أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هنادي كوباني - زفرة العربيِ الأخيرة















المزيد.....

زفرة العربيِ الأخيرة


هنادي كوباني

الحوار المتمدن-العدد: 6776 - 2020 / 12 / 31 - 02:13
المحور: الادب والفن
    


في تموز الماضي، أسقط متظاهرو «حياة السود مهمة» تماثيل كريستوفر كولومبوس في عدة مدن أميركية. سبقت هذه المظاهرات ازالة تمثال كولومبوس في كاراكاس وبيونس آيرس، في حين قامت جزر البهاما بإلغاء يوم اكتشاف أمريكا وإعلان يوم الأبطال الوطني كبديل عنه، فيما تطالب برشلونة بتخليصها من تمثال كولومبس منذ القرن الثامن عشر، ويسعى برلمان كاتالونيا إلى تحطيمه أو ترحيله وإلغاء الاحتفال السنوي باكتشاف أميركا. الواضح أن تمثال كولومبوس بات يرمز لا فقط إلى مرحلة مفصلية شهدت أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري، بل أيضاً إلى تمظهر الماضي وديمومته واستمراره في الحاضر جاعلة من ذاكرة هذا الماضي مرجعية في تجربة الحاضر وفي صياغة استراتيجيات ومشاهد المقاومة.

في تشرين الأول1492، قاد كريستوف كولومبوس سفينته لاستكشاف ما سمي بالعالم الجديد بمباركة البابا ألكسندر السادس، الذي شرَّع دينياً الحقوق المزعومة للتاج الإسباني في احتلال القارة الأمريكية، مما أدى إلى إباحة قتل الملايين من سكان المنطقة الأصليين في شمال أمريكا وجزر البحر الكاريبي، وشحن الآلاف إلى إسبانيا حيث تم بيعهم كعبيد في إشبيلية. غزو ما يسمى بـ "العالم الجديد" تزامن مع دخول الإسبان أسوار غرناطة في كانون ثاني 1492. في ذاك العام، دشنت محاكم التفتيش عملية تطهير ديني وثقافي وعرقي ضخمة راح ضحيتها ملايين الأندلسيين العرب والمسلمين. في ملحمة مجنون السا (1963)، ينوه الشاعر الفرنسي لويس أراغون إلى هذا التزامن في مشهد تراجيدي يرسم سقوط غرناطة وآخر أيام العرب في الأندلس وقصص الحب والموت واليأس لحظة الفراق، في حين يدخل المفتشون وملوك اسبانيا الكاثوليك لاحتلال غرناطة، في موازاة تحرك سفن كولومبوس نحو المحيط الأطلسي وعالم سيعتبر جديداً بعد ذلك. وإذ يرسم لنا أراغون شعراً سقوط غرناطة كلحظة محورية في التاريخ الحديث، يغيب عنه أن التطهير الديني والثقافي والعرقي للعرب في اسبانيا هو الذي هيأ أسس ممارسات الفتح المماثلة اللاحقة في القارة الأمريكية.

هذا التزامن بالذات ما يلتقطه محمود درويش في قصيدته «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، التي يسرح فيها بسعة وفيض الخيال اللغوي صعوداً وهبوطاً، دخولاً وخروجاً، حضوراً وغياباً، شكلاً واشكالية، انكساراً وأملاً، بكاء وتحذيراً وبعثاً، ليكتب حوارية تناصية موسوعية تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والأحداث والتواريخ لتلتقي في تسليط مجهري على مشهد خروج أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة الذي وقع في تشرين الثاني سنة 1491 معاهدة تسليم مفاتيح المدينة لملكي إسبانيا فرناندو وإيزابيل، وهو يراقب التفكك والسقوط، ومن حوله أعوانه الذين يستعدون للغدر به، فيما الشعب منقسم شيعاً شيعاً. يأتينا صوت أبو عبدالله الصغير في المقطوعة الرابعة: «أنا واحد من ملوك النهاية... أقفز عن فرسي في الشتاء الأخير، أنا زفرة العربي الأخيرة». وزفرة العربي الأخيرة هي تل البدول، الذي وقف عليها ملك النهاية الأندلسية وأجهش بالبكاء، وغير اسمها الإسبان وأطلقوا عليها اسم «زفرة العربي الأخيرة (El ultimo suspiro del Moro). هنا ينطق ملك النهاية بلسان الحكاية القشتالية: يهرب الملك الصغير إلى المنفى خوفاً من الموت والحرق والسجن والتنصير الجبري، فيتنصر خطابه ويعمد بلسانه حكاية المنتصر وفتحه المضاد، ليستحق أبو عبدالله بجدارة لقب «الملعون» عند العرب و«بو عبيدل» و«الملك الولد» للتصغير عند الإسبان؛ فالمنفى لا يوازي المقاومة في ماهيته بل في كيفيته.

يستحضر أراغون مشهد الخروج من غرناطة في تصوير لمجنون السا، شاعر اسمه قيس ويلقب بالمجنون يجول في شوارع غرناطة ويتغنى بحب امرأة اسمها «السا» ليجد نفسه مطروداً منها بعد ان احتلها ملوك اسبانيا الكاثوليكية، فيهرب إلى الجبال فاقداً كل أمل في استعادة عروبة غرناطة، ويبدأ بقراءة وغناء الأزمان المقبلة: زمن دون جوان الذي سيحول الحب الي هذيان، وزمن ناتالي دي نواي ولقائها مع شاتوبريان، والزمن الذي يشهد الحرب الأهلية الإسبانية واعدام لوركا، وصولاً إلي زمن السا التي يحاول الشاعر استعادتها إلى الحياة عن طريق السحر فلا يفلح، فيموت الشاعر يائساً خارج أسوار غرناطة. وفيما يستكمل لويس أراغون قصة نهاية الحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية بسفن كولومبوس التي تتحرك باتجاه "العالم الجديد" كعلامة على المستقبل المقبل والوصول إلى تفاؤل ممكن، يبعثر درويش زفرة العربي الأخيرة عبر الأزمنة والأمكنة ويصوغ من دموعها سيمفونية الكمنجات الحزينة ومن أنفاسها متتاليات تراجيدية تفيض بمشاعر الانكسار واليأس والتشاؤم، فتبحر بنا القصائد إلى الطرف الآخر من المحيط الاطلسي عند سكان المنطقة الأصليين في شمال أمريكا، وفي عود إلى رؤيا يوسف، وأماماً إلى الذكرى الـ 500 للعام 1492 (سقوط غرناطة ورحلة كولومبوس)، وكشاهدة على اشتراك وفد منظمة التحرير الفلسطينية في عملية السلام وانعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991، ومرتحلة إلى زمن أريحا في أرض كنعان ومنها إلى ضفاف دجلة والفرات والحرب على العراق. في أحد عشر قصيدة في ديوان أحد عشر كوكباً، يخضع درويش هذه المتتاليات لأكثر من قراءة ليكتب جدلية فقد البشر والأرض، الكتب والأفكار، التواريخ والذاكرة، الحضور والغياب، الماضي والحاضر والمستقبل، ويكتب من خلالها «التاريخ المضاد لتاريخ الاستعمار في إبادة الشعوب ومحو الذاكرة، وتغيير هندسة الطبيعة والإنسان على يد سيد الوقت والصخب المعدني، الذي يبشر بالحضارة باغتصاب براءة الطبيعة ونقاوتها، وتدمير المكان وسكانه الأصليين، في شمال أمريكا وفلسطين والعراق، ويصطاد الأطفال والفراش».

ورغماً عن أنف الغياب والتغييب وملوك التفاوض والاستسلام ومحاكم تفتيش الحاضر، التي تفرض السلام مقابل جبرية التصهين والتبرؤ من فلسطين ونفيها خارج الجسد والوعي والتاريخ والذاكرة والخطاب العربي سراً وجهراً، ينثر درويش أحد عشر كوكباً على هذا الزمن الرديء ليخلق من الحنين لبيته الرعوي في الجليل ومن الواقع الفلسطيني في الصمود والعناد بيوتاً وخيام شعر وعامود دخان يقوده كما شوق عوليس من سفره في المجهول ومنفاه وسط العواصف والأعاصير والحيتان والسيرينات والحوريات والآلهة إلى شواطئ إيثاكا. ينقذ درويش القصيدة من العبثية والعدمية والكفر بالتاريخ نحو التأكيد على فعل الوجود والاستمرار والمضي، ودفع عجلة الذاكرة والحكاية والتاريخ نحو أمام يبني من حطام الحاضر والماضي جسراً بين أندلس فردوس الماضي المفقود و«أندلس الممكن» في فلسطين المكان/المستقبل. يسأل درويش ويجاوب: «هل كانت الأندلس/ ههنا أم هناك؟ على الأرض... أم في القصيدة؟»، ليجاوب نفسه:
خمسمئة عام مضى وانقضى، والقطيعة لم تكتمل
بيننا، ها هنا، والرسائل لم تنقطع بيننا، والْحروب
لم تغير حدائق غرناطتي.

هذه المتتاليات التناصية ليست عشوائية؛ ففي 19 أيار 1506، صادق كولومبوس على وصيته التي نص فيها على إنشاء صندوق لغرض تحرير القدس، في دليل على محورية القدس في حملة كولومبس، التي هي حلم حرب صليبية متجددة كانت بداياتها في القرن الحادي عشر، أي ما قبل سقوط غرناطة، واستمرت لمدة ثلاثة قرون في ثماني حملات صليبية ابتداء من الحملة الأولى عام 1096 حتى الحملة الثامنة علم 1270، وعادت عبر الامتيازات في القرن السادس عشر، وحملة نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر، وتأسيس الكيان الصهيوني الذي لا يفرق عن الكيان الصليبي الذي أقامه الصليبيون عند قدومهم في نهاية القرن الحادي عشر وتأسيس مملكة بيت المقدس بعد احتلالها وذبح أهلها، وتعددت أشكال عودتها في الحاضر بغزو أفغانستان والعراق وليبا وتدمير سورية واليمن والصومال. وفي أواخر عام 1991، انعقد مؤتمر مدريد للسلام في مناسبة مرور خمسمئة عام على طرد العرب من الأندلس واكتشاف "العالم الجديد". في افتتاحية المؤتمر، ابتدأ شامير كلمته بقوله: «خلال ألفي عام من الترحال حط الشعب اليهودي هنا لمئات السنين حتى طرد قبل خمسمئة عام... وفي إسبانيا عبر الشاعر والفيلسوف الكبير يهودا هاليفي عن شوق جميع اليهود إلى صهيون بقوله: «إن قلبي في الشرق وأنا في أقصى الغرب»». أما الوفد الفلسطيني، الذي لم يعطى حق تمثيل نفسه وشارك ضمن الوفد الأردني، فقد كان «كل شيء معد لنا»: بصمنا أن «للحقيقة وجهان»، وسلمنا «مفاتيح فردوسنا لوزير السلام» في سلام الصفقات والصفعات، وأقمنا عرش سلطة «تخشى الشهادة» وترفض أن تحمل نعشها رغم احتضارها في حضيض فظيع، وما زالت تنتظر عرض التفاوض وطول المفاوضات.

وها نحن ذا يوسف العرب، ينقض الماضي على حاضرٍ على حافة بئر السقوط أو الاستسلام وكيد الإخوة من دبي والبحرين إلى السودان والمغرب، وبو عبيدل يطبع ليلحقه الملك الولد بلا حياء، ونصرخ بوجه قيادات أثخنها الانقسام وسلام التنسيق الأمني وأثخنتنا بالفساد والاستبداد وضياع البوصلة والأرض:
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مِما يئسنا، والنهاية تَمشي إلى
السور واثقة مِن خطاها
فوق الْبلاط الْمبلل بالدمع، واثقة من خطاها
من سينزل أعلامنا: نحن، أم هم؟ ومن
سوف يتلو علينا ((معاهدة الصلح))، يا ملك الاحتضار؟
كُل شيء معد لنا سلفا، من سينزع أسماءنا
عن هويتنا: أنت أم هم؟
...
من سيدفن أيامنا بعدنا: أنت... أم هم؟ ومن
سوف يرفع راياتهم فوق أسوارنا: أنت... أم
فارس يائس؟ من يعلق أجراسهم فوق رحلتنا
أنت...أم حارس بائس؟ كل شيء معد لنا
فلماذا تطيل التفاوض، يا ملك الاحتضار؟



#هنادي_كوباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- رابط مباشر.. نتيجة تنسيق الدبلومات الفنية ونتائج الدور الثا ...
- عالم الترفية والثقافة.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجديد ...
- تابع أقوى أفلام الكرتون مع تردد قناة CN نتورك بالعربية على ا ...
- وفاة الممثل العراقي حمودي الحارثي الشهير بـ-عبوسي-
- افضل قنوات الأطفال.. تردد قناة سبيستون الجديد 2024 محتوى مم ...
- الإعلان الأول زفاف ومقابر.. مسلسل المتوحش الموسم 2 على قصة ع ...
- -لسنا عربا-.. مصريون يتعلمون اللغة القبطية -لإحياء هويتهم ال ...
- ماما شو يا لولو.. استمتع بأفضل أغاني وأفلام الأطفال مع تردد ...
- ضجة بعد استبعاد سلاف فواخرجي من -حبق- واستبدالها بكاريس بشار ...
- ثبت NOW تردد قناة بطوط الجديد 2024 واستمتع بأجمل أفلام الأطف ...


المزيد.....

- القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو ... / طلال حسن عبد الرحمن
- في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- (مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- كتاب نظرة للامام مذكرات ج1 / كاظم حسن سعيد
- البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- صليب باخوس العاشق / ياسر يونس
- الكل يصفق للسلطان / ياسر يونس
- ليالي شهرزاد / ياسر يونس
- ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير / ياسر يونس
- زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي / ياسر يونس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هنادي كوباني - زفرة العربيِ الأخيرة