|
عندما سألني مرسيل: كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 6782 - 2021 / 1 / 8 - 02:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما سألني مرسيل : كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد كان كالغريب يصحو من ليل جزيرة بعيدة يستقبل عامًا جديدًا بفرح فجر أنيق يذكره بوطن ظل لديه، كما كان، شهوة وحشية وعبيرًا منثورًا في جنون النايات وفي خضرة الأناشيد؛ بادرني، بلكنته العمشيتية، وسأل، وهو ما زال في فراشه، وشعره المتمرد يشي بتباريح قلقه المزمن: "كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد .. وكيف كانت ليلتكم؟ " فاجأني صوت مرسيل خليفة وصعقني بسؤاله ؛ فسكتُّ، عساني ألملم أصداء العتمة عن أهدابها وأعيدها شموسًا لمن "غنى فقرة حب لعينيها.. واحبها حب القوافل، واحة عشب وماء". حاولت أن أجد وردته في بطن السراب، لكن السماء فوقنا كانت رصاصية وروائح التيه والغبار تملأ الفضاء وتسد رئتينا. ظلّ هادئًا وبسمة مطمئنة نبتت على حافة شفتيه؛ فالموسيقيون الكبار، كالشعراء الكبار، حاذقون باخفاء مشاعرهم الخاصة عن الناس، وببذرها أشعارًا وألحانًا على وجه الارض، التي لولاها، لولا هسيس الحرف وغنج الكمنجات، لبقيت ، الأرض، مجرد تراب وطين، ولما أصبحت عروسًا يحنّ جميع الناس الى دفء حضنها. لم ينتظر اجابتي، فهو يعرف كيف يستفز صداقتنا وكيف لا يحرجها حتى التعب. بدأ يصف كيف قضى ليلة رأس السنة في مدينة "سيدني" الاسترالية، فقال: "أضأنا الشموع وملأنا البيت بأصص أزهار بديعة. كانت الأبواب مشرّعة على الريح وكانت ليلة حميمة بكل الأصوات والشموع والأزهار الباهرة، وكأننا جئنا من كوكب آخر بالأسود والأبيض مع نظرات طفولية مشرقة وملونة توزع اشعاعها علينا". حاول أن يكون معي واقعيًا؛ فالخيال ضروري في الفن، لكنه يفسد دور الأمل في الحياة، خاصة اذا تمادى فإنه قد يوصل حامله الى الجنون. أصغيت إلى حنايا صدره وسمعت في صوته تمرد الحنين، والتوق الى الخلاص من الحياة على ظهر عود يحمل صاحبه من رصيف ميناء قديم الى شتاء منفى لا ينتهي. نحن في فلسطين لم نجد عيدنا بعد، ولا حتى صورته في المنافي؛ فالبهجة تصير وفق قوانين الهزيمة ترفًا؛ والغدر، اذا هام القطيع في زمن القهر، صار علامة من علامات "الرجال" ؛ والوفاء، في زمن التذلل والرياء، صار نثارًا يفرَّق في أسواق النخاسة والخيانة. كيف تسألني، يا رفيقي، عن عام فلسطين الجديد وأنت ابن حلمها الزائغ، وذاك الغجري الذي لم ييأس، فحمل فلسطينه فراشة ملونة وصوته محراثًا من ماس وأمسك بأثداء الدنيا ولم يبكِ إلا عندما غرقت نجمته وسقط من فوقه القمر. هل تتذكر، ونحن على مشارف مقام جبران، صاحب النبي ، في ضيعة بشرّي، ما قلته لك عن فلسطين التي أضعناها على قرني مذبح، وخذلناها عندما تنازلت فصائلنا عن "بيض صنائعنا .." وتمترسوا كلُّ وراء بندقية وخندق ؟ وهل تتذكر كيف قلت لك اننا صرنا مثلكم في لبنان، قبائل ونحلاً وأقوامًا تطفىء أحلام أقوام وينهشون أجسادهم؛ فلا بطل يوحّد شعبنا كله ولا أناشيد تجمعنا، ولا لغة تلمنا، و"شاعرنا"، وان عُدّ علمًا في سماء الكون كله، ترفضه بعض القبائل وتحاربه بالدعاء وبالسيوف؛ والفنون جميعها، وان لا يهزمها الموت، هي في عرف البعض بضاعة غربية نجسة لا يمارسها سوى الفسَقة والموتورين. لا أريد أن أكون قاسيًا على حلمك، لكنك تعرف كيف إذا صار الوطن مصيدة والبشر أفاعي والاصدقاء خناجر تُدق في الظهور ، وكيف اذا تحوّلت حواكير طفولتك الى ميادين لحروب العصابات الخسيسة وكيف اذا صارت "هياكلك" مراتع للسماسرة ولبائعي الحمام. أعرف كم تحبوننا، نحن الفلسطينيين، بشكل عام، وعرب الجليل والمثلث والنقب على الخصوص، وتُكبرون مسيرة بقائنا في الوطن، رغم أنه بدا مستحيلًا بعد حلول النكبة؛ واعرف اننا اكتشفنا بعضنا عندما التقينا مرارًا على ارصفة الصداقة الخالصة في بلاد الله الواسعه، واجتمعنا حول قنديل درويش اعطاك روحًا فطيّرتَها موسيقى ونشوة على اجنحة الملائكة؛ ومرّة أخرى حين زرنا لبنانكم قبل بضعة أعوام فتأكدنا أنكم الأقرب إلى جليلنا، ظهرِ جنوبكم الأصفر ؛ وعندما وقفنا في بعلبك على مسرح "باخوس" عرفنا متى وكيف زرع الحب في صدوركم ونبتت البهجة في عروقكم يا أهل لبنان، وعندما زرنا غابة "أرز الرب" فهمنا ما قصده الشاعر يونس الأبن حين قال: "مين بيقول السما بعيده ؟ بمدّ إيدي بطالها بإيدي". ما زلت اذكر حين حضرت في ذلك الصباح باكرًا واصطحبتني لنمضي معًا يومًا كله مرسيل والحنين. بدأنا في زيارة لميناء جبيل ولسوقها، وأخبرتك، ونحن نشرب القهوة مع صديقك الأب جان جبور ، عازف العود البارع بشهادتك، انها تشبه "عكانا" تمامًا ؛ فضحكت، وكأنك لا تصدقني، لانه، كما افهمتني، لجبيل لا يوجد مثيل! ثم وصلنا الى عمشيت فادخلتني الى حاراتها وشوارعها وحدثتني عن بداياتك وعن أول الحب وأول الأسئلة الكبيرة وأول الغصات وآخر الفرح؛ ثم توجهنا الى بيتك، وهو بيت العائلة القديم، فرويت لي كيف رحل والدك وأنت منفيّ، فحُرمت من وداعه ومن حضور جنازته. كنا نقف على شرفة البيت التي تطل على التاريخ وعلى حديقتكم الخضراء الجميلة ووراءها في الأفق البعيد شاطيء عمشيت الازرق الصافي، وفجأة توقفتَ عن الكلام وبقيتْ الأغصان وحدها تهمس، فنظرتُ الى وجهك فلم أجد أي تعبير عليه إلا بقايا ألم عتيق وعميق وشوق الى تناهيد الجرود العاشقة. سمعتك تقول بصوت خفيت لطالما عبّرت فيه عن وجعك: "يا خيي لقد قتلوا فينا القدرة على الفرح .. لقد شوّهوا فينا سر الطفولة وأطفأوا بهاء العمر" . اليوم وانت تسألني عن عام فلسطين الجديد وعن ليلتنا في رأس السنة، تذكرتك واستحضرت نتفًا من حديثنا عن كيف سرقوا منا ايضًا في فلسطين تلألؤ البهجة وفيض النور، وعندما قرأت ما كتبتَ على صفحتك في نهاية العام المنصرم، احسستُ أنني مثلك مسافر في غربة دائمة وأنني أشعر مثلك أيضًا بالعطش، فتمنيت لو استطيع ان اخترع لنفسي "لقاء ما في قلب الذاكرة القريبة".. ولكن .. الزيت في قناديلنا ينفد والعتمة بدأت تلفنا، فنحن، وبعد ان نجونا من لعنة تهجير قسري، نعيش واقعًا هو المنفى بعينه، ونحاول مثلك أن نخترع الذكرى كيلا نقف على عتبات اليأس والمستحيل . أعرف كم هو صعب هذا الكلام عليك، هناك في تلك الجزيرة النائية، وأنت تحاول بناء عرائش الأمل من خيوط حرير فجر ناعس وسلالم موسيقاك، وتقيم للنور مقامات من الحب والجلنار؛ ولكنك ، وأنت صاحب الغيم، تعرف أيضا أنّ "الحياة هي الأشهى لولا طنين النهاية" وأن "الفرح ومضة تبدّد دامسًا غميسًا وتمضي" ، كما كتبت بحدسك موخرًا رغم اغواءات رمل تلك الجزيرة وهو ينفذ هناك على الضفاف البعيدة، من أصابع الزمن. صدقني ان الناس في بداية هذا العام في فلسطين فعلوا ما يفعله العرب، اجترّوا حشائش مرابعهم القديمة، وجلسوا يربتون على اكتاف تمائمهم وينتظرون من سينشلهم من بئرهم السحيقة. أما نحن، عرب الداخل، كما تحبون أن تُسمّونا، لم نتمرّد إلا قليلًا، فهنالك بيننا من يريدنا أن نصير مثل كلّ العرب تمامًا، حداة وراء القوافل واذنابًا على القوافي .. فاهدأ حيث أنت وأهنأ وبجانبك براعم الوعد ونواره، واشعل معهم ليلك حتى تمتليء صحراؤك نجومًا وواحات من نخيل وعسل؛ وانتظر فلسطينك، مثلنا، بصبر السنابل؛ وشق وحشتك واطلع منها "كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة" ؛ فأنت عاشق الحرية، وانت الغجري الذي من سلالات "باخوس" وسيد النشوة، وأنت أجمل الذكرى وقاهر الندم.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن زمن اليأس والعدل بطعم الخل
-
كان اسمه عيد الميلاد فلماذا صار اسمه الكريسماس؟
-
اسراطينيات..جولة الباطل زفرة
-
سقوط المحكمة العليا الاسرائيلية الوشيك
-
ما المشترك بين عايدة ومنصور ؟
-
النائب عن الحركة الاسلامية، منصور عباس، ولافتة قف
-
المواطنة، الهوية، قتل النساء والأمل المفقود
-
الأسرلة والتأسرل والعالم المقلوب!
-
الأسرلة
-
صائب، مفارقات غريبة ومسيرة طويلة
-
من يسمع صرخة هذا -الأخرس- من أجل الحرية
-
من سيدق الأجراس على باب جهنم؟
-
جمال عبد الناصر ..غصة وذكرى وضريح
-
حاج في دبي، نعمة أم نقمة
-
-طوبى لصانعي السلام- أريد مسيحًا يسعفني
-
ويبقى السؤال كم مرة ومن قتل يعقوب ابو القيعان؟
-
عندما يصيب -كوفيد15- رئتي القائمة المشتركة
-
عندما اعتدت شرطة نتنياهو على رئيس الشاباك
-
اتفاقية اسرائيل-أبو ظبي ونهاية حلم الامة الواحدة
-
كيف سرق قاضيا المحكمة العليا دولتهما، إسرائيل؟
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|