؟ وما هي سبل إنجاحها وتفعيلها؟.
تـقـديـم
1ـ مفهوم التنمية البشرية:
قبل تبني مفهوم التنمية البشرية من قبل البرنامج الإنمائي للأمم لمتحدة (pnud) كانت الأدبيات الاقتصادية تعتمد على مفهوم التنمية الاقتصادية في مقاربتها للإشكاليات و المعضلات الاجتماعية.
1ـ1 التنمية الاقتصادية:
كان مفهوم التنمية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد الثمانينات مقصورا في تعريف الاقتصاديين و السياسيين و مخططي التنمية على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع و خدمات مادية، إذ كلما استطاع الفرد أن يحصل على المزيد من تلك السلع و الخدمات كلما ارتفع مستوى معيشته وبالتالي زادت رفاهيته، وهنا تتحقق التنمية كما كان سائد. إذن فمعدلات التنمية كانت تقاس بقدرة الاقتصاد القومي على توليد وتحقيق الزيادة في الناتج القومي الإجمالي، إضافة إلى قدرة الدولة على توسيع إنتاجها بمعدلات أسرع من معدل النمو السكاني كمؤشر على التنمية الشيء الذي سيوفر حد أدنى من مستوى المعيشة بين الأفراد ويحقق الرفاهية الاجتماعية مع خلق اقتصاد قادر على النمو الذاتي". وقد اعتمدت دول عديدة خلال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم على هذا المفهوم ، واستطاعت بعضها أن تحقق نتائج مهمة في النمو الاقتصادي. لكنه سيتبين فيما بعد عدم جدوى هذا التعريف في معالجة مسألة التنمية، وذلك عندما تولدت فروقات كبيرة بين السكان في مستويات المعيشة من ناحية توفر الحاجيات الضرورية ودرجة الرفاهية، فعكست الأرقام الإحصائية في العديد من الدول النامية خاصة في إفريقيا و أمريكا اللاتينية و آسيا الوسطى تدهورا كبيرا في مستويات الصحة العامة ودرجة التعليم والعمر المتوقع للأفراد.
مما أثر سلبا على مستوى إنتاجية القوى العاملة ، إضافة إلى النقص المتزايد في مستوى الإشباع من السلع والخدمات الضرورية. إلى درجة جعلت بعض البلدان ك (الهند) يتعدى معدل الدخل الفردي لديها نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية ( لما كان يعرف آنذاك في الهند بالثورة الخضراء)، لكن مستوى الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها للمواطنين كانت تعرف أزمة كبيرة... الشيء الذي سيكشف في العمق عن خطر التركيز على محدد التنمية الاقتصادية وحده فحسب، مما دعا إلى ضرورة الاهتمام بالنواحي الاجتماعية و خاصة في مستويات التعليم والصحة و الإسكان، فبرز مفهوم التنمية البشرية ليس كبديل لمفهوم التنمية الاقتصادية ولكن كمكمل له.
2ـ1 التنمية البشرية:
التنمية البشرية هي نظرية في التنمية الاقتصاديةـالاجتماعية، لا الاقتصادية فحسب تجعل الإنسان منطلقها وهدف لكل غاياتها، و تتعامل مع الأبعاد البشرية أو الاجتماعية للتنمية باعتبارها العنصر المهيمن، وتنظر للطاقات البشرية المادية باعتبارها شرط من شروط تحقيق هذه التنمية دون أن تهمل أهميتها التي لا تنكر. ويعرفها "ريتشارد وارد ward" بأنها منهج علمي وواقعي لدراسة وتوجيه نمو المجتمع من النواحي المختلفة مع التركيز على الجانب الاجتماعي وذلك بهدف إحداث الترابط بين مكونات المجتمع(1). و يظهر من خلال هذا التعريف أن التنمية البشرية محورها الأساسي الإنسان، وذلك بدراسة توجيه وتوضيح فعاليته في عملية التنمية. وقد اتجه البعض في مقاربتهم المفهوم التنمية البشرية إلى التركيز على العلاقات والروابط لرفع مستوى الفرد اجتماعيا وثقافيا وصحيا، ومن هذه المقاربات التي أكدت هذا المعنى تعريف يشير إلى أن المقصود بالتنمية البشرية "هي تنمية العلاقات والروابط القائمة في المجتمع ورفع مستوى الخدمات التي تحقق تأمين الفرد على يومه وغده، ورفع مستواه الاجتماعي و الثقافي والصحي، وزيادة قدراته على تفهم مشاكله و تعاونه مع أفراد لمجتمع للوصول إلى حياة أفضل. وجاء تقرير التنمية البشرية لسنة 1990 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة(pnud) أكثر اتساعا و أكثر دقة من التعاريف السابقة في تحديده لمفهوم التنمية البشرية حيث حصره في أنه " عملية لتوسيع لخيرات الناس، ومن حيث المبدأ هذه الخيرات يمكن أن تكون مطلقة و يمكن أن تتغير بمرور الوقت، ولكن الخيرات الأساسية الثلاث، على جميع مستويات التنمية البشرية، هي أن يعيش الناس حياة مديدة صحية، و أن يكسبوا معرفة و يحصلوا على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائقة، ولكن التنمية البشرية لا تنتهي عند ذلك..فالخيارات الإضافية تتراوح من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى التمتع بفرص الخلق و الإنتاج والتمتع بالاحترام الذاتي و الشخصي وبحقوق الإنسان المكفولة". و انطلاقا من هذا التعريف يتضح أن التنمية البشرية لا تنتهي فقط عند تكوين القدرات الإنسانية في جانبها الاقتصادي فقط، بل هي تتعداه إلى مستويات تحسين مستلزمات الصحة وتطوير المعرفة والمهارات، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير حيث الانتفاع بها سواء بضمان الحرية في ممارسة النشاطات الاقتصادية والسياسية و الثقافية. أوفي الاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان وكرامة الإنسان وتوسيع فرص الإبداع والخلق.. وبهذا التعريف أضحت التنمية البشرية توجها إنسانيا للتنمية الشاملة و المستدامة والمتكاملة، غايتها الأسمى والأساسية تحقيق التنمية الاقتصادية المرتبطة بالرفع من جودة حياة البشر.
مقياس التنمية البشرية:
بالرغم من الثراء الذي يمتاز به مفهوم التنمية البشرية كما جاء في تقرير 1990 للتنمية البشرية، إلا أن محاولات تأليف مقياس للتنمية البشرية قد اتسمت بالضعف و القصور، حيث أسفرت عن مقياس يجمع بين عدة مؤشرات من بينها" مؤشر التنمية البشرية(idh) الذي يحسب على أساس مستويات :ـ مدة أو
(أمل) الحياة، ـ التعليم، ـ الدخل. كما يتم استعمال كذلك مؤشر الفقر ومؤشرات " الهشاشة" و "التهميش". ومن أبرز الانتقادات التي يمكن مؤاخذتها على هذا المقياس هو اختزاله الشديد الذي يفتقد معه الوصول إلى تشخيص وفهم أمثل لمستويات الرفاهية الإنسانية كما هي منصوص عليها في التقرير. وذلك نظرا لإغفاله للعديد من المؤشرات المهمة والتي تدخل في صلب تحقيق الرفاهية الإنسانية، كمؤشر الأمن و الاستقرار السياسي، و مؤشر البيئة،بالإضافة إلى مؤشر الحرية... فضلا على أن هذه المقاييس ذات نفسها التي يعتمد عليها تقرير التنمية البشرية، لا تلتمس الدقة في التقدير. فمثلا مؤشر توقع الحياة عند الميلاد ـ الذي يقصد به متوسط عمر الإنسان بالسنوات ـ قد لا يعبر بالضرورة عن مدى سلامة الصحة البدنية والنفسية للأفراد، أما معدل أمية البالغين فهو لا يعكس بالضرورة مستوى التعليم ومدى مساهمته في اكتساب الأفراد للمعرفة وتنمية قدراتهم واختياراتهم، وكذلك ودواليك ما يتعلق بالدخل الفردي فهو أيضا بعيد عن الدقة المطلوبة لعدم أخذه في الحسبان معايير سوء العدل في توزيع الدخل.
2ـ إستراتيجية التنمية البشرية في المغرب ما بين 1956/2004:
اعتبرت قضية التنمية التحدي الأكبر والأساسي الذي واجه المغرب في سباقه نحو التقدم والتحديث، و التخلص من براثين التخلف وعوامله المختلفة التي عانى منها ردحا طويلا من الزمن تحت نير الاستعمار مما ساعد على تأخره كثيرا عن الدول المتقدمة. لذلك حاول المغرب منذ السنوات الأولى من الاستقلال أن يرسم لنفسه نهجا تنمويا خاصا قائم على معطيات ثابتة جعلته كما يقول محمد الجابري "تجربة تنموية منفتحة بمعنيين: منفتحة بنيويا باعتمادها > كاختيار استراتيجي.ومنفتحة إعلاميا بمعنى أنها تعتمد الإحصاء في مخططاتها لا تضرب الحصار على المعلومات بل تترك الباب مفتوحا، بهذه الدرجة أو تلك لمن يروم الحصول عليها". وقد اتسمت معظم المخططات التنموية التي تعاقبت على المغرب بتبنيها نفس الاستراتيجية العامة مع بعض التحولات التي فرضتها ظروف وتقلبات المرحلة. إذا استثنينا الفترة الممتدة من 1956و1960 التي اعتبرت مرحلة انتقالية ذات خصوصية معينة احتاج فيها المغرب" إلى وقفة للتأمل و التخطيط لتحديد الأولويات من أجل مواصلة الإصلاحات التحديثية و استعادة السيادة الكاملة على مؤسسات الدولة و مغربة أطرها و هياكلها و لتصرف المطلق في خيراتها و تحرير اقتصادها من التبعية و الستغلال و الاستنزاف"(1) لذلك سيكون من الأفضل منهجيا معالجة استراتيجية المغرب في التنمية على مرحلتين، المرحلة التي تشكل الفترة الانتقالية من مخلفات الاستعمار وتمتد من 1956إلى 1960، و المرحلة الثانية التي من سماتها الأساسية بناء صرح الدولة الحديثة القائمة على مؤسسات مستقلة وقوية وهي التي تتجلي في الفترة الممتدة ما بعد 1960.
2ـ1 استراتيجية الدولة في التنمية خلال > مابين1956 /1960:
أبرز الشعارات التي كانت بند هذه المرحلة هي شعارات الانتقال من الجهاد الأصغر الذي كان يهدف إلى تحقيق الاستقلال عن القوى الاستعمارية، إلى الجهاد الأكبر الذي يعني تدشين " مرحلة الإصلاحات الكبرى و البحث عن الحلول للمشاكل المترتبة عن التغلغل الاستعماري و إيجاد علاج للآفات الاجتماعية والاقتصادية". وهكذا كانت استراتيجية التنمية لعمل الحكومات المغربية خلال السنوات الأولى من الاستقلال تتمحور بالدرجة الأولى في " استعادة السيادة الكاملة على الخيرات الوطنية التي بنا عليها الاستعمار نظامه<<التعميري>>"(3) و بالتالي امتلاك النظام لكل مقومات الدولة ومن ثم توجيهها توجها وطنيا. حيث عمل المغرب على استرجاع كافة أراضيه التي كانت تحت يد المعمرين، ثم إقرار السيادة الكاملة على كافة المرافق الحيوية للدولة وتجهيزاتها الأساسية (مصالح النقل، السكك الحديدية، شركات توزيع الماء و الكهرباء..)، ثم تأميم بنك المغرب وإصدار عملة وطنية مغربية منفصلة عن الفرنك الفرنسي، و إقامة نظام جمركي جديد(1957) حل محل النظام الاستعماري. وفي خلال ذات السنوات تم إنجاز بعض المشاريع الاقتصادية المهمة كإنشاء معمل لتكرير البترول و آخر لتركيب السيارات كما دشنت عملية " الحرث الجماعي " و البدء في عمليات التشجير و كذا في توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار، و إصلاح الفلاحة ولاهتمام بالعالم القروي و بوضعية العمال الزراعيين و تحسين ظروف عيشهم ووسائل إنتاجهم، هذا، وكانت الإنجازات التي عرفها ميدان التعليم جد مهمة حيث كان الاهتمام بإصلاح التعليم وتعميمه ومغربته وتوحيده وتعريبه على رأس القضايا و الرهانات التي تحملتها الحكومات في تلك الفترة من الزمن حيث ارتفع عدد الأطفال المقبلين في المدارس من 210.018 تلميذ سنة 1954 إلى530.000 تلميذ سنة 1958 بزيادة تقدر ب 21%، كما كان الاهتمام كبيرا بالعلوم الإسلامية و الآداب و العلوم الحديثة " حيث أرسل الطلبة حملة شهادة الثانوية إلى سوريا و مصر، وهم الذين سيكونون النخبة الجامعية بالمغرب عند مجيئهم". ورغم بعض السلبيات التي خلفتها استراتيجية التنمية التي اعتمدتها الدولة خلال هذه الفترة ، فإن خصوصية المرحلة وطبيعة الرهانات التي كانت تلازمها يشفع لها في ذلك.
2ـ2 استراتيجية الدولة في التنمية <<ما بعد 1960>>:
من أجل النهوض بالإصلاحات التي دشنها المغرب خلال المرحلة الانتقالية من استقلالهـ وضعت الحكومة المغربية آن ذاك مخططات تنموية أهمها المخطط الخماسي (60 ـ 1964) الذي كان من رهاناته الأساسية تحقيق الاستقلال الاقتصادي من لتبعية الأجنبية، وتحسين جودة الخدمات الاجتماعية، و إرساء قواعد لتصنيع الفلاحي. حيث كان الهم الأساسي لواضعي هذا المخطط يتجلى بالأساس في " إعادة هيكلة النظام الاقتصادي المغربي ككل بصورة تجعله يتجه في اتجاه غير اتجاه نظام التعمير الاستعماري حتى يمكن الدخول في مسلسل القضاء على البطالة.." وتوسيع فرص الشغل لتشمل كافة الجماهير العاطلة. إلا أن إقالة الحكومة الوطنية التي كانت آنذاك برئاسة "د.عبدالله إبراهيم" سيؤدي إلى إعادة النظر في استراتيجية المخطط من قبل ما يسميهم محمد عابد الجابري <<بدعاة الليبرالية الواقعية>> الذين دعوا إلى "ضرورة إشراك رجال الأعمال في تدبير أمور الدولة وتسيير هياكلها و تنميتها"(2).وهكذا طرح مشروع تحديثي جديد كبديل للمخطط الخماسي ركز فيه على ضرورة البطالة و إنعاش الشغل كأساس لأي مشروع تنموي، فطرح <<برنامج الإنعاش الوطني>> لمحاربة البطالة في البادية تحت وصاية وزارة الداخلية (سنة 1961) تم الاعتماد فيه على تمويل ثلاثي المصدر، جزء يأتي من إعانة القمح الأمريكي وجزء من ميزانية الدولة و آخر من ميزانية الجماعات المحلية. و كنتيجة للإستحقاقات النسبية التي أدى إليها هذا مشروع <<الإنعاش الوطني>> وتكريسا للسياسة الليبرالية التي نهجتها الدولة كاختيار في مجال التدبير.طرح المخطط الثلاثي (65 ـ 1958) الذي سيركز على "الفلاحة و الصادرات و السياحة، ونادى بتقليص تدخل الدولة في المجالات الاقتصادية الأخرى، و إعطاء القطاع الخاص الدور المهم و المحرك الاقتصادي ..، وكان يشجع على انتهاج سياسة ليبرالية في المجال الاقتصادي"فوجهت الدولة استثماراتها إلى إنشاء السدود وتوجيه الفلاحة نحو التصدير و إخضاعها لمتطلباته، وتطوير آليات الاستغلال في قطاع الفلاحة بواسطة مزارع مجهزة ومتطورة "وهكذا تطورت الفلاحة المسقية و أمكن ضمان التزويد المنتظم للمدن بالماء الصالح للشرب، غير أنه لم يكن بإمكان المناطق النائية و الساكنة المعوزة الاستفادة، بشكل تلقائي، من انعكاسات السدود والطرق و الشبكة الكهربائية ".أما في مجال السياحة فقد اتجه المخطط إلى إنشاء تجهيزات مهمة من بناء سلسلة من الفنادق وتحسين جودة الخدمات في أكثر المناطق جلبا للسياح... ثم جاء المخطط الخماسي(68 ـ 1972) كامتداد للاختيارات و الأولويات و الشعارات التي ميزت المخطط السابق، مع إعطاء بعض الأولوية للقطاع الصناعي، بتشجيع الفلاحة التصديرية وتحديث وسائل الإنتاج.فكانت النتائج الاجتماعية للاستراتيجية التنموية التي نهجتها الدولة خلال المخططين الأخيرين جد هشة ومخيبة لكافة تطلعات و متطلبات المواطنين. ثم بعده جاء المخطط الخماسي الثالث (73 ـ 1977) بسياسة جديدة ذات طابع نقدي للأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية التي أفرزتها مرحلة الستينات، ولذلك اعتبر هذا المخطط بمثابة سياسة تصحيحية للإستراتيجيات الدولة السابقة في معالجة الأوضاع العامة للبلاد."فأعطى بعض الأولوية للقطاع الصناعي وقرر بعض الإصلاحات في الميدان المالي والضريبي كما أقر بعض الإصلاحات الاجتماعية"(1).وعمل على تشجيع عمليات النمو في الأقاليم المهمشة بانتهاج سياسة اللامركزية، ومغربة الاقتصاد الوطني بالتشجيع عل شراء أسهم الأجانب. بيد أن الاضطرابات التي عرفها انخفاض الطلب على الفسفاط و الزيادة في أسعار البترول و كذا النفقات التي تحملها المغرب ابتداء من 1975 بما عرف بتعمير المناطق الصحراوية المسترجعة المسترجعة، عصفت بالأحلام التي كانت مرجوة من هذا المخطط مما أدى إلى انتكاسة طموحات هذا الأخير حيث غدت المشاريع الاقتصادية والاجتماعية تعاني من جمود جراء مشاريع لم تنفد أو شرع في تنفيذها وتعذر إتمامها فانتظر المغرب سنة 1978 حيث سيتم الإعلان عن المخطط الثلاثي ( 78 ـ 1980) "الذي حاول أن يلطف من الأزمة الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول"(2) فأفرز مكانة مهمة للقطاع الخاص في عملية التنمية، و عمل على الاعتناء بالمقاولات الصغرى والمتوسطة و أوصى بالتقليل من نفقات الدولة جراء انعكاس سنوات الجفاف التي عرفها المغرب في تلك الفترة. وتميزت سنة 1983 باقتراح مخطط خماسي جديد (83 ـ 1987) يروم إلى لملمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.فدعم المنتوجات الغذائية و الصناعية و الطاقة، وركز على التقليص من الفوارق الطبقية بإحداث مناصب للشغل ..لكن إقرار سياسة <<التقويم الهيكلي>> في نفس الفترة سوف يؤدي إلى تبطئ عملية النمو و إلى تدهور التنمية الاجتماعية جراء الحد من الموارد "والتقليل من طلب الحبوب وارتفاع الأسعار الداخلية نتيجة تدهور العملة الوطنية بالنسبة للعملة الأجنبية و انعكس هذا على الدولة إذ كلفها ذلك جهدا مضاعفا لتحقيق بعض الأهداف الموسمية في المخطط". ولن يتم التخفيف من هذه السياسة وانعكاساتها إلا مع برنامج الأولويات الاجتماعية (باج1) سنة1993 و الذي هدف بالأساس إلى تطبيق استراتيجية للتنمية الاجتماعية، تشمل العديد من الأقاليم الأكثر تهميشا في المملكة.و تألف من ثلاثة مشاريع أساسية: التعليم الأساسي، الصحة الأساسية و الإنعاش الوطني و التنسيق ومتابعة البرامج الاجتماعية.فكانت أهم نتائجه "تحسن لا بأس به في مستوى المكوث في المدرسة خاصة بالنسبة للفتاة و الرفع من مستوى التمدرس.كما استفاد الأطفال الممدرسون من توزيع الكتب و الأدوات المدرسية و من خدمة المطاعم المدرسية". كما كانت نتائجه على مستوى مجال الصحة مشابهة تقريبا للمعادلات الوطنية المتوسطة، كما كانت نتائجه مهمة على مستوى معالجته لمعضلة الفقر حيث عمل على خلق فرص واسعة للشغل وفك العزلة عن المناطق القروية بمدها بالماء الصالح للشرب، وفي ذات الإطار تم إنجاز مجوعة من المشاريع من طرف <<الإنعاش الوطني>> مكنت من خلق كتلة أجرية مهمة في الوسط القروي من دعم تدخلات كل من الصحة والتربية. و من أجل تكريس مسار التنمية المستدامة التي دشنها المغرب مع بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، أسس مشروع مخطط لتنمية (2000 ـ 2004) و الذي هدف إلى تعديل مسار التطور وآليات التنمية الاقتصاديةـالاجتماعية ووضع المغرب على السكة الصحيحة للتنمية، التي يستطيع من خلالها استغلال كل مكوناته وطاقته المادية والبشرية استغلالا عقلانيا. وتتلخص أهم البرامج لمقترحة في هذا الإطار في: الاهتمام بالعالم القروي وتقليص الهوة بين البادية والمدينة و تأهيل الإنتاج و البنى التحتية الصناعية، و اجتماعيا هدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية و الاهتمام بالفئات المهمشة والفقيرة و كذا الاهتمام بالتعليم ومحو الأمية ومحاربة السكن الغير اللائق..كما هدف إلى وضع آليات تسهر على تخليق الحياة العامة و إصلاح الإدارة. من خلال مختلف هذه التجارب و المخططات التنموية التي عرفها المغرب طيلة النصف قرن الماضي يمكن قراءة نتائجها ومكتسباتها على مختلف المستويات و المجلات كما يلي: انتقال معدل الحياة من 47 سنة عام 1962 إلى 71 سنة 2004، "نتيجة انخفاض نسبة وفيات الأطفال و تحسين التأطير، وتحسين شروط التزود بالماء الصالح للشرب و تعميم برامج التلقيح"(1) و لعل ذلك ناتج عن تطور ظروف العيش و ارتفاع مستوى التمدرس والتحولات المجتمعية و برامج التخطيط العائلي. ومن بين التحولات الكبرى التي شهدها المغرب أيضا طيلة هذه الخمسين سنة الماضية " تواجد ظاهرة التمدين التي ارتفعت نسبتها من 29% سنة 1960 إلى 55% سنة 2004"(2) إلا أن هذه الظاهرة ظلت متسمة بتفاوتات واضحة وفاضحة تتجلى في التمركز ببعض المدن الكبرى وعدم التناسق الذي يتجلى في وجود مناطق قروية إلى حد كبير. كما أنه من النتائج السلبية التي خلفتها سياسة التنمية البشرية طيلة الخمسين سنة الماضية نجد "أن العالم القروي ظل معزولا، بشكل ملحوظ عن مجموع هذه الديناميات سواء تعلق الأمر بمستوى التنمية الاقتصادية أو بمستوى التنمية البشرية أو بالنظر إلى التحولات الاجتماعية".أما بخصوص المجهودات التي بذلت في مجال ولوج الخدامات و التجهيزات الأساسية، كانت بعيدة إلى حد ما في تلبية طموحات وتطلعات المواطنين، بل وحتى الإنجازات المحققة في هذا المجال أثارت العديد من مشاكل سوء التوزيع و النقص في التعميم" بحيث أن الفوارق لاجتماعية و المجالية تبدو ظاهرة للعيان، ولم يتم الشروع في تنفيذ برامج موجهة و محددة الأهداف، إلا في السنين الأخيرة، بغية معالجة هذه الفوارق، خاصة في ضواحي المدن". و إذا كانت استراتيجية الدولة في تطوير المنظومة التعليمية خلال بداية السبعينات قد حققت تقدما يذكر خصوصا فيما يتعلق بالرفع من فرص التمدرس وتزويد الإدارة و الاقتصاد الوطنيين بالأطر المغربية الضرورية، إلا أنه مع بداية الثمانينات، بدأت المنظومة التربوية، في التراجع لتدخل بعد ذلك في أزمة طويلة من بين مؤشراتها الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية، وضعف قيم المواطنة، ومحدودية الفكر النقدي، وبطالة حاملي الشهادات، والتكوينات الأساسية( القراءة، الكتابة،الحساب، اللغات، التواصل". و إذا كان ارتفاع معدل الحياة في المغرب ليتجاوز 70سنة كما أشرنا سابقا فإن هذا المعدل يظل أقل من معدلات الحياة المحققة في الدول المتقدمة، وكذا المؤشرت المتعلقة بصحة الطفل و الأم لا زالت مبعث قلق و مصدر ذي انعكاسات سلبية على التنمية البشرية بالبلاد،بحيث أن " البلاد لم تصل بعد إلى التعامل الأمثل مع أمراض البلدان الفقيرة..إضافة إلى ذلك، يظل ولوج الخدمات الطبية غير كاف ولا متكافئ.كما أن حالة الوحدات التطبيبية و المستشفيات ظلت تتأرجح بين الاستقرار و التراجع". وعلى الرغم من مجهودات الدولة الموجهة إلى مكافحة آفة الفقر و التقليص من حدته و التي استطاعت أن تقلل من نسبته من50% خلال سنة1960 إلى 14,2% حاليا."إلا أنه بالنظر للنمو الديمغرافي فإن العدد المطلق للفقراء استقر في خمسة ملايين،في المعدل المتوسط، من بينهم ثلاثة أرباع من الفقراء يتواجدون بالعالم القروي". وهكذا بعد هذه القراءة المقتضبة نخلص مما سبق إلى استنتاج واحد ووحيد، هو أن هذه الاستراتيجية التنموية التي نهجها المغرب خلال النصف قرن الماضي(بإخفاقاتها و نجاحاتها) بقت عاجزة أو لنقل متباينة مع طموحات ومتطلبات و مطالب جماهيرنا وعامتنا، مما حتم من ضرورة الإسراع بإعادة النظر في هذه الاستراتيجية و محاولة البحث على سبل لسياسة تنموية جديدة ومتطورة تمليها إرهاصات ومتطلبات المرحلة سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي. فكان الخطاب الملكي ل18 ماي 2005 خير استجابة لذلك من خلال إعلانه عن "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" كتصور بديل و حديث لمسألة التنمية البشرية في المغرب.
يتبع
#عبدالاله_سطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفاكانس ياحبيبي...والله الله
-
المغرب من استراتيجية الخوف إلى استراتيجية الأمل
-
في البدء كانت التنمية البشرية في المغرب؟
-
هيأة الانصاف والمصالحة وقانون ساكسونيا
-
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و إشكالية الديمقراطية في ال
...
-
قصة قضية الصحراء المغربية الغربية من المسيرة الخضراء إلى خ
...
-
بؤس المثقف المغربي/ في نقد الانتلجانسيا المغربية
-
*في نقد الحداثويون
-
قراءة في كتاب (الصراع الطبقي و التحولات الاقتصادية والسياسية
...
-
قراءة في كتاب( الصراع الطبقي والتحولات الاقتصادية والسياسية
...
-
توابع التبعية دراسة في ميكانزمات أزمة تخلف المجتمعات العالم
...
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|