جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6778 - 2021 / 1 / 4 - 19:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا شك أن كثيرا من الذين راهنوا على الثورة أو الإنتفاضة التشرينية قد اصيبوا بالإحباط لأن الثورة لم تفلح بتحقيق مكاسب مادية كبيرة ومنظورة, فالطبقة السياسية الحاكمة ما زالت هي نفسها بأحزابها وميليشياتها وزعاماتها السيئة التي تفتقد إلى أبسط معايير القدرة على إدارة البلد وإيقاف عجلة تدهوره, كما أن هذه الأحزاب قد أفلحت كثيرا في ترسيخ قواعد نهب البلد وتدمير إقتصاده وتصفير قواه وآلياته الإنتاجية وتحويله إلى سوق لتصريف بضائع البلدان المحيطة به, وحتى إلى مصدر ساند لإقتصاد الدولة الإيرانية المحاصر.
وما زال التقسيم الطائفي للبلد سيد الموقف أما الفساد فبات يشكل عامل النهب الأساسي للميزانية وسببا أساسيا لتدمير إقتصاد الدولة المدمر أصلا بفعل نظامها الريعي الذي لم يعد قادرا كما في السابق لإدامة قدرات هذا الإقتصاد الرامية لسد الحاجات الرئيسة للبلد, فصارت الدولة على أبواب إعلان إفلاسها وإظهارعدم قدرتها على دفع مرتبات جهازها الوظيفي الذي يمكن إعتباره الأضخم نسبة إلى باقي بلدان العالم, كما وإستمر أيضا نهب موارد ومداخيل بوابات الجباية الكمركية التي كانت تشكل نسبة ملحوظة من ميزانية البلد.
واقع الحال يؤكد على إن الأزمات الإقتصادية التي قادت الدولة الإغنى موردا في الشرق الأوسط إلى أن تكون الأفقر على مستوى الفاعليات الإقتصادية الضامنة على الأقل لديمومة إستمرار العجلة الإقتصادية حتى بشكلها الريعي هي من صنع النظام الأفقر على صعيد إشتراطات الحد الأدنى للقواعد والأسس السياسية والأخلاقية.
إن الأزمة هي بالأساس ليست أزمة إقتصادية وإنما هي أزمة سياسية وأخلاقية.. إصلح الثانية تنصلح الأولى. بكل تأكيد فإن الإصلاح لن يأتي بشكل أوتوماتيكي وسياقي غير أن من المحال أن تبدأ عملية الإصلاح أصلا ما لم يكن هناك إصلاحا سياسيا وأخلاقيا أولا وتكون هناك برامج وطنية لوضع السلطة في خدمة الدولة وليس العكس.
ومن الواضح أن الأزمة العراقية الراهنة في عراق ما بعد الإحتلال قد نشأت بفعل أن الصراع كان ولا يزال وسيبقى دائرا في مساحة بناء السلطة مع فقدان كامل لقدرة مغادرة هذه المساحة إلى المساحة المعنية ببناء الدولة. وبينما يتنبه قادة الدول إلى مكامن الضعف في أنظمتهم ويحاولون إصلاحها فإن لا أحد من القوى العراقية السياسية المتصدرة لقيادة السلطة أو المشاركة فيها ميال إلى عملية الإصلاح هذه. وإن هذا الخلل ليس من صلب التكوين البنيوي الذاتي للنظام لوحده وإنما أيضا لأن قوى النظام ذاتها مرتبطة بشكل جذري مع النظام الإقليمي وفي المقدمة منه النظام الإيراني الذي يهيمن على الساحة العراقية ويعطل إرادتها ويمنع بكل قوة تشكل إرادتها الوطنية المستقلة.
ومنذ الإحتلال الأمريكي للعراق فإن المشهد العراقي صار يتمظهر في حالتين. الحالة الأولى يحتلها الصراع الطائفي لبناء السلطة في حين دارت الثانية حول عملية تفكيك الدولة القديمة التي كانت قد تأسست في بداية العشرينات من القرن الماضي.
وخلال السبعة عشر عاما أحكمت إيران نفوذها وهيمنتها على السلطة وجرى إستثمار الصراع ضد داعش لغرض بناء العراق الإيراني بعد أن أتمت امريكا مشروع تنازلها عن دولتها العراقية الذي لم يكن بالأساس مشروع بناء بل كان مشروع تفليش.
ولعل من الخطأ الظن أن الإحتلال الأمريكي كان قد توخي بالأصل بناء العراق, وأن فشله عن إنجاز ذلك قد تم لأسباب لها علاقة بالداخل العراقي. لقد كان واضحا منذ البداية أن أجندة إحتلال العراق لم تكن أمريكية خالصة, كما كان من الوهم الإعتقاد أن مشروعا بذلك الحجم وتلك الخطورة لم يكن قد خرج من مطبخ أمريكي إسرائيلي مشترك. لقد إشترطت عملية الإحتلال منذ البداية تجميع الأحزاب سيئة الصيت وحرصت أجندته على أن يأتي التغيير محروسا بدستور طائفي وتقسيمي من شأنه تفتتيت المجتمع العراقي بمساعدة من ديمقراطية معيبة ومشوهة. ولم يتحقق الإنسحاب الأمريكي من العراق إلا بعد أن تأكد لذلك التحالف أن العراق الدولة قد جرى تشييعها إلى لحدها وأن الباقي منها صار لا يؤذي ذبابة إسرائيلية وأن الهيمنة الإيرانية عليه سوف تحقق من جانبها الحلم الصهيوني مجانا.
وإذا ما وافقنا على أن مرجعية النجف كانت قد لعبت دورا حاسما على صعيد التخفيف من حدة الصدام الشيعي السني الذي كان آيلا للإنفجار بحدة وخاصة بعد أن وجدت (القاعدة) من يناصر مشروعها في العراق وبخاصة في المناطق الغربية منه وفي بغداد بشكل خاص, فإن تورط المرجعية الشيعية في بناء دولة المكونات السيئ الصيت كان واضحا وكانت جميع محاولاتها لنقد مشروع السلطة المشوهة والعميلة قد جاءت متأخرة, وأن مرجعية السيد السيستاني ذاتها باتت وما زالت على وشك أن تكون مسؤولة عن الفشل التاريخي للشيعة, طائفة وعقيدة.
وبقدر ما تبدو التجربة العراقية الحالية بائسة وشديدة التشوه بقدر ما تبدو قدرة القضاء عليها محدودة وذلك على عكس الحسابات التقليدية للفشل والنجاح. على السطح يبدو لنا وكأن القوى المتخاصمة على وشك الإنفجار في وجه بعضها البعض, لكن تحت ذلك السطح مباشرة يبدو الأمر وكأنه قد ترتب بشكل معاكس, فالتخادم الإيراني الأمريكي لا يزال قائما.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة يبدو الأمر في أفضل الأحوال, أو أسوئها, قائما على نظرية التخادم, أي أن إسرائيل مستفيدة بكل الأشكال من الوضع العراقي البائس وتدفع إلى المزيد من البؤس, لذلك لن يهمها الإختلاف مع إيران حول الساحة العراقية, بمعنى أن الفائدة الإسرائيلية هي متحققة فعليا من خلال جملة الأضرار التي يتسبب بها النظام الطائفي الفاسد. أما أمريكا فما زالت لها اليد العليا في الهيمنة على السيولة النقدية العراقية بسبب أن أغلب المال العراقي المسروق مودع في بنوك مسيطر عليها, إن لم يكن مستثمرا في نشاطات إقتصادية مشتركة, كما وإن أسعار النفط لا تملك حرية الحركة خارج مدارات الجذب الأمريكية. فأين تمطرين أيتها السحابة العراقية فإن خراجك سيعود إلينا.
إن جميع القوى المعطلة للإرادة العراقية المستقلة قد أصبح من فائدتها إستمرار الوضع البائس على ما هو عليه, وإلى يوم تتغير المعادلات الإقليمة والدولية بشكل يتطلب تغييرا جيوسياسيا إقليميا ذا شأن فإن القضية العراقية قد تبقى قضية مؤجلة الحل حتى إشعار آخر. وإن ما بات واضحا هو ان المنطقة العربية قد مرت بمرحلتين حاسمتين, الأولى تلك التي رافقت هزيمة الخامس من حزيران وملخصها إنكسار الإرادة العسكرية والثانية هو إنكسار الإرادة المجتمعية التي تجلت من خلال ما سمي بثورات الربيع العربي التي تمظهرت في العراق من خلال تفكيك وتصفية القضية المجتمعية التي أظهرت لنا أن الإحتلال كان قد جاء فاتحة ليس للقضاء على نظام صدام حسين الضعيف والساقط سياسيا ومجتمعيا وإنما إستغلال ذلك للإطاحة بكل المرتكزات التي تسمح بعودة العراق الدولة والوطن إلى سابق عهدهما كقوة وطنية مقررة وذات شأن.
إن أية ثورة شعبية هدفها القضاء على الحكم الفاسد وإعادة بناء العراق بشكل واعد هي ممنوعة من قبل الجميع أخوة وأعداء, ولذلك صار مستحيلا التعويل على أن يأتي التغيير بسياقات تقليدية كما كان شأنه في السابق. وهل يعني ذلك أن الأمل بالتغيير صار مستحيلا ؟ كلا بطبيعة الحل وإنما الذي يعنيه أن الثورات, بعيدأ عن صيرورتها التاريخية السياقية التي تعتمد على العناصر الذاتية للنجاح, صارت تتطلب توفر العاملين الأهم, الإقليمي والدولي. وإن تصور أن يكون للعامل الذاتي قدرة الحسم لوحده, كما جرى الأمر في العديد من محطات التغيير التاريخية السابقة, صار اليوم على الأغلب بعيدا عن متناول اليد, دون أن ينفي ذلك إمكانية أن تهب رياح التغيير في المستقبل في أية لحظة تاريخية فاعلة.
وإن ما يبقي جذوة الثورة مشتعلة, وإن خَفَت لهيبها, هو أن النظام الطائفي المحاصاتي الفاسد والعميل بات غير قادر على أن يقدم ما من شأنه إمتصاص النقمة, فالجوع والفاقة والفقر قد بلغ بشكل عام أرقاما قياسية في حين أن ميزانية الدولة لم تعد قادرة على سد إحتياجات موظفيها وعساكرها لما يؤجل حالات الإنفجار, ويعني ذلك أن هذه الإنفجارات المؤجلة مرشحة للعودة مرة أخرى, وإنها ستستمر وتتصاعد بما يبقي العراق والعراقيين على موعد مع التغيير الكبير.
ولعل كل ذلك يقودنا إلى المشهد الأهم وهو أن الثورة العراقية التي بدأت بتشرين, مرشحة للعودة مرة أخرى بفعل إنعدام قدرة الدولة الفاسدة على توفير ما يمكن أن يحول دون إشتعالها مرة أخرى.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟