|
ضَوْء عَلَى السُّودَانَوِيَّة (مناقشة مع عبد الله علي إبراهيم)
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 6788 - 2021 / 1 / 14 - 20:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تَطْبِيقاً عَلِى النَّمُوْذَجِ الجَّنُوْبِي (لِلخُروجِ من حَالةِ الجَّوْرَبِ المَقْلوب!)*
بقلم/ كمال الجزولي
(1) نشر صديقي عبد الله علي إبراهيم، في الأسبوع الأوَّل من ديسمبر 2020م، كلمة مغرقة في التَّجنِّي، على غير عادته، ينكر فيها على «السُّودانويَّة» أبسط مقوِّمات الوجاهة الفكريَّة، كونه، في ما قال، لا يعرف دعوة مثلها أفسدت «خطاب الهويَّة»، فهي، عنده، «لا دعوة، لأنها تصف حالة كوننا سودانيِّين لا غير، كما تصف بريطانيا البريطانيِّين»! وعلامة التَّعجُّب منِّي، كون مؤدَّى هذه العبارة لا يعني سوى أن الدَّعوة إلى فهم الظاهرة على ما هي عليه دون إحالتها إلى حالة أو أخرى، هي «لا دعوة»، وهذه «بشتنة» لفهوم الآخرين لا تليق بعبد الله! ومن سنخ ذات هذه «البشتنة» المجَّانيَّة أن «السُّودانويَّة»، عنده، ليست سوى «صفقةٍ» يريد بها أصحابها «رأب الصَّدع السُّوداني، كيفما اتَّفق، مضربين عن أيِّ اعتبار للثَّقافة التي هي لبُّ الهويَّة»! واستنتج عبد الله من ذلك أنهم يرومون «صلحاً» بين عرب السُّودان وأفارقته، «في طقس سياسي يخلع عن كليهما هويته (الثَّقافيَّة) جزافاً»! ولإثبات وجود «هويَّة ثَّقافيَّة عربيَّة» في البلاد، دحضاً، أو قل «شيطنةً» لمسعى «السُّودانويِّين»، فلكأنهم، أصلاً، جحدوا هذه الهويَّة، مضى عبد الله يستنظف بعض الشَّواهد، كأبيات المرحوم حسن بابكر الحاج في مناسبة ميلاد طفلته: «يا بسمة الصُّبح العليل تهبُّ من علياء نجد»، ليشْبُطَ في لفظ «نجد»، على منهج الشَّيخ عبد الله عبد الرحمن الضَّرير «العربيَّة في السُّودان»، متسائلاً كيف يستقيم فهم هذا البيت بغير اعتبار لموضع «نجد» العربيَّة فيه، أو بلا تذوُّق لـ «بنية العاطفة» وراءها؛ ثمَّ جلب، إلى ذلك، استشهاد السَّفير خالد فرح بغناء بنونة بت المك في أخيها: «أسد بيشة المِكَرْبِتْ قمزاتو متطابقاتْ»، حيث «بيشة»، وهي مأسدة في جنوب الحجاز، راسخة بقوَّة في الذاكرة العربَّية بالسُّودان، كما قال، وهلمَّجرَّا، فلكأن زعم المستعربين السُّودانيِّين الانتماء الهويوي إلى الثَّقافة العربيَّة يمتنع بغير هذه الإحالات المركزويَّة! وفي الختام يهزُّ عبد الله ويرزُّ، قائلاً «من أراد خلع عليِّه فليفعل، ولكني لن أخلع معاويتي»! فليطمئن الصَّديق العزيز؛ طرح «السُّودانويَّة»، أصلاً، لا يقوم على «مفاضلة» بين الانتمائين الثَّقافيَّين العروبي والأفريقاني، بل لعلَّه، للمفارقة، يقاوم، أساساً، هذه «المفاضلة» التي يسعى لتحاشيها، والتي لولاها لما احتجنا لأن نتنازع الغناء بين «إلى العُرب تُنسبُ الفطنُ»، وراء العطبراوي، و«أنا أفريقي أنا سوداني» وراء الكاشف! أمَّا حكمه على «السُّودانويَّة» بأنها انصراف عن «اعتبار الثَّقافة لبَّ الهويَّة»، فتأليف غريب عن حيثيَّات دعوتها الحقيقيَّة كما سنرى بعد قليل، بل هو حكم، للمفارقة أيضاً، موغل غربة حتَّى عمَّا عهد النَّاس في منهج البحث لدى عبد الله نفسه، فلو كان كلف خاطره، ونظر، ولو عابراً، في ما كتب أهل «السُّودانويَّة»، أو مَن عرضوا لها، طوال السَّنوات الماضية، بالقراءة العادلة، والتَّعليق المنصف، لكان خلص، بالقطع، إلى تقدير أدقِّ وأفضل من أن يبدو كما لو أنه انتبه، فجأة، إلى خلل فيها، بعد نيف وأربعين سـنة منذ أن قدَّمت طرحها أوَّل مرَّة! فلأن ذلك كذلك، ولأن عبد الله مِمَّن لا يجوز إغفال كلامهم، فقد اخترت، بدلاً من خوض مناقشة جديدة لكلمته، أن أستعيد، هنا، نشر إحدى بواكير مقالاتي حول المسألة، والتي لم يكن مستغرباً أن تستند، في بعض مرجعيَّاتها، إلى عبد الله نفسه (!) وإن كانت تنصبُّ، في معظمها، على نموذجِ «الحالة الجَّنوبيَّة»، مقدِّراً أنها ربَّما تفي للرَّدِّ على تلك الكلمة، ومركِّزاً، بالأخص، على الجَّوهري الأهمِّ فيها، وهو اتِّهامه لـ «السُّودانويَّة» بالاقتصار على «السِّياسي»، وإهدار «الثَّقافي» الأكثر تأثيراً على مسألة «الهويَّة»، والوعي بالذَّات، وبالآخر، مِمَّا ينطوي على التَّجني الذي أشرت إليه في فاتحة هذا الرَّد، وقلت إنني لم أعهده فيه من قبل، حيث معكوس حكمه متاح تحت قدميه، مباشرة، لو كان نظر!
(2) الشَّاهد أنني كنت كتبت، عام 2002م، أنه، سواء انتهت، آنذاك، أم لم تنتهِ، إلى أىِّ شئ، مفاوضات مشاكوس، التي كانت جارية بين النِّظام البائد وبين الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان، بقيادة الرَّاحل جون قرنق، فإن أحكَمَ ما كان يتوجَّب أن نحيطها به من نظر هو أن نكُف عن اعتبارها «يوم قيامة سياسي»، ينجرد فيه «الحساب الختامي» لـ «الحالة السُّودانيَّة»، وتنغلق «الدَّفاتر» كلها، ويجرى تبادل «المخالصات» النِّهائيَّة، لمجرَّد أن شركاء «الإيقاد»، وأصدقاءها، يريدون ذلك! فمشاكوس، في واقع الأمر، مناسبة أخرى من مناسبات صراعاتنا السِّياسيَّة التي كان ينبغي أن نتصدَّى، وحدنا، لتحمُّل عبء مجابهتها، وتدبيرها، وحسمها. على أننا، وكعادتنا المرذولة، للأسف، لم نحسن شيئاً من ذلك كله، ربَّما لأن أحداً، فى «الإيقاد»، أو «شركائها»، أو «أصدقائها»، ممَّن مكَّنَّاهم، بغفلتنا، من الأمر كله، لم يحفل، أصلاً، بإشراكنا فيه! ولا يتوهَّمنَّ كريمٌ أن ضمير المتكلمين، هنا، عائدٌ، فقط، إلى قوى المعارضة، فثمَّة أكثر من سبب للاعتقاد بأن الحكومة والحركة نفسيهما ما انفكَّا يتزحزحان، على طاولة تلك المفاوضات، وفق برنامج محسوب، من خانة «الذَّات» إلى خانة «الموضوع»! وما الطـريـقـة الدراماتيكـيَّة التي أخـرج بهـا «الاتِّفـاق الإطـاري» فـي خـتام الجَّـولة الأولـى (2002/7/20م) ببعيدة عن الأذهان! صحيح أنه لا جدال، البتَّة، في أننا نعيش في عالم يزداد تقارباً، وانشغالاً بأحوال أطرافه، مهما ترامت وتناءت، وأن أهمَّ ما يهمُّ أقوياءه هو إطفاء بؤر النِّزاعات المشتعلة فيه بأسرع ما يمكن، نسبة لما تُكبِّدهم عمليَّة الإطفاء من كلفة مبهظة في ما إذا أهمل الحريق، وترك ليستفحل! لكنه، في نفس الوقت،عالم منقسم من جهة المصالح، والفكر، والأجندة، والسِّياسات، أقله قوى إمبرياليَّة تحتقب أجندات أطماعها، ومقوِّمات بطشها المادِّي، وأكثره شعوب كادحة ما تزال تراكم عناصر نفوذها المعنوي، والخلط بين الفسطاطين غشامة في أفضل التَّقديرات! لذلك، ولأن من يفرِّط فى أجندته الوطنيَّة، لا يعود ثمَّة سبيل أمامه لذمِّ الأجندات الأجنبيَّة، فإن الأمل يبقى معقوداً بالمدى الذي نستطيع فيه الإفاقة على حقيقة أن ما ظللنا نصطلح عليه بـ «مشكلة الجَّنوب» هو، فى الواقع، مجرَّد ملمح أعلى صوتاً لمشكلة بنائنا الوطني بأسره. فهل كفَّت «الوحدة»، نهائيَّاً، عن أن تكون خيارنا المصيري؟! ألم يتبقَّ لنا، حقَّاً، سوى المفاضلة البائسة بين «انفصال» مأساوي، وبين «وحدة» بشعرة معاوية لا نجد فى أيدينا ما يدعمها غير هذه الحفنة من التَّدابير الإجرائيَّة العجفاء (منصـب النائب الأول، وضع العاصمة القوميَّة، التَّرتيبات الأمنيَّة .. الخ)؟! أين، تراه، موقع العامل «الثَّقافي والنَّفسي التَّاريخي» من إعراب هذه التَّدابير التي لا يتوقَّف وسطاء «الإيقاد» عن اجتراحها بلا هوادة؟!
(3) لقد شاع التَّأكيد على عناصر «الوحدة» بين مفردات منظومة التنوُّع السُّوداني لدى أغلب الباحثين والكاتبين، بما يعفينا، في سياق هذه المقالة، من الخوض في تفاصيل اقتران «الثَّقافي» بالسِّياسي، على طول خطوط التَّاريخي، والجُّغرافي، والاقتصادي، والاثني، وما إلى ذلك، خلال القرون الخمسة الماضية. على أننا نرى أنه، وبرغم علوِّ ضجَّة السِّياسي، وسط هذه العوامل مجتمعة، فلا يزال هنالك ما يحمل، بوجه عام، على التَّجرُّؤ بالقول إن ثمَّة مشكلاً «ثقافيَّاً» كامناً، يقيناً، خلف كلِّ مشكل «سياسي»، في ما يتَّصل بقضيَّة «الوحدة» فى بلادنا، وما ذلك إلا لشدَّة ارتباط «الثَّقافي» بمسائل «الهويَّة»، والوعي بالذَّات، وبالآخر، والاحساس المشروع بالتَّميُّز، قبل أن يُخرج الاقتصاد السِّياسي، من فوق كلِّ هذا، أثقال قسمة السُّلطة والثَّروة .. الخ. ولكون «الثَّقافي التَّاريخي» هو، في المحصلة النِّهائيَّة، المختبر الأدقُّ لقياس رغائب الناس الحقيقيَّة، والتَّعبير الأكثر صدقاً في تفسير دوافعهم وخياراتهم، فإن ضجيج التَّعانف السِّياسي في ما يتَّصل بـ «مشكلة الجَّنوب»، على كلا المستويين الحربي والسِّلمي، عاجز، في هذا المنظور، عن إخفاء حقيقة أن المقومات «النَّفسيَّة/الثَّقافيَّة» لـ «الوحدة» تظلُّ، بالنِّسبة للجَّنوبيِّين بعامة، والمثقَّفين منهم بخاصة، أقوى من دواعي الانفصال المتهومين به في مستوى سياسة المركز الرَّسميَّة، كما وفي مستوى الوعي الاجتماعي السَّائد في الشَّمال. تلك هى الفرضيَّة الرَّئيسة التي تتحرَّك منها هذه الكتابة، والتي ربَّما تكفي أعجل نظرة مستبصرة لتَّاريخنا الحديث للتَّدليل عليها، فعلى سبيل المثال: (1) لم تحُل ذاكرة الرِّقِّ التَّاريخيَّة، وتأثيراتها السَّالبة على صورة العربى المسلم عموماً منذ عشرينات القرن التَّاسع عشر، دون أن تتبلور صورة الإمام المهدى، عليه السَّلام، كابن للرُّوح المقدَّس دينق لدى الدينكا، مثلاً، وانخراطهم، من ثمَّ، فى حربه الثَّوريَّة ضدَّ الاتراك، بصرف النَّظر عن العوامل الأخرى التي أدَّت لانقلابهم، لاحقاً، لمقاومة المهديَّة! (2) وبرغم ما سمِّى بـ «السِّياسة الجَّنوبيَّة» التى استندت إلى تلك الذاكرة، والتى اتَّبعتها الادارة البريطانيَّة منذ بداية الحقبة الاستعماريَّة مطلع القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسى على ترسانة من القوانين والإجراءات الرَّامية لاستبعاد المؤثِّرات الشَّماليَّة، وإعاقة التَّقارب بين الشَّطرين، كـ «قانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م»، و«قانون المناطق المقفـولة لسنة 1929م»، واللذين قصد منهما أن يصبح الجَّنوب، فضلاً عن جبال النوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، أرضاً أجنبيَّة بالنِّسبة للسُّوداني الشَّمالي، وإلى ذلك «قانون محاكم زعماء القبائل1931م»، وفرض الانجليزيَّة لغة رسميَّة فى الجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّمالية على أهله، وابتعاث الطلاب الجَّنوبيين لإكمال تعليمهم في يوغندا، وغيرها من القوانين والإجراءات السِّياسيَّة، برغم ذلك كله فإن الأمر لم يحتج، بعد قرابة نصف القرن، إلى أكثر من إبداء حسن النِّيَّة، والوعد بتلبية أشواق الجَّنوبيِّين للحكم الفيدرالي، كيما يصوِّت نوابهم، في أوَّل برلمان سوداني، مع استقلال السُّودان الموحَّد. (3) وبرغم تدشين الأجندة الحربية الدَّمويَّة ابتداءً من 1955م، واستمرار العدائيَّات النَّاشئة من خراقة السِّياسة الشَّمالية التَّقليديَّة تجاه الجَّنوب، وقصر نظر المواقف الجَّنوبيَّة، النخبويَّة منها تحديداً، تجاه الشَّمال، عسكريَّة كانت أم مدنيَّة، فإن صوت التَّعبيرات الوحدويَّة، على تفاوتها، لم يخفت عبر كلِّ تلك الفترات، سواء في مؤتمر المائدة المستديرة، عام 1965م، عقب ثورة أكتوبر، أو في اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م، أو على هامش كلِّ المواجهات المتواصلة منذ 1983م. (4) وبرغم المكابرة السِّياسيَّة الواضحة في إصرار أقسام مهمَّة من الانتلجينسيا الجَّنوبيَّة على تضمين الانجليزيَّة في النصوص الدُّستوريَّة لغة رسميَّة للجَّنوب، بل وبلوغ الأمر ببعضهم إلى اقتراح السَّواحيليَّة لغة قوميَّة هناك (Sir Anaye, Nile Mirror, Feb. 1974)، إلا أن كلمة «الثَّقافي» الحاسمة مضت في هذا الأمر، بحيث راح اقتراح السَّواحيليَّة يضمر حتَّى تلاشى تماماً، وانحصرت الانجليزيَّة بين أقليَّات النُّخب المتعلمة، وهي ليست لغة أفريقيَّة بأىِّ معنى، بينما واصلت اللغات المحليَّة أداء رسالتها، من جهة، وتكرَّس «عربي جوبا»، من جهة أخرى، لغة تواصل lingua franca في قاعدة المجتمع الجَّنوبي بين قوميَّاته المختلفة، على غرار «عربي أم درمان» في الوسط، والشَّمال، وربَّما في أوسع مناطق البلاد، وكان لإذاعة أم درمان، وبالذَّات لـ «أغنية أم درمان»، الفضل الأعظم في ذلك؛ والعربيَّة، من قبل ومن بعد، لغة أفريقيَّة حملها «الجلابى .. إلى الجَّنوب منذ 1878م، ووزَّع مفرداتها، وصيغها، مع بضائعه، وقد وجدت فيها قبائل الجَّنوب (وجبال النُّوبا) .. لغة تتفاهم بها (حتَّى) في ما بينها» (عبد الله على ابراهيم؛ الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان، عزة للنشر، الخرطوم 2001م، ص 40). ومع الاقرار بأن هذا كله لا يزال أقصر من قامة المعالجات المطلوبة فى إطار التَّخطيط الثقافي واللغوي الدِّيموقراطي الرَّاشد، إلا أننا «.. لسنا بحاجة إلى اعتساف هذا التَّطوُّر الحر والموضوعي بصيغ دستوريَّة .. تنطوي على الإكراه» (نفسه). (5) ضف الى ذلك الملاحظة السَّديدة التي لم تغب عن تحليلات واستنتاجات الكثير من الكتَّاب والسِّياسيِّين حول ظاهرة نزوح أكثر الجَّنوبيِّين شمالاً، هرباً من الفاقة، وويلات الحرب، مقارنة بالقليل منهم الذى لا ينزح جنوباً إلا اضطراراً. (6) وقد استندتُ، في أكثر من مناسبة، إلى الملاحظة السَّديدة التى كان أبداها لى صديقي الشاعر المفكر الراحل سر أناي كيلويلجانق، عليه رحمة الله ورضوانه، حول أن معظم اللغات الجنَّوبيَّة تحوي مفردة «جورشول»، بمعنى «الغريب»، فى الإشارة إلى اليوغندي أو الزائيري مثلاً، فى حين تستخدم مفردة «مندوكورو» في الإشارة إلى السُّودانى المستعرب الشَّمالي. (7) ومن ملاحظات سر أناي، أيضاً، ذات الدَّلالة القويَّة، أن إحساس الجَّنوبي، وهو يتجوَّل في مدن الشَّمال، إنما هو إحساس من يتجوَّل في أرض تخصُّه، بعكس مشاعر الغربة التى ما تلبث أن تلفه بمجرد أن تطأ قدماه أرض أيِّ بلد أفريقي آخر! فلا يعود سائغاً ترويج الإعلام الرَّسمي، فى سياق سياسة «العدائيَّات»، لعبارة جون قرنق الشَّهيرة بأنه يشتهي أن يشرب القهوة في المتمَّة، أو نحو ذلك! (8) وحتَّى في مفاوضات مشاكوس المار ذكرها، منذ يونيو 2002م، بين الحكومة وبين الحركة الشَّعبية/الجَّيش الشَّعبى، وبرغم مثالبها الكثيرة، أو ما يحيط بها من صراع جنوبىٍّ ـ جنوبىٍّ، وشمالىٍّ ـ شمالىٍّ، أو ما قد يلوح فيها أحياناً من ميل مظهري للمفاصلة، إلا أن عين السَّخط وسوء النيَّة وحدها هي التى لا تستطيع أن تلمح، خلف كلِّ ذلك، طيوف رغبة جنوبيَّة حقيقيَّة فى «الوحدة»، وإن كانت بأشراط أكثر غلظة!
(4) ظلت حكومات «الجلابة» المتعاقبة في الخرطوم، منذ الاستقلال، أسيرة للنُّقوش، والظِّلال، والتَّلاوين التَّقليديَّة، في صورة الذَّات كما تشكَّلت تاريخيَّاً لدى الجَّماعة السُّودانيَّة المستعربة المسلمة، ونخبها المختلفة، خصوصاً على الشَّمال النِّيلي، وامتداداته إلى المثلث الذّهبي (الخرطوم ـ كوستي ـ سنار)، وهي النُّقوش، والظلال، والتَّلاوين التى لطالما بلورت وعي هذه الجَّماعة الزَّائف بتوطُّنها النِّهائي في العِرْق العربي الخالص، واللسان العربي الخالص، والثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة الخالصة، قبل أن تدفع تأثيرات اندغامها فى ملابسات حركة التَّحرُّر الوطني بأقسام مهمة منها إلى البدء فى الاستشعار الخافت لنبض العنصر الأفريقي ضمن مكوِّنات هذا الوعي دون أن يغلب عليه من الجَّانب الآخر. وليس من العسير تلمُّس ملامح صورة الذَّات هذه فى أساسيات المنهج الذى اتَّبعته عام 1956م لجنة التحقيق فى الأحداث المأساوية التى وقعت فى توريت وغيرها عام 1955م، بين يدي الاستقلال. فلقد ركزت تلك اللجنة تركيزاً شديداً، كما لاحظ فرانسيس دينق مثلاً، بحق، على ما يفرِّق لا ما يجمع، وذلك تحت تأثير المبالغة فى تقدير النتائج التَّاريخيَّة لعمليَّات «الأسلمة والتَّعريب» فى الشَّمال، وتضخيم الفوارق التي ترتَّبت على تكريسها بين الشَّمال والجَّنوب (فرانسيس دينق؛ مشكلة الهويَّة في السُّودان ـ أسس التَّكامل القومي، ترجمة محمد علي جادين، مركز الدِّراسات السُّودانيَّة، القاهرة 1999م، ص 122 ـ 123). لقد أضحت تلك الفوارق وحدها هي القضايا التى يتمُّ وضعها في الاعتبار على رأس أّيِّ «مرشد» لعمل أيَّة حكومة في الخرطوم تجاه الجَّنوب، عسكريَّة كانت أم مدنيَّة، إلى حدِّ التيئيس من «الوحدة». وتتلخَّص تلك القضايا، كما حصرتها لجنة التَّقرير، فى خمسة محاور رئيسة، مع ملاحظة قصرها مصطلح «شمال ـ شمالي» على الرِّقعة الجُّغرافيَّة المار ذكرها: أولها: أن الشَّمال عرقيَّاً عربي والجَّنوب زنجي، وأن الشَّمال دينيَّاً مسلم والجَّنوب غالباً وثني، وأن الشَّمال لغويَّاً يتكلم العربيَّة والجَّنوب يتكلم أكثر من ثمانين لغة. وثانيها: أن الجَّنوبيِّين يعتبرون الشَّماليِّين، بسبب ملابسات تاريخيَّة، أعداءهم التَّقليديِّين. وثالثها: أن السِّياسة البريطانيَّة عملت، حتَّى 1947م، على ترك الجَّنوبيِّين يتطوَّرون في خطوط أفريقيَّة زنجيَّة، واستخدمت أداة القانون، كقانوني المناطق المقفولة والرُّخص التِّجاريَّة المار ذكرهما، لإعاقة أيَّة إمكانيَّة لتعارف أو تقارب الشَّماليِّين والجَّنوبيِّين، مثلما عمل النَّشاط التَّعليمي للإرساليَّات التَّبشيريَّة على تغذية هذه السِّياسة. ورابعها: أن الشَّمال تطوَّر سريعاً في مختلف المجالات، لعدة عوامل اقتصاديَّة، وسياسيَّة، وجغرافيَّة، وغيرها، بينما ظلَّ الجَّنوب، لذات العوامل، على تخلفه المزري، الأمر الذى أورث أهله شعوراً بأنهم ضحايا خداع، واستغلال، وهيمنة، من قبل الشَّمال. وخامسها: أنه، ولكلِّ هذه العوامل، فإن الجَّنوبيِّين يفتقرون إلى الشُّعور بالمواطنة المشتركة مع الشَّماليِّين (لاحظ الإحالة المستعلية إلى الشَّمال فى ما يتصل بمعيار المواطنة)، بل وأنهم، أي الجَّنوبيِّين، يفتقرون إلى الشُّعور بالوطنيَّة والانتماء إلى السُّودان، وحتَّى الوعي الذى برز مؤخَّراً، أي عشيَّة الاستقلال، هو وعي «إقليمي/ مناطقي» وليس «وطنيَّاً». وكالعادة لم يفت على التَّقرير «اتِّهام» الشِّيوعيِّين بالضُّلوع في تلك الأحداث، مشيراً لتزايد نشاطهم، خلال ديسمبر 1954م، في مركز الزَّاندي والمورو، وبين عمَّال صناعة القطن ونقاباتهم! على أنه ربَّما يكتسى أهمية خاصة توثيق التَّقرير لكون الجَّبهة المعادية للاستعمار وزَّعت «منشوراتها»، آنذاك، بلغة الزَّاندي (تقرير لجنة التَّحقيق في اضطرابات جنوب السُّودان، في أغسطس 1955م، الخرطوم 1956م ـ يوسف الخليفة أبوبكر فى حريز وهيرمان بل، 1965م ـ ضمن عبد الله على ابراهيم، 2001م). باختصار كان ذلك التَّقرير نعياً حقيقيَّاً لكلِّ مقوِّمات «الوحدة»، كونه جاء نتاجاً طبيعيَّاً للذِّهنيَّة المستعليَّة بمركزويَّة الذَّات في علاقتها بالآخر، والمنطلقة من معياريَّة صراحة العرق، وصفاء اللسان، وتفوُّق الثَّقافة! وفى هذا تكمن تأثيراته المأساويَّة اللاحقة، حيث شكَّل، عمليَّاً، المعطيات المعتمَدة فى خلفية جُلِّ السِّياسات المتعاقبة بشأن الجَّنوب، منذ الاستقلال، باستثناء القليل من الشَّواهد التَّاريخيَّة الإيجابيَّة، كبيان 9 يونيو 1969م، وجهود وزارة شؤون الجـَّنوب تحت قيادة جوزيف قرنق (1969م ـ 1971م)، والقليل الذى انعكس من ذلك في اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م. وإذن، توهَّمت الحكومات المتعاقبة، تبعاً لذلك «المرشد»، أن تكريس «الوحدة» لا بُدَّ أن يعني، ميكانيكيَّاً، وبصورة تبسيطيَّة مخلة، الانطلاق على طول الخط المعاكس لترتيبات الإدارة البريطانيَّة السابقة، حسب رؤيتها لها، فأصبحت خطة «الأسلمة والتعريب» المتلازمين، ضربة لازب، في المنظور الاجرائي البحت، والقائمين في رموزيَّات القوَّة الماديَّة، وفي شطط التَّفوُّق الإثني (العرقي + الثَّقافي)، وفي الاستهانة بحقِّ الآخر في التَّميُّز الذَّاتي، هي البديل الوطني «الحر المستقل» للسِّياسات الاستعماريَّة! فاقم من ذلك، لأقصى الحدود، توهُّم الجَّماعة المستعربة المسلمة الصُّغرى، أو، بالأحرى، نخبها الطبقيَّة، بأن عليها القيام، في هذه التُّخوم من العالمَيْن العربي والإسلامي، بأداء «رسالة ما» ألقت بها على عاتقها الجماعة الكبرى فى مركز القلب من مضخة الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وفحواها «تجسير» الهوَّة التي تعيق حركة «العروبة» و«الإسلام» صوب عالم الأفارقة الوثنيِّين، حتى تنساب الحضارة باتِّجاه واحد: من الشَّمال إلى الجَّنوب، الأمر الذى ولَّد لدى غالب النخب الشَّماليَّة المتسيِّدة، طبقيَّاً، بالاستناد إلى مختلف العوامل الاقتصاديَّة ـ السِّياسيَّة الاجتماعيَّة، ذهنيَّة «رساليَّة» مستعلية تجاه الجَّنوب، من شأنها إقصاء أيِّ مشروع لمثاقفة متكافئة وعادلة، لتستعيض عنها بمناهج وآليَّات الاخضاع والاستتباع وحدها، مثلما ولَّد لدى قطاعات عريضة من النُّخب الطبقيَّة الجَّنوبية ردود فعل شديدة العنف والحِدَّة تجاه كلِّ ما هو عربي وإسلامي، مِمَّا يتمظهر، غالباً، فى الميل الى المبالغة في تضخيم الانتماء إلى الرُّموزيَّات الثَّقافيَّة والعرقيَّة الأفريقيَّة، والدِّيانة المسيحيَّة، واللغة الانجليزيَّة، رغم أنف «عربى جوبا» الذى سبق أن أشرنا إلى أن التَّكوينات القوميَّة الجَّنوبيَّة نفسها لا تعرف، بلغاتها الثَّمانين، لغة تواصل غيره في ما بينها. تساوت، في مستوى هذا النَّظر، أنظمة مختلفة تعاقبت على كراسي السلطة في الخرطوم: بعضها يدَّعي العلمانيَّة، وبعضها الآخر يتلبس النَّهج الثِّيوقراطي، وحكومات بعضها عسكري ديكتاتوري، وبعضها الآخر مدني ديموقراطي، وبعضها الثَّالث عسكري يرتدي الملابس المدنيَّة، ويلعب بـ «البيضة والحجر»! كما تساوت فى النَّظر المعاكس، أو ردود الأفعال على تفاوتها، أحزاب وتنظيمات وقوى وحركات جنوبيَّة، في «المدينة» كما في «الغابة».
(5) خطل هاتين النَّظرتين المتصادمتين، واللتين لطالما حبستا «العروبة» و«الأفريقانيَّة» في أسر مفاهيم عرقيَّة وثقافيَّة ضيِّقة، إنَّما يكمن، على اختلاف الأنظمة والحكومات الشماليَّة المتعاقبة، والأحزاب والتَّنظيمات الجَّنوبيَّة ، في كونهما تمتحان من الأوهام بدلاً من الوعي بحقائق الواقع الموضوعي، وخطورتهما إنَّما تتمثَّل في كونهما تواصلان دعم مناخ العدائيَّات المستمرِّ بلا طائل، بدلاً من الإسهام في دعم أيِّ مشروع محتمل لوحدة وطنيَّة مرموقة. لسنا البلد الوحيد الذى تكوَّن من أكثر من إثنيَّة، لكن ما من بلد كذب فيه بعض الناس، مثلنا، وبهذا القدر، على أنفسهم، كما كذب المستعربون المسلمون، بزعم انتسابهم إلى عرق «خالص راقٍ» يستعلون به على بقية الأعراق، فوجد الآخرون أنفسهم مضطرين للانخراط في مقاومة هذا الاستعلاء بالسِّلاح النَّاري! ولسنا البلد الوحيد الذى قام، مثلنا، على تعدُّد وتنوُّع تحتاج أطرافهما إلى حوار تاريخي هادئ، ومثاقفة تلقائيَّة رائقة، غير أنه ما من بلد كابرت فيه جماعة كما كابرت جماعتنا المستعربة المسلمة بتفوُّقها الثَّقافي، والدِّيني، واللغوي، مطالبة الآخرين بالتَّنازل لها عمَّا بأيديهم من ثقافة، ودين، ولغة، فلم تحصل منهم، طوال عمر أوهامها هذه، على أكثر من إيغالها تجاههم في الكراهيَّة والدَّم! ولسنا البلد الوحيد الذي أدَّى استلحاقه القسرى، مثلنا، بفلك السُّوق الرَّأسمالية العالميَّة، وهو لما يزل، بعدُ، في مرحلة ما قبل الرَّأسماليَّة، إلى تفاوت قسمة الثَّروة، وحظوظ التَّنمية، والتَّطوُّر غير المتكافيء بين مختلف أقاليمه، سوى أنه ما من بلد كالسُّودان انطمست بصائر نخبه الطبقيَّة الحاكمة عن رؤية المخاطر التى يمكن أن تحيق بسلطتها، هي نفسها، فيما لو تحوَّلت هذه المظالم إلى «غبينة» تاريخيَّة! ومع ذلك فإنه ليس من قبيل المعجزات أن تفضى بنا حقائق الصِّراع، ومسارات التَّدافع، وطنيَّاً، وإقليميَّاً، وعالميَّاً، إلى مستقبل تنعم فيه بلادنا بدرجة معقولة من تساكن الأعراق، وتعايش الأديان، وتحاور الثَّقافات، وتوازن التَّطور، فى ظلِّ وحدة وطنيَّة راسخة. وما من شك في أننا سنكون أقرب إلى هذا المستقبل، بقدر ما سيراكم تاريخنا من معطيات موضوعيَّة تتيح لكلِّ مفردة في منظومة تنوُّعنا وتعدُّدنا أن تعى نفسها، دونما أوهام، في نسق علاقاتها بالآخرين، وأن تعي مصالحها، بصورة أفضل، وأكثر واقعيَّة، فى سياق تدافعها السِّلمي معهم، الأمر الذى سيجعل من التَّكافؤ، والتوازن، والتَّساكن، والتَّعايش، والحوار، ليس فقط حالة بديلة عن حالة الاحتراب الماثلة، بل ضرورة لا غنى عنها لوجودنا نفسه. على أن هذا المستقبل المأمول ليس محض طور تلقائي للارتقاء، يقع، حتماً، وعلى أيَّة حال، وسواء عملنا لأجله أم لم نعمل، وإنما يحتاج إلى حركة دفع قصديَّة جادَّة باتجاهه، للخروج بعمليَّات التَّنمية، على ضعفها، وشحِّها، وبطئها، من احتكار مثلث الوسط الذهبي «الخرطوم ـ كوستى ـ سنار»، وامتداداته الشَّماليَّة النِّيليَّة «وفق مخطَّط حمدي» التَّدميري، إلى رحابة الوطن بأسره. ويمكن إجمال هذه الحركة في ثلاثة محاور أساسيَّة: (1) الانطلاق من مجرَّد الاقرار بواقع التَّعدُّد والتنوُّع، إلى تصميم برامج للتَّنمية المتكافئة بين مكوناته كافة، مع إعطاء الأولويَّة لاستغلال الموارد القوميَّة، خصوصاً الزِّراعة والذَّهب، والبترول، فى التَّنمية الاقتصاديَّة ـ الاجتماعيَّة ـ الثَّقافيَّة التي تقوم تعاوناً بين هذه المكوِّنات، كخطة ذات جدوى أكبر من مجرد الاقتصار على «قسمة العائد» البائسة، والتي سبق للحكومة أن اتفقت عليها مع مجموعتى مشار ولام أكول، ضمن «اتفاقيَّة الخرطوم للسَّلام لسنة 1997م»، حتى غدت «عجلاً مقدَّساً» لا يمكن التَّخلى عنه، بل وتكاد، بهذا المعنى، تشكِّل ورطة لمفاوضات مشاكوس! غير أنه من المهم، أيضاً، عدم إغفال أهميَّة تخصيص ما يكفي من الموارد للاسراع في ردم فجوة التَّخلف والتَّهميش التى ظلت تعاني منها بعض المناطق الإثنيَّة، فى الجَّنوب وغير الجَّنوب، وذلك بإيلاء الاعتبار الكافي لمبدأ المعاملة التَّفضيليَّة لهذه المناطق فى ما يتَّصل بإعادة توزيع عائدات المعادن، كالذَّهب، والبترول، والانتاج الزِّراعي الرِّيفي بشقَّيه الزِّراعي والحيواني، وغيرها من الثَّروات المصنَّعة، سواء كان ذلك من خلال ما تخصِّصه الميزانيَّة السَّنويَّة العامَّة، أو ما يتمُّ رصده ضمن ميزانيَّة التَّنمية، لأغراض الارتقاء بخدمات الصَّحَّة، والتَّعليم، وغيرها في هذه المناطق. (2) ولأن العامل الاقتصادى، رأسماليَّاً كان أم اشتراكيَّاً، غير قمين بمجرَّده، يقيناً، بالتَّكفُّل بحلِّ مشاكل القوميَّات، ولنا الأسوة السَّيِّئة في خبرة الاتِّحاد السُّوفييت، سابقاً، ومشكلة الباسك في أسبانيا، وحراكات البريتان في فرنسا، وتململ الكويبك في كندا، وصراعات الجَّيش الجُّمهوري الإيرلندي مع الحكومة البريطانيَّة، على سبيل المثال، فلا مناص من التَّواضع على بناء دولة مدنيَّة ديموقراطيَّة بمعيارية المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والحريَّات العامة، وحقوق الانسان كافة، كما نصَّت عليها المواثيق الدَّوليَّة، لتكون حاضنة وطنيَّة لهذه العمليَّات، ليس، فقط، في مستوى الاطار الدُّستوري والقانوني، وإنما بالمراجعة التَّاريخيَّة المطلوبة بإلحاح لمحدِّدات «الهويَّة» الوطنيَّة في سياسات «التَّخطيط الثَّقافي»، ومناهج التَّربية والتَّعليم، وبرامج الرَّاديو والتِّلفزيون، وغيرها من أجهزة الاعلام، ووسائط الاتِّصال الجَّماهيريَّة الأخرى ذات الأثر «الثَّقافي» الحاسم في صياغة بنية الوعي الاجتماعي العام، بما يشيع مناخاً صالحاً لازدهار كلِّ المجموعات، بمختلف «ثقافاتها»، وأديانها، ومعتقداتها، ولغاتها، وانخراطها فى «مثاقفة» ديموقراطيَّة هادئة في ما بينها، «فليس أمرّ من صدام الثَّقافات .. وأدمى»، على قول شهير للمرحوم جمال محمد أحمد. خطوة كهذه يستحيل إنجازها عبر صفقة منفردة بين قيادات جنوبيَّة، مهما بلغ نفوذها، وبين أيَّة حكومة في الخرطوم، بالغاً ما بلغ مستوى فلاحها فى بسط سلطتها، بل لا بُدَّ من انجازها عبر أوسع مشاركة للحركة الجَّماهيريَّة المنظمة في أحزابها، وتنظيماتها السِّياسية، ونقاباتها، واتحاداتها المهنيَّة، والنوعيَّة، ومؤسَّساتها المدنيَّة الطوعيَّة، وروابطها الإقليميَّة، والمناطقيَّة، وغيرها فى كلِّ أنحاء البلاد. (3) وإلى ذلك لا بُدَّ من انخراط الجَّماعة السُّودانيَّة المستعربة المسلمة نفسها في حوار داخلي حرٍّ، بين جميع أقسامها، حول فهومها المتعارضة لدينها الواحد، وما يتَّصل بعلاقته بالدَّولة وبالسُّلطة السِّياسيَّة، الأمر الذي لطالما شكَّل، منذ فجر الحركة الوطنيَّة، بؤرة نزاعات خطيرة، لم يقتصر أثرها السَّالب على هذه الأقسام وحدها، بل امتدَّ ليطال علاقات هؤلاء المستعربين المسلمين بمساكنيهم من أهل الأعراق، والأديان، والثَّقافات، واللغات الأخرى فى الوطن، وليشكِّل عائقاً أمام أيَّ مشروع مأمول لـ «وحدة وطنيَّة»، من كلِّ الجَّوانب الاقتصاديَّة، السِّياسيَّة، الاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة. هذه المعالجات المستقبليَّة المرغوب فيها هى سيرورة تاريخيَّة، لا محض ترتيبات إجرائيَّة إداريَّة، ولذا من الصَّعب، بل من العبث محاولة توصيفها هنا تفصيلاً جدوليَّاً، أو تقييدها بمدى زمني محدَّد، وفق مصفوفات معينة، سواء من خلال مشاكوس أو غيرها. وقد تتعرَّض هذه المعالجات للانتكاس حتَّى بعد التَّواضع عليها، وقد يبلغ هذا الانتكاس حدَّ «الانفصال» نفسه، سواء في المدى القريب أو المتوسِّط، على أن جملة عوامل «الوحدة» التى أشرنا اليها تدفعنا إلى التَّفاؤل بأنها، حتَّى لو وقع الانفصال في أيِّ وقت، سوف تشكِّل الخيار النِّهائي في المدى البعيد. وربَّما زوَّدتنا بالمزيد من التَّفاؤل، في هذه المناقشة، عبارة سر أناى الشَّاعرية الحكيمة: «إن الآلام التي يعانيها وطننا، الآن، هي، قطعاً، آلام الطلق، بأكثر مِمَّا هي آلام المرض»!
(6) كثيرون هم المثقَّفون والسِّياسيُّون السُّودانيُّون الذين أفاقوا، منذ زمن ليس بالقصير، في الشَّمال كما في الجَّنوب، على وعي جديد ووثيق بخطل هتين النظرتين المتصادمتين لـ «العروبة الخالصة» و«الأفريقانيَّة الخالصة»، وخطورتهما. وحتى من لم يفق، بعد، تماماً، أو ما يزال فى طور المكابرة الفصاميَّة، لا تعدم تعبيراته، فكرياً أو سلوكياً، لمَّع وإشراقات من هذا الوعي الذي أنتج، على الأقل، دعوة جادَّة ومؤثِّرة على صعيدي السِّياسة والثَّقافة لصياغة مداخل «سودانويَّة»** مختلفة للتعامل مع قضايانا ومشاكلنا، ليس بالنسبة للجَّنوب فحسب، بل بالنسبة لكلِّ الاثنيَّات والمناطق، إنطلاقاً من ضرورة الوعي الذي لا غنى عنه بحقائق الهويَّة الثَّقافيَّة السٌّودانيَّة نفسها، على ما هي عليه من تركيب عربي ـ أفريقي معقَّد، وليس مجرَّد «مزيج» من هذين العنصرين، كما قد يعبِّر البعض خطأ، وذلك دونما حاجة للإحالة إلى غيره. هذه الإحالة بالذَّات هي التي أثبتت، دائماً، أنها تستتبع الصِّدامات المتشنجة بين مختلف المكوِّنات «الإثنيَّة». لقد شكَّلت هذه الدعوة أحد أهم المحاور التى اشتغل عليها كثيرون، من أبرزهم فرانسيس دينق، خصوصاً فى مباحثه حول مشكلة الهويَّة وديناميكيَّاتها. إن منهج الإحالة هذا لبائس حقاً ، بل انه قد يفضى أحياناً إلى حدٍّ مُروِّع من البؤس المعرفي، ومن ذلك، على سبيل المثال، توصيف السُّودان كمحض «جسر» بين العالمين العربي والأفريقي! ولعلَّ في هذا شيئاً مما نبَّه نور الدِّين ساتِّي لخطورته الاستثنائيَّة، كونه لا يورثنا، فى المحصلة النهائيَّة، سوى النَّظر إلى الذَّات كـ «جورب مقلوب!» (م/الثقافة السُّودانيَّة، ع/15، أغسطس 1980م). ولما كان للمثقَّف الجَّنوبي، على وجه التَّحديد، دوره الاستثنائي في تعيِّين المآلات النِّهائيَّة التى يندفع باتِّجاهها هذا النِّزاع، فلقد بدا لى دائماً غير كاف مجرد الاقتصار على مناهج البحث التَّقليديَّة التي تغيِّب هذا المثقَّف، كإنسان من جهة، وكدور فاعل شديد التَّأثير والخطورة من جهة أخرى. ووقع عندى سداد كثير فى محاولة الاطلال على المشكلة من باب مقاربة هذا الكيان الفاعل والخطير، عبر ثلاثة نماذج منه، وذلك ضمن فصل «جنوبيُّون»، في كتابي بعنوان «الآخر»، والذي صدرت الطبعة الثَّانية منه، مؤخَّراً، عن دار «رفيقي» للنَّشر بجوبا. وهي مقاربة لا تجفل فَرَقاً من أن تصنَّف فى كثير من لحظاتها وملامحها العامة كجنس فى الابداع الأدبي، التماساً لمعرفة أوثق بالكيفيَّة التي تمور وتعتمل بها في عقل هذا الانسان، ووجدانه، معاً، شتى الأفكار والرُّؤى التي ترسم خطوط توجُّهاته، ومختلف المشاعر والأحاسيس التي غالباً ما تؤثِّر في حسم خياراته، وربَّما كان هذا هو أقصى ما تأمل فى بلوغ شئ منه هذه المساهمة التى تتحرَّك، كما سبق وأوضحنا، من افتراض أصالة العمق «الوحدوي» لدى غالبيَّة المثقَّفين الجَّنوبيِّين، برغم قشرة الجَّفاء المظهريَّة السَّميكة!
الهوامش: * ورقة قدِّمَت فى ندوة مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بقاعة اتِّحاد المصارف بالخرطوم، 30 ـ 31 أكتوبر 2002م، بعنوان «التَّنوُّع الثَّقافى وبناء الدَّولة الوطنيَّة في السُّودان»، بمناسبة اكتمال ترجمة ونشر أعمال فرانسيس دينق باللغة العربيَّة. ** نور الدين ساتى، وليس المرحوم أحمد الطيب زين العابدين كما يعتقد الكثيرون خطأ، هو أوَّل من سكَّ وأشهر هذا المصطلح فى محاضرته التي نظمتها، في نوفمبر 1979م، «جمعية أصدقاء الكتاب» بالنادى الكاثوليكي بالخرطوم، حول «معضلات التَّمازج الثَّقافي في السُّودان»، وقد نشرت جريدة «الصَّحافة»، آنذاك، ملخصاً وافياً لها، ثمَّ في مقالته المشار إليها بعنوان «الحوار بين المكوِّنات الثَّقافيَّة للأمَّة السُّودانيَّة» بمجلة «الثَّقافة السُّودانيَّة»، والتي تعتبر امتداداً مستفيضاً لتلك المحاضرة، وقد أثارت كلتاهما صدى وجدلاً واسعين. واستطراداً فقد أسهم نفر من المثقفين، شعراء، وأدباء، وباحثين، في تطوير مداخل التَّفكير، والتَّناول، والطرح لهذه الدَّعوة، من بينهم نور الدين نفسه، إضافة إلى النُّور عثمان أبَّكر، وسرأناي كلويلجانق، وأحمد الطَّيِّب زين العابدين، وكاتب هذه المقالة، من خلال ندوة مخصوصة أداروها في ما بينهم على عدد من الجلسات، وفي زمن طويل نسبيَّاً، مطالع ثمانينات القرن المنصرم، ثمَّ عمل الملحق الثَّقافي لصحيفة «الأيَّام»، تحت إشراف الرِّوائي النَّاقد عيسى الحلو، على إفراغ أشرطتها، وتحريرها، ونشرها، عقب انتفاضة أبريل عام 1985م. كما تناول الدَّعوة بالتَّعليق عدد من الكتَّاب أبرزهم الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا.
■ ■
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روزنامة الأسبوع أَحَدَ عَشَرَ بَشِيرَاً!
-
روزنامة الأسبوع بَعَدْ يَا مَايُو!
-
ضيف على روزنامة الأسبوع: عالم عباس خَلْقُ أدَم!
-
روزنامة الأسبوع لِقَاحَاتُ الفُقَرَاء!
-
جُمْهُورِيَّةُ الرِّئَيسِ القَائِد!
-
تَصْوِيبٌ وَاجِبٌ وَشُكْرٌ مُسْتَحَقٌ
-
روزنامةُ الأسبوع ـ لَاهُوتُ الكَبَّاشِي!
-
روزنامة الأسبوع سِرُّ المِهْنَة!
-
روزنامة الأسبوع أَصْوَاتٌ لَا تُهَادِن!
-
روزنامة الأسبوع مَا الدِّبَيلُو؟! وَمَا مُفَوَّضِّيَّتُهُ؟!
-
روزنامة الأسبوع حَتَّامَ هَذَا العُنْفُ الأَخْرَق!
-
قَوْمِيَّةُ المُرَابِيْن!
-
إلى كمال الجزولي من أم سلمة الصادق المهدي
-
كُهُوفُ الوَهْمِ وَالوَاقِع!
-
روزنامة الأسبوع تَوَابِيتُ المُتْحَف!
-
روزنامة الأسبوع غَفْلَةُ الجَّنَرَالِ نِجيِّين!
-
روزنامة الأسبوع تِي شِيرْتْ تَاسِيتِي!
-
روزنامة الأسبوع رَأْسُ الذِّئْبِ الطَائِر!
-
روزنامة الأسبوع: المهندس جا ورسم البنا!
-
روزنامة الأسبوع: تَرِكَةُ أُمِّ عِتْمَان!
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|