|
هم يذبحون الأمكنة
علي شبيب ورد
الحوار المتمدن-العدد: 1619 - 2006 / 7 / 22 - 14:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قراءة في جراح كورنيش الناصرية - هل تسمعون العويل ؟ - أجل . - هم يذبحون الأمكنة . بعد أن أفرطت حروب النظام الشمولي في تشويه الوسامات وتعتيم فسح الألق . غالى الطارئون ( تلاميذ الطاغية ) القدماء والجدد ، والمصابون ( بالحَوَلِ الوطني ) و( لعنة الاستبداد ) غالوا كثيراً في إقصاء الفرح ، وخلق الغصّة في رمق الأماني ، بافتعال الأزمات السود ، المفضية إلى إذكاء بؤر القبح على جسد الجمال . الجمال الكامن في الناس والأمكنة معاً ، حتى بات ما جرى من متغيرات سياسية بعد التاسع من نيسان 2003وكأنّه وبالٌ كارثي وقع ليس على الأبرياء من الناس فقط ، بل شمل أيضاً جمال الأمكنة ، إذ راح هذا الوبال يقطّع أوصال أجمل الأمكنة . ويحيلها إلى أجساد ٍ تعاني أوجاع الذّبح البطيء المتواصل . ما زالَ يمورُ في ذاكرته عبقُ المكان . ومخيّلته ما انفكّتْ تبدع في استحضار سحرِ مكوناته وحراكِ حَيَواته الموغلة بالحيوية والآيلة للمروق أبداً صوب التطلّع . ها هي العوائل بدأت تتهادى في سيرها للاستجمام على كورنيش الفرات الناعس . كل شيء هادئ ، يتطلّع في وجوه أناسٍ مازالوا يتثاءبون ، طرداً لآثارِ نعاس خفيف ، بعد نوم عميق لظهيرة تموزية ، وهي جبلّة نوم توارثوها عن أسلافهم ذوي الرؤوس السود قاطني بيوت القصب ، قبل وبعد تحذير الطوفان الذي أطلقتهُ الآلهة إلى جدهم زيوسدرا ، أو النبي نوح في القرآن (( بيت القصب .. يا بيت القصب ! جدار .. يا جدار .. إصغِ يا بيت القصب .. يا رجل شروباك . يا بن اوبارو – توتو : هدَّ بيتكَ وابنِ مركباً .. اهجر كلَّ ما تملك واطلبِ الحياة .. إحملْ في مركبكَ بذرةَ كلِّ الأحياء )) عليه أن يعيد كتاب الأم لغوركي إلى صديقه الذي أعاره إيّاه ، يومها وجد جمعاً طيبا من أصدقائه في كازينو السلام ، إحدى الكازينوهات التي تتوزع على طول الكورنيش الساحر آنذاك ، وبعد جلسة سمر وحوار ممتعة ، تمكن من حث الأصدقاء لمشاهدة الفلم الجديد لسينما الأندلس الصيفي . كانت أماسي الكورنيش الصيفية تستقطب معظم أهالي المدينة للراحة والتخلص من حالة الاحتباس والضيق داخل البيوت ، ليتحول كل مساء إلى كرنفال شعبي بهيج ، تتعدد فيه الأشكال والألوان التي تغمر الوجوه بالحبور والنفوس بالانشراح ، كل ذلك لن يحدث لولا شعور الناس بالأمن والطمأنينة . أمامه يترجرج الفرات بألقٍ صدفي ، يبدد وحشته بين حينٍ وآخر ، انسياب زورق صيد صغير ، يترنّم صاحبه بأبيات الأبوذية ، أو أزيز مركب صيد كبير تتعالى منه أغاني الصيادين ، وهم يرمون شبكة صيد كبيرة في النهر . ظل عشق أهالي المدينة للكورنيش حتى نهاية السبعينات . لتمنع هذا العشق حربٌ أنجبت حروباً ما زال أوارها مستعراً إلى الآن . كيما يتحول الكورنيش إلى مكان موحش يثير في النفوس الأسى ويحرض في الحنايا مشاعر الخوف ويذكي في العقول الظنون المريبة . أيها النهر .. يا أبانا الحنون .. أما كنت لنا ملاذاً آمناً ، ترجم أحزاننا بكركرات موجك ، وتبدد مخاوفنا بنزق مراياك ، وتنعش جوارحنا بعبق رذاذك ، وتحرض بوح الأخيلة بلا توجس ، وتمعن في احتواء هوسنا وتمادي صباباتنا ؟ !!! علامَ تسمح لطارئين على براءاتنا يدجِّجونَ ضِفتيكَ بالمتاريس ؟ ويشوِّهونَ محيّاكَ بالقعقعة ؟ وينشبونَ مخالبهم في قدِّكَ البض ؟ لِمَ يقطِّعونَ أوصالك ويديموا جراحَ كورنيشك الساحر ؟ كيف له أن ينسى ذكرياته وهو يتنزه جنب فرات يرمقه بنظرات تطرد أتعابه وتغسل عتمة همومه . وهل ينسى لوحة الغروب ، عندما ينهب النهر قرص الشمس رويداً رويدا ؟ أو مركباً يجوب النهرَ ، وعلى متنه أناسٌ في غناءٍ ولهو ؟ أو عندما يتجه إلى محلة الصابئة ليشاهد طقوسهم المندائية الجميلة عند النهر في الأعراس والأعياد ؟ ما هذا الشحوب الذي أصاب هذه المحلة الساحرة ، أين ذهب أصدقاؤه المندائيون الكثر الذين أحبهم وأحبوه ؟ قلبه الآن يتقطّعُ ألَماً وهو يرى الكورنيش ، تنحر في وسامته الوحشة والظلمة والأبنية الطارئة المسوّرة بالبنادق ، وتزيد من جراحه ، متاريس التعسّف ، ورايات الحنق ، ومكائد البارود . مظاهر تشويه جمال كورنيش النهر ، بدأها النظام المقبور ، بإنشاء أبنية قمعت حريته ، وهتكت طقوسه ، وشوّهت نضارته ، وردعت بهجته بأفواه البنادق ، وملأته بالأشباح والعسس . وهلّلَ الكورنيش فرحاً بزوال ذلك النظام ، وانفتحت أساريره . غير أنّ فرحه لم يدم طويلاً . فالتغييرُ أكثر من الأبنية التي زادته رعباً وهلعاً ، وتمادت في تعميق جراحه ، حتى حولته إلى ميدان للإحتراب الفئوي والتطاحن القبلي ، هيجانات واضطرابات مؤسفة بين حين وآخر لجماعات غير مسؤولة ، تثير الرعب وتشل الحركة ، وتعبث بالمؤسسات والدوائر والممتلكات العامة ، وتبعث الأسى والقنوط بين الناس ، تحرّكها أجندات جبلت على الضغينة والعسف ودحض الآخر ، وغالباً ما يكون الكورنيش ساحة لنزوات ومرامي بعض العناصر المندسة ذات التوجهات التدميرية والتي لا يحلو لها التحولات الديمقراطية في العراق الجديد . هو مثل أكثر أهالي المدينة حُرِمَ من متعة التنزّهِ على ضفة الفرات ، بسبب التوترات في الوضع الأمني ، وفقدان الكورنيش لملامحه الجميلة ، وتحوله إلى مكان موحش وغير آمن ومظلم وتنتشر على طوله المناطق المحرمة كبناية المحافظة وغيرها . ثلاث سنوات مضت على النظام الجديد والكورنيش يقبع كئيباً ، تنخر في حناياه حراب الرعب وحوافر اليباب وبراثن الظلمة . ثلاث سنوات من الهدوء النسبي مقارنة بالمدن الملتهبة ، والدولة عاجزة عن إحياء الكورنيش بوصفه رئة المدينة . أموالٌ طائلة دخلت دوائرها الخدمية ، وتعجز عن إنارة شارع الكورنيش ، وإلغاء الأبنية الطارئة عليه والتي أفقدته حيويته وجدواه ، وكبّلته بأغلال مقيتة زادت من جراحه ، وذبحت سحره ، وعمّقت أساه . مات الكورنيش ، بفضل إهمال المسؤولين في المحافظة ومجلسها والدوائر والخدمية . أهالي الناصرية يتضوّرون قهراً وحراً وحبساً واختناقاً في البيوت ، والبنايات المرعبة ، كبناية المحافظة وغيرها تحرمهم من متعة التنزه على نهر الفرات . والأدهى من ذلك فالمسؤولون يتنافسون على وأدِ أيةِ فكرةٍ أو مشروعٍ لبعث الحياة للكورنيش ، وهذا ما حدث مع النحات عادل عكار الذي تمكن بعد جهود مضنية من فتح كازينو ومطعم الاقتصاديين ، والتي بلسمت بأضوائها وحركة روّادها أحد جراح الكورنيش المحتضر . وبذل جهوداً لتطوير مشروعه هذا بمشاريع ساندة ، كمشروع الشخاتير النهرية ، ومشروع مسبح الأطفال ، ومشاريع أخر ، غير أنها باءت بالفشل ، بفضل براعة مسؤولي الدوائر الخدمية وجدارتهم في إحباط أيَّ مشروع يعيد الكورنيش إلى ماضيه الجميل ، وذلك برمي الصلاحية على الغير ، هذا المسؤول يدفعه إلى ذاك ، وذاك إلى غيره ، ليضيع المشروع في متاهة مدبّرة . تطلّع صاحبنا إعجاباً بالمعالم الجمالية لكازينو ومطعم الاقتصاديين ، واستمع إلى هموم وأماني وطموحات صاحبها عادل عكار والذي أخرج له من درج مكتبه مشاريعه الموؤودة والجديدة وأطلعه عليها ، أدهشه استعداده التام لتبني مشروع أحياء كل الكورنيش ، وإعادة سحره وجماله الأخّاذ ، الذي يستقطب ويستوعب نزهات الأهالي المحرومين من متعة أجواءه ومناظره الخلابة . بعدها عاد إلى بيته ، ويتمنى من المسؤولين ، الالتفات إلى أهميّة وضرورة إحياء هذا المرفق الحيوي ، لجدواه في التخفيف من معاناة الأهالي ، جراء الاحتباس والاختناق والملل في بيوتهم الصغيرة ومحلاتهم الضيّقة . وأن يفكروا بجد لتشجيع فتح الكازينوهات ، وحدائق الألعاب وغيرها ، وذلك بعد إبعاد بنايات الدوائر والمقرات الحزبية ، عن الكورنيش الذي أنهكته الجراح وأتعبه العويل .
#علي_شبيب_ورد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذاكرة الخطى
-
أيها الماغوط .. هل أخذت الملف ؟
-
تعال يا مغترب
-
مكائد الأمكنة - كولاج تأويل
-
ناطحات الخراب
-
دكتاتورية المعدان
-
أسئلة الشعر المخيفة
-
نحت الشعر في سماوات الحجر
-
محرّضات ثراء النص الشعري
-
لي أيضا عربة
-
أيّها العاشق السومري .. من ألقى بك في الجب ؟؟؟؟
-
محاولة في إيقاظ طفولة الشاعر ناجي رحيم
-
شـارع الحـبـوبـي
-
خرق الظلمة بألوان الفرح والحب
-
بيت الترباس
-
الفاصولياء من صدام الى الجعفري والله أكبر
-
أمـنـيـة
-
( 2 -2 ) إستثمار مرجعيات المكان الأسطوري في إثراء الفضاء الش
...
-
2-1 -استثمار مرجعيات المكان الأسطورية في إثراء الفضاء الشعري
-
جدوى بلاغة المخيلة وكفاءة الشفرة في اسطرة النص 2-2
المزيد.....
-
مصر.. حكم بالسجن المشدد 3 سنوات على سعد الصغير في -حيازة موا
...
-
100 بالمئة.. المركزي المصري يعلن أرقام -تحويلات الخارج-
-
رحلة غوص تتحول إلى كارثة.. غرق مركب سياحي في البحر الأحمر يح
...
-
مصدر خاص: 4 إصابات جراء استهداف حافلة عسكرية بعبوة ناسفة في
...
-
-حزب الله- يدمر منزلا تحصنت داخله قوة إسرائيلية في بلدة البي
...
-
-أسوشيتد برس- و-رويترز- تزعمان اطلاعهما على بقايا صاروخ -أور
...
-
رئيس اللجنة العسكرية لـ-الناتو-: تأخير وصول الأسلحة إلى أوكر
...
-
CNN: نتنياهو وافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. بوصع
...
-
-الغارديان-: قتل إسرائيل 3 صحفيين في لبنان قد يشكل جريمة حرب
...
-
الدفاع والأمن القومي المصري يكشف سبب قانون لجوء الأجانب الجد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|