أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عُمَر بن بوجليدة - في تجربة الشر وأخلاق المقاومة أو غسان العاشق الثائر















المزيد.....


في تجربة الشر وأخلاق المقاومة أو غسان العاشق الثائر


عُمَر بن بوجليدة

الحوار المتمدن-العدد: 6764 - 2020 / 12 / 18 - 16:40
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


إلى روح الشهيد: غسان كنفاني ... وإلى روح لميــــــس ... وإلى أطفال فلسطيــــــــن ... والأطفال - عنوان البراءة - ... أجمعين ...

ولأن "النضالي" يتماهى بـ"السياسي" والعشقي، ويتداخل عنف الاحتلال وقوى الخبث بالحب والثورة والمقاومة. فإن "غسان" مهووس بالانزياح عن مواقعه وعن مألوفه. فقد قدّر بلغة بسيطة وعاطفة فريدة وتوهّج فكر، أن مراقصة الحياة بأشكال مختلفة، يمكن أن يحقق الإضافة. إنه ما يستوجب مراجعة للتاريخ وتأمل ما اكتظ به من إقصاء واستبعاد، للذين حرموا حقّ البوح بقصصهم في المعركة ضد السرديات المعروفة التي تصادق عليها المعرفة الرسمية. وهكذا فإنه إذ لم يتم الانتباه إلي عشاق الأرض وشكاوى "المقموعين"، ولم يقع الإنصات إلى "المضطهدين"، وأولئك الذين لا يمكن قتلهم، و إن شئت فقل "المهجرين". وما أحيل على الصمت، فإننا لن نغادر أرض الإقصاء والتهميش.
فلقد تم ابتذال البشر، وأصبح "هؤلاء التائهين" ضحايا النقمة والغضب والخزي والعنف، ببساطة وبطء جليلين، والتواطؤ مع العار والإذلال: وإلا لماذا على أرض هؤلاء بالذات تخاض الحروب ؟ لماذا لم يفعلوا شيئا من أجل منع الكارثة / الفاجعة ؟ - ولا نستثني منهم أحدا –.
إنها مؤشرات تلاعب ساسة ودكتاتوريات، وبؤس رأسمالية وعولمة متوحشة وانزياحات وانحرافات حداثوية، لم تترك لهم من الأمل إلا أن لا يكونوا أمواتا، هلعا وألما.
ففي الصدور العارية، "ضاعت الطريق وراء ستار من الدموع" في خطوات الأمهات تتعثر، في لحاف الرضع، في هلع عيون تتطلع حيرى في أضواء حارقة "كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلك الشارع الرئيس المتجه إلى الميناء رجالا ونساء وأطفالا،- والأطفال مثل الورد والخبز - يحملون أشياء صغيرة أو لا يحملون، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح" . تجل من تجليات سر المظلومين في التاريخ،"عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا" . تحت ظل هذا الدمار العظيم. للتحرر من الاضطهاد والقمع والفقر والتبعية. حرب الأرض المغتصبة، ثورة المستضعفين، "كانت رائحة الحرب ما تزال هناك بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة وبدت له الوجوه قاسية ووحشية" . لحظات التحام بالجماهير المستغلة، ترفع وعيها الديمقراطي والمساواتي، ضد معارك توزيع الرخاء الوهمية، ثناثية الله والناس ضد قوى الارتهان والضعف والهوان، تلك التي تمارس السلطة، ضرب من ضروب المشاركة في الإحساس بالمعاناة، من جهة ما هو نبل تاريخي.
إنها إيقاعات الرعب في غمرة الألم والرداءة،"صدر صوت انفجار ما من بعيد، وأعقبته طلقات رصاص (...) وشهد صبيا يعدو عبر الطريق وعندها جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه" . صدور الأطفال مثقوبة بالرصاص، يقاسون الجوع والحرمان والاضطهاد، دموعهم ودماءهم، تحولت إلى أرصدة في البنوك وشركات النفط، وفي مفاوز السياسة الملغومة بالكيد. يقاومون ضد اليأس والمحو والنسيان. إنه التعلق الخرافي بأقاليم الكرامة، مضادة تقيم أودها من عيون الثكالى والمنجرحين والحيارى والحزانى، ذوات جعلت من الموت بوابة حياة تحب شعبها حدّ الاستشهاد، "هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي أنا، ووجودك فيه مهزلة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح" ، انتفاض مضمخ بالرفض،"اكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها وقررت أن تعود بأي ثمن" . تلاوة لفعل الثورة، يتأجج صداها، انتماء، مبادئ و مواقف. فعل نوعي يملأ خلايا المقاومة بأشعة الحلم والنصر.
سنلامس إذن محاولة لاستنطاق الذاكرة في سبيل صياغة رؤية تنطلق من الواقع المعاش ومن احتمالاته المتعددة، إذ يتشكل النبض الحار لنثر "كنفاني" وقدرته على تكثيف اللحظات النثرية في تصور يماهي بين مرارة الواقع وإمكانيات تغييره. فرواية "عائد إلى حيفا" تتكئ على وعي تاريخي كثيف، يؤشر إلى حدة الشروخ والآلام التي فاقت كل العذابات. فمن ذا الذي ينكر رعب الساسة و الاستعمار الآثمة يداه، بسياسته العنصرية المتوحّشة التي دفعت الناس إلى الهجرة. يؤثثه كثير من "المتصهينين العرب"، "ففي الوقت الذي كان يناضل فيه "بعض الناس" ويتفرج "بعض آخر"، كان هناك "بعض أخير" يقوم بدور الخائن" ، يملئون الحياة كآبة و قسوة، ويرضخون إلى أولئك الذين يطالبون بضرورة تطهير البلاد باسم الحق و الرّب. فقد تم تقاسم دقيق ضمني للنفوذ بين جماعة الإيمان واللّحي وجماعة بيع "الأوطان خلسة"، لحظة لم يعد يعرف الشعب له مقصدا، وكأن المرارة فينا موروثة.
ولنا أن نشير إلى أننا ها هنا أمام روايات تتعمد أن تظل قولا ناقصا، قولا لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفا أو فعلا. "وكان غسان يمتلك الوعي بقضية، بيقين، بهدف: كان منذ البداية يعرف الهدف الوطن: سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد. لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب وجذور تستعصي على القلع" . فلا تحسبن قراءة ذلك الضرب من النصوص بالأمر اليسير أو الهين. بل لا يقدر عليه إلا من كانت له قدرة على التأصيل النظري والعمق الفكري، ليدرك كيف لهم أن يساكنوا هذا الرعب. أولئك الذين مستهم البأساء والضراء في إنسانيتهم، في حضورهم داخل العالم بل قل في علاقتهم بذواتهم وبالآخرين، وزلزلوا شديدا. فهذا عار يكاد يلامس التواطؤ وسل الذين يهترؤون في السجون والمنافي والمهاجر. "لقد حاولت منذ البدء أن استبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة ثم بالكلمة ثم بالعنف ثم بالمرأة. وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح : لك شيء في هذا العالم، فقم، أعرفته" . وهكذا فرجل الأدب" لا يروي حقائق لكنه يسرد حكايا، ينبغي أن تروى وإن لم تروّ، إلا لغرض واحد: كشف الأشياء المرعبة المدمرة والرهيبة. بتأمل لاذع يستحيل احتذاؤه. وبإيحاء مدهش وتبصّر موحش يضيئها إضاءة فذة : هي من الثقل بحيث لا نقبلها إلا شعرا. وبهذا يستبين أن هذه الروايات ترتبط، بسؤال أكبر، المسرب إليه : كيف الخروج من عصر الاضطهاد والكولونيالية ؟
وكتابات "غسان كنفاني" ، تندرج ضمن هذا المسلك. إذ انتبهت باكرا إلى أن الأمر دبّر بليل ووسّد إلى غير أهله، "كنت طفلا آنذاك وكنا نشهد دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شبرا شبرا وكنا نتراجع شبرا شبرا، كانت البنادق العتيقة في أيدي الرجال الخشنة تمر أمام عيوننا كأساطير دموية" وأصبحت لا ترى إلا "عنصريا" أو "صهيونيا". وإن هذا لشيء عجاب، أجيال تلقفتهم المتاهات، فما استطاعوا مضيّا، ولا هم يرجعون، وما ذلك منا ببعيد.
ولأن مقرري "المصائر والأمم"، واعون بما يرتكبون، من حماقات ونذالات وفظاعات مطبوعة بالدم والاستبداد، خالعة للقلب وباعثة على الهلع، في حق الإنسان والتاريخ. يدركون أيضا أن حيلهم ومكرهم لا ينطلي إلا على البلداء والسخفاء والسفهاء، من ضعفاء العقول.
فـ"ميريام" قد فقدت والدها في "أوشفيتز" قبل ذلك بثماني سنوات" ويتساءل"غسان" لماذا يصبح اليهودي في فلسطين نسخة رديئة من جلاده ؟ ولا يستطيع أن يعطي المثل الأعلى للتسامح والتعايش؟
ببساطة، لأن الامبريالية زرعت الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كحلقة ممهدة لظهور الأنظمة الكليانية، تكريسا للعنصرية، ومن أجل إيجاد مسوغ إيديولوجي للقوى الاستعمارية. "فلسطين (...) بالنسبة له كانت مجرد مسرح ملائم لأسطورة قديمة، ما يزال يحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه مرسوما في الكتب الدينية المسيحية الملونة المخصصة لقراءات الأطفال في أروبا. إلا أنه لم يكن يصدق تماما أن تلك الأرض كانت مجرد صحراء أعادت الوكالة اليهودية اكتشافها بعد ألفي سنة" . لقد انحفرت في أذهانهم سلسلة الإجراءات التي اخترعتها الدولة البرجوازية. فما عادوا يستطيعون الانزياح عما درج التصور التقليدي على تأكيده. حتى أعمتهم عن رؤية تواريخ أخرى. وتطلعات مغايرة وممكنات بديلة.
وهكذا فالهذيان السياسي الذي يمارسه حمقى التاريخ، ضد اليتم الفلسطيني: "سوف تموتون كي نحيا"، يتمزق فيه الوعي خوفا من التضحية، يرمي في الواقع إلى تغليف إستراتيجية عالمية ترتبط بالهيمنة الصهيونية والامبريالية. وما يومئ إليه هذا الطرح إنما هو فضح هذا التحالف بالسؤال عن "من هو اليهودي؟" . فهذا الشعور بالإثم يغتاظ من الفلسطيني متوهما براءته. فشقاء العالم لا يعزيني ولا يواسيني. ومثل هذا العماء الذي يمزق التاريخ، إنما يفترض التفاوت العنيف بين الآلام. إلا أن تاريخ الأقلّوي في "الشرق" لم يكن بالسوء الذي كان عليه في "أروبا"، حين كان "اليهودي" يخجل من التحدّث بلغة "اليديش" إلا أنه لمعترض أن يعترض أنه تم اقتلاع وتهجير الكثير من اليهود، وهم لا يعرفون وطنا آخر غير الأرض العربية، أرض أسلافهم التي عاشوا فيها، يشقيهم الحنين، فالأمر صعب يستعصي على الفهم. "ثلاثة أزواج من العيون تنظر إلى شيء واحد، ثم كم تراه مختلف (...) لم يعرف كيف يقول لها أنه لم يأت من أجل هذا، وأنه لن يشرع في نقاش سياسي، وأنه يعرف أن لا ذنب لها، لا ذنب لها، لا ليس بالضبط ، كيف يشرح لها ذلك (...) طبعا نحن لم نجيء لنقول لك اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب" . آنذاك لم يكن في العقل عقل ليفكر. ولم نستطع إلجام جموح الجامحين والحسرة تطغى والمرارة في القلوب. لحظات حزينة محفورة في ذاكرة اليهودي الأخير : فقد ابتسم ابتسامة باهتة وغادر يلف مصيره الريبة والخوف والغموض، وتفاهة الفرد وعبث الوجود واللامعقول ( لا يفهمها لا يونسكو ولا بيكيت
ولا حتى تشيكوف وكافكا ) في ميزان الحسابات السياسوية وضلال الهويات العمياء والاختلاف الوحشي الساذج الذي يقذف بـ"الآخر" إلى خارج مطلق فهل كلهم كانوا خائنين؟
إبانئذ ذكّروا بكلام الرب والموتى: وأعادوا سرد قصصهم ومروياتهم وحكايا آباؤهم والأجداد. وظهرت الصهيونية حركة عنصرية دموية فاشية،"ووسع الطريق أمام افرات كوشن وزوجته القادمين من بولونيا ليدخلا إلى ما صار منذ ذلك اليوم منزلهما المستأجر من دائرة أملاك الغائبين (...) برعاية الوكالة اليهودية". فهل تدري؟
هل تدري ماذا يقال في الفلكلور، الدين، في التلمود، يقال: إن جثة اليهودي الميت خارج فلسطين، تزحف تحت الأرض بعد دفنها حتى تصل إلى الأرض المقدسة، وتتوحّد معها. "وأنت تقولين أنه خيار عادل، لقد علموه عشرين سنة كيف يكون يوما يوما (...) ثم تقولين خيار عادل، إن خلدون أودوف أو الشيطان إن شئت لا يعرفنا، أتريدين رأيي، لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي انتهى الأمر، سرقوه".
فمن يعيد التوازن خارج ممكنات الرؤى النبوئية والانبعاث ألإعجازي، ليؤكد بطلان فكرة أن هذا المكان لي. من يذكّر بـ"أدورنو"، و"سعيد". ويشير إلى أن عبقرية الثقافة إنما تكمن في سعة أفقها . وأن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، "منذ صغري وأنا يهودي وآكل الكوشير وأدرس العبرية وحين قالا لي أني لست من صلبهما لم يتغير أي شيء، وكذلك حين قالا لي – بعد ذلك – إن والدي الأصليين هما عربيان، لم يتغير أي شيء، لا، لم يتغير، ذلك شيء مؤكد، إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية" . حيث العلاقات تبنى ولا تورث. "لقد بدأت الجريمة (...) ولابد من دفع الثمن بدأت يوم تركناه هنا، ولكننا لم نتركه، أنت تعرف، بلى، كان علينا ألا نترك شيئا" . ولأن في آذانهم وقرّ، ولأنهم سيؤون ضاق أفقهم، عاندوا "الحق"وخالفوا الإنسانية، ولم يتمثلوا القلق الذي طاول قاع النفس والفكر، ولم يستوعبوا صفاء اللحظة وعبء ما كان ثقيلا، مريرا كئيبا حالذاك، والجرح الذي لن يبرأ فأقصص عليهم القصص، وأحكي لهم بعض الانعطافات ومخبّأت "الدهور"، وعلّمهم ألا يقنطوا مهما بلغ الأمر من سوء.
إنه الصراع من أجل العدل والمساواة والحرية وإعادة توزيع السلطة والثروة، و إلا ماذا يمكن أن يفعله الدين مثلا، للمفقرين والمضطهدين، إنه كيفية من كيفيات مقاومة الاستغلال والتخلف و الهيمنة الأجنبية، من جهة ما هو البحث عن حضارة أكثر إنسانية وجدل التأسيس لوعي جماهيري ينكر الثبات، ولا يلغي الإيمان فليس المهم أن نفهم عالم الجوعى بل لتكن لنا الرغبة والإرادة لتغييره.
وإنّي ليحزنني أن لا يرى في الموت غير الموت، لم يكن "غسان" من الرجال الذين يمكن قتلهم . ولا من أولئك الذين وجدوا أنفسهم مورطين صدفة في النضال. كان عميق المبدئية والنسيان مستحيل. "غسان" كان شاعرا، "غسان" كان حالما، "غسان" كان عاشقا.
ذلك أن ما تذهب إليه تلك الطروحات التي تحاول إقصاء وتهميش كل ما له علاقة بالحب، من شأنه أن يكون علامة دالة، على التحول التاريخي من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، والذي يمثل في تاريخ الإنسانية أكبر حدث صادم. أمارة التحول من السرور إلى النجاعة .
وليستبين أنه ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم "المناضل" قي صورة "السوبرمان" ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة. وفي رسائل "غسان" صورة للمناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية .
فغسان – درب المقاومة - كان يعرف أن التراجع موت، وأن الفرار قدر الكاذبين. ومن فرط ما شاهد الناس يموتون ببساطة، كان صارما، لكن صرامته لا تتماهى والتحجر، كان النقاء الفذ، النبيل. يدرك أن لا حاجة لفائض الكذب على الذات. ولم يكن في قلبه زيغ، فلا يخلط بين الثروة والثورة. وكان الانسجام بين فكره وجسده . ووفق اشراقة لغوية لـ"غادة". كان دربا للانتماء الواعي العظيم. كذا عاش "غسان" لحظات نصر ثورية جميلة. وكان على الدوام من الجذور التي تستعص على القلع.
عند عتبة هذا التحليل ليس بوسعنا إلا أن نشير إلى ما أشار إليه "سارتر" ذات نص، من أن الكاتب يتموقع في عصره ولكل قول أو صمت استتباعاته، لذلك اعتبر "فلوبار" و"قونكور" مسؤولان عن الاضطهاد الذي تلي "كمونة باريس"، لأنهما لم يكتبا ولو سطر ا للاعتراض. ويذهب "سارتر" إلى أنه قد يقال أنه لم يكن قضيتهم. ولكن يتساءل بمكر: هل كانت محاكمة "كالاس" قضية "فولتير" أو الحكم على "دريفوس" قضية "زولا " ؟ وهل كان حكم "الكونغو" قضية "جيد" ؟ جميع هؤلاء الكتاب وفي ظرف خاص من حياتهم، كان قد قدّر مسؤوليته ككاتب .
وحين ننتبه إلى هذا نكتشف أن"المثقف" قد يكون ثوري في أهدافه و لكنه - وتلك علامات مأساته - تقليدي في تفكيره ومنطقه. وهكذا فمن الضروري تعرية ذلك التآزر الخفي بين قوة المثقف ومؤسسات القوة، لينكشف أنها إنما هي علامات تنبئ عن أزمات ومطبات.
ذلك أن الفكر العربي – تحديدا - لم يستوعب مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية وإنسية وديمقراطية، من جهة ما هي نظام مدني تقتضي أن لا أحد يملك الحقيقة السياسية، بل أن تلك الحقيقة تتكون يسيرا يسيرا، أماراتها الحوار والنقاش الذي لا ينتهي. لحظة تتحول الديمقراطية إلى مطلب اجتماعي، تحمله الحركات الاجتماعية وتضمن له التراكم والاستمرار. وهو ما من شأنه أن يفتح الباب وسيعا أمام سؤال مفصلي: هل يمكن تصور "مثقف" أو "تنظيم سياسي" ثوري بدون ثقافة حديثة ؟
ذلك أن "البعض" يتناسى أنه لا ديمقراطية في ظل التجانس، ولا حرية أو اختلاف في إطار الهيمنة، والاعتراضات على منطق الليبرالية الجديدة أكثر من أن تحصى.
ولمواجهتها لا مفر من التسلح بروح اليسارية، التي هي ضد المؤسسة . فدور اليسار إنما هو فكفكة الدكتاتوريات ومصارعة إمبراطورية العولمة الرأسمالية وإسقاطها. فاليسار هو أساسا مسألة إدراك وقضية منظار بهذا المعنى لا تكون من اليسار، حتّى تعتبر أنّ قضايا المنجرحين و المنقهرين و المناضلين الثوريين الصامدين أقرب إليك من حبل الوريد، والطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسك هي أن تناضل لإنقاذ الآخرين. فاليسار ليس جهة نركن إليها . إنّه منظور و حركة و صيرورة. وهنا تصبح اليساريّة شبحا مخيفا يفضح خوفهم، في زمن عولمة الكون، و ما يتخفى وراء العقلانيّة و النزوعات الاستعماريّة و التوسعيّة و العدوانيّة، على ثقافات متعددة.



#عُمَر_بن_بوجليدة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع عبدالوهاب بوحديبة / في تعريب الفلسفة


المزيد.....




- -حلم بعد كابوس-.. أمريكية من أصل سوري تروي لـCNN شعور عودتها ...
- بوتين يتوعد العدو بالندم والدمار!
- لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الك ...
- كاتس من جنوب لبنان: باقون هنا للدفاع عن الجليل ولقد قلعنا أس ...
- بين حماية الدروز وتطبيع العلاقات.. ماذا يخفي لقاء جنبلاط بال ...
- الشرع يطمئن أقليات سوريا ويبحث مع جنبلاط تعزيز الحوار
- الشرع: تركيا وقفت مع الشعب السوري وسنبني علاقات استراتيجية م ...
- أمير الكويت ورئيس الوزراء الهندي يبحثان آخر المستجدات الإقلي ...
- قديروف يتنشر لقطات لتدمير معدات الجيش الأوكراني في خاركوف
- لوكاشينكو يدعو الشيخ محمد بن زايد لزيارة بيلاروس


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عُمَر بن بوجليدة - في تجربة الشر وأخلاق المقاومة أو غسان العاشق الثائر