|
ألارتماء في أحضان ألموت … ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6785 - 2021 / 1 / 11 - 14:57
المحور:
الادب والفن
أخيراً وبعد طول انتظار .. يسمع صراخ لحظات الولادة الاولى لابنه … لم يستطع ان يتمالك نفسه … اقتحم الغرفة جذِلا .. فرِحاً بمجئ من طال انتظاره كثيراً ، وقلِقا يملأه الخوف على حبيبته ، وزوجته التي كابدت الكثير من ساعات النفاس الطويلة … بعد ان اطمئن على سلامة الام الغالية ، القى نظرته الاولى على فلذة الكبد ، وهو يُطلق أولى صرخاته في وجه الدنيا العابسة … قطعة من اللحم الوردي الجميل ترتجف بين يدي الممرضة ، وتملأ الغرفة صراخاً كأنه يعلن احتجاجه على من أخرجه من عالمه الآمن الهادئ … ما اجمله ! قبّل زوجته على جبينها ، وتحمد لها السلامة ، ثم ودعهم بنظرة تفيض حزناً ، والماً … نصب قامته واعتدل ، ثم غادر على عجل …الرائد حسام … متزوج منذ سبع سنوات ، وعنده وردتين بل اجمل … هدى ، وأنسام ، واليوم تحقق الرجاء ، وجاء اخيراً الحبيب رامي ، وهو الاسم الذي اتفق عليه مع زوجته … ! كانت في انتظاره سيارة الجيب ، لتعود به الى وحدته في الجبهة … فتح له السائق الباب … عليه العودة مباشرة الى الوحدة ، فاجازته كانت لسويعات فقط ، من اجل الاطمئنان على زوجته ، ورؤية ابنه ، استهلك معظمها في صالة الانتظار حتى تحين اللحظة التي يطل منها ابنه على هذه الدنيا المضطربة ! غابت الشمس وراء السحب السوداء … تنذر بيوم ممطر ، والهجوم متوقع في أية لحظة … شعر بان يداً تمتد الى قلبه ، فتقبض عليه ، وتعصره … كم كان بوده ان يبقى ، ولو لمزيد من الساعات مع زوجته التي اشتاق اليها ، والى مداعباتها ، وكم كان بوده ان يطفيء لضى قلبه ، ويشبع عينيه من النظر الى القادم الجديد ، ويلعب ولو قليلا مع بناته الجميلات لكن ما العمل … هذا هو الجيش ، وهذه هي الحياة التي عليه ان ينصاع لها ، والتي يا للاسف قد يخسرها في اية لحظة … ما ذنب الذين ارتبط مصيرهم بمصيره يُحرمون من عطف الاب ، وحنان الزوج ! منذ التحاقه بالجيش لم يشعر يوماً انه كائن حر ، يمتلك ارادته كباقي البشر ، فهو ليس سوى بيدقاً أجوفاً خالي من الاحاسيس ، والمشاعر يحركونه حيثما ، واينما يشاؤون ، وعليه ان ينفذ فقط دون نقاش ، او تردد … ! اختفت الشمس تماماً ، وتجهم وجه السماء … سقطت قطرات خفيفة من المطر سرعان ما زادت من حدتها ، فانهالت كالسهام الناعمة … تمنى من قلبه ان لا يقع هذا الهجوم الملعون .. على الاقل في هذا الجو … لم يستطع ان يتخيل كيف ستكون المعركة وسط هذا الجو البارد الممطر ، وكأنك تحارب عدوين الجو ، وجحافل الجيوش المقابلة … اي بلاء هذا … ؟ تذكر كيف رفض والده باصرار التحاقه بالكلية العسكرية ، وقال له ستبقى رهينة لهذه البدلة ، ومسؤولياتها طوال حياتك ، وتبقى حاملا كفنك على راحتك … ! صفع الهواء البارد فجأةً وجهه من خلال ثقب في السيارة … ثم هجم عليه احساس غريب بان شيئاً جنونيا على وشك ان يحدث الليلة … حرب مجنونة تحركها الكراهية ، والاحقاد البدائية المريضة ، أخذت سنوات ثمينة من العمر ، ولم تنتهي … تلتهم الجنود ، والضباط بلا ندم ، ولا شبع … كلما جمعنا قوتنا نهاجمهم ، وكلما استعادوا قوتهم يهاجموننا ، وهكذا نبقى ندور في حلقة مفرغة … والحروب ولود ، لا تنتهي .. الواحدة تلد الاخرى ، ويبقى الانسان المغفل وقودها … لقد شارك في جنونها ، وهو لا يزال ملازم اول ، واليوم ، وهو رائد لا يزال يخوط في وحولها حتى سئم ، وقد نجا من الموت ، والاسر اكثر من مرة ، حدثت فيها فضائع تزكم الانوف لم يسجل التاريخ لها مثيلا … ! اشتد المطر ، واظلمت الدنيا … وتواصلت لحظات البرد ، والظلام … - سيدي نتوجه الى الوحدة ام عندك مشوار آخر ؟ ينتبه … وقد سحبته كلمات السائق المذعِنة من عالمه ، وآثار الذكرى من ذلك الزمن البعيد … ينظر الى ساعته ، ويقول بصوت قاطع : -الى الوحدة مباشرةً … كم ندم على اختياره العسكرية كطريق لحياته ، وكم تمنى الحياة المدنية ، وحرية الحركة فيها كما فعل بقية اصدقائه الذين التحقوا بكليات انسانية ، وهم اليوم مع عوائلهم بامن وامان … اما هو فتحول الى مشروع موت دائم لاصحاب القرار المغامرين ، والاغبياء ، والمعبئين بشتى العقد … فحركته ، ومستقبله مقيدة بقائد غبي أعلى منه رتبةً ، او حتى اقدم منه خدمةً ، ولو بيوم واحد … يأتي بالامر ، ويذهب بالامر … ومصيره ، وحياته رهينة بيد اطلاقة او شظية قد تفلت من حركة زناد جندي معتوه ، فتنهي حياته ، وتيتم اطفاله ، وترمل زوجته … ! الخرافات التي تُنسج حول شجاعة ، واقدام العسكري الاسطورية .. وهمية ، وان قلبه ميت لا حياة فيه ليست صحيحة … فالعسكري اولاً ، واخيراً انسان .. يخاف ، ويقلق ، ويحن الى الدفء العاطفي ، ويتمنى ان يعيشه .. كأي انسان آخر لا صلة له بالحياة العسكرية … وتعتريه لحظات من الحيرة ، والتردد … ففيهم الشجاع كما فيهم الجبان كما المقدام ، والمتخاذل ، والمتهور … كل نزعات البشر العادية موجودة عندهم فهم ايضا بشر … كم اشتاق الى لحظات الدفء مع زوجته ، وهي تستكين لمداعباتة مع جسدها الجميل ، الذي كان يختلج بين ذراعيه .. وسط تأوهات الرغبة من الطرفين ، وفحيح صوتها المتكسر كالامواج … تلك اللحظات الخالدة العبقة بالاشتهاء ، واللذة … تبرز امامه وجوه بناته المشرقة الباسمة كأنها شموس صغيرة … لا يدري لماذا خطر ابنه رامي في تلك اللحظة على مخيلته ، واخذ يفكر فيه ، وفيما ينتظره من مستقبل مجهول … كاد أن يبكي … من يتصور أن الضابط قوة خرافية في التحمل ، ولا قلب له ، فهو مخطئ …طغت المرارة في اعماقه زادها أكثر احساسة بانه ذاهب الى المجهول ! يسمع دوي المدافع المتبادل بين الطرفين ، وهي تهيئة لبدء الهجوم … يبدو انهم اقتربوا أكثر من محيط الوحدة ، ودخلوا مجالها الخطر … اللعنة على الذي اخترع الحروب … الا يمكن للبشر ان يعيشوا بسلام ، وهدوء ، وبدون حروب … النتيجة واحدة ايها الاغبياء الحمقى المرضى انها خسارة للطرفين ، ولا منتصر … الانتصار الذي يطبلون له في الاناشيد السخيفة ، والكتب الغبية ، والنياشين التنك الصدءة.. وغيرها ليست سوى ادخنة الوهم التي تتسرب من ثقوب خيالاتهم .. المريضة بجنون العظمة ! كل هذه الحرب اللعينة ، ومغانمها الوهمية ، لا تساوي قلامة اظفر لجندي تزهق روحه الغالية … عبثاً ! كان نهاراً ممطراً ، وطويلاً … خيم بعده ليل بارد رطب .. لا يخفف حدة ظلمته الا ضوء الحمم الاحمر كالدم ، وهي تتساقط عشوائيا .. اشتد الصوت ، وبدءت بعض القذائف الضالة تسقط بالقرب منهم ، فيسمع صوت عواءها ، وتكسرها على الارض ، ومن ثم تشظيها فتحدث فرقعات مرعبة كأنها أصوات وحوش متقاتلة استبد بها الجوع … يشم رائحة الموت التي لا يمكن اخفائها رغم تعوده عليها … الا انه اليوم يبدو ، وكأنه تنكر لهذه العادة ، فشعر بالغثيان … ! - سيدي القصف شديد … نستمر ام نحتمي حتى ينتهي ؟ يدرك ان وقت الاجازة قد انتهى ، وهو لا يملك رفاهية التمتع بالوقت حسب رغبته ، فالاوامر أوامر … تقتضي وجوده الان في الوحدة ، وتحت إمرة قائدها مهما تكن الظروف … لاول مرة يشعر بعجزه عن اعطاء امر عسكري قاطع … كان مترددا ، ولا يدري ما هو الصح ، وما هو الذي سيسوقه الى حتفه ، وهذا الجندي المسكين … لا احد يعرف … انها لحظة مفصلية رهيبة يقف أمامها الكون صامتاً حائراً …! لبث برهه يجمع كل أشتاته … ودونما ارادة منه بدأت ذرات المرارة تتكاثف داخله … توقظ الحزن الباهت في أعماقه ، والذكريات المطموسة كأنها قد بُعثت من جديد … مقتطفات منوعة من شذرات الطفولة البريئة ، والشباب النزق ، والحب … آه … ما اجمله ، واعذبه ، والحياة العائلية اللذيذة ، والساحرة … تجسدت امامه وجوه يعرفها ، ويحبها … أراد أن يبكي ، ولكنه لم يفعل … صمتٌ رمادي بارد مريب يسكن اعماقه … وكأنه شهقة ما قبل الموت ! جذب نفسا عميقا ، ولمعت عيناه ، ثم هتف بصعوبة ، وبصوت فقد زهوه … كأنه يخرج من جسد غير جسده : - نستمر … ! وكان هذا آخر أمر عسكري اصدره في حياته … !!
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زواج مشروط … ! ( قصة قصيرة )
-
لقاء عابر … ! ( قصة قصيرة )
-
ألا ما أفضع ألخيانة … ! ( قصة قصيرة )
-
ذكرى من الحرب لا تريد ان تموت … ! ( قصة قصيرة )
-
وللقدر كلمةٌ أُخرى … ! ( قصة قصيرة )
-
ألم ألألم … ! ( قصة قصيرة )
-
علماني … ولكن ! ( قصة قصيرة )
-
إستعادة الحب من مخالب الكبرياء … ! ( قصة قصيرة )
-
دعوني لأحزاني … ! ( قصة قصيرة )
-
إمرأة بمئة رجل … ! ( قصة قصيرة )
-
زوجة نائمة في العسل … ! ( قصة قصيرة )
-
ما وراء الشمس … ! ( قصة قصيرة )
-
من قتل فائزة … ؟ ( قصة قصيرة )
-
الظاهرة الترامبية العابرة … !
-
انتفاضة تشرين … مخاض أملٍ جديد ! ( قصة قصيرة )
-
غرباء في هذا العالم … ! ( قصة قصيرة )
-
حُلمٌ … مخجِّل ! ( قصة قصيرة )
-
من هنا مرّت فاطمة … ! ( قصة قصيرة )
-
القمار ، وعواقبه … ! ( قصة قصيرة )
-
التطبيع خيار سلام … ام مشروع فتنة ؟!
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|