|
حاضر الثقافة في مصر
فتحي سيد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 1617 - 2006 / 7 / 20 - 11:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فى عام 1991 نشر باحث متفرد فى موقفه من التراث ، وفى دقة بحثه ، مجموعة من الصفحات على نفـقـته الخاصة ، لم تتجاوز المائة صفحة مضروبة على الآلة الكاتبة ومصورة فى طبعة وان كانت فـقـيرة فى الشكل ولا تتعدى بضع مئات من النسخ ، ولكنها كانت بالغة الغنى والجدة فى المحتوى ، حيث أنها عبارة عن دفـقـة شعورية تخرج عن سياق الخطاب المتعارف عليه ، تحمل أراء جريئة ومحددة ، وتكشف عن المسكوت عنه فى التاريخ المتواتر والمكتوب على صفحات مصقولة . لقد قدم " بيومى قنديل " دفاع علمى عن الهوية المصرية المسلوبة، والتى تواجه خطرين رئيسيين ، خطر الذوبان فى الخارج ، وخطر التفتت فى الداخل ، وذلك من خلال بحث يختلف تماما فى أسلوب العرض ، يتميز بصرامة المنهج ، ودقة المعلومات الموثقة من مصادر رصينة ومتعددة . ورغم كل ذلك فقد صادف هذا النص الذى كان بمثابة وثيقة دامغة فى موضوعه ، الصمت والنكران من الكتبة الرسميين ودعاة التحرر والتنوير ، لم يعرضه أو يتعرض له أحد بالنقـد أو حتى المعارضة ، ربما خوفا من نشر محتواه أو تهميشا لمضمونه أو لقوة منطقه فى الدفاع عن قضيته، وفى عام1999 أعيد طبع هذه الوثيقة فى كتاب صدرعن دار الوفاء بالإسكندرية تحت نفس العنوان " حاضر الثقافة فى مصر " . والكتاب يتضمن من وجهة نظرى موضوعين على جانب كبير من الأهمية. الموضوع الأول عن الصراع بين بناة الحضارة الزراعية وبين البدو والرعاة ودور الغزاة فى سلب الهوية المصرية ، أما الموضوع الثانى فهو عن اللغة المصرية التى نتحدث بها فى العصر الحديث ـ يسميها البعض خاصة المتعلمين بـ " العامية " ـ فى علاقاتها مع الأبجدية المصرية القديمة فى صورها المتعددة . فى مفتتح الصفحات يفصح عن موضوعه الأول بشكل محدد : " مالت شمس العصور القديمة إلى الغروب ، بعيد انتصاف الألف الأول لميلاد المسيح على مشهد صامت مروع ، ينهزم فيه الزارع أمام الراعى " وفى سبيل شرح هذه العبارة يسرد ما حدث فى التاريخ ، حيث نهضت فى الشرق الأوسط القديم حضارتان رئيسيتان هما البابلية فى مابين النهرين والمصرية فى وادى النيل ، أى انتقل سكان هاتين البقعتين اللتين ترويهما مياه الأنهار من حقبة البربرية إلى حقبة الحضارة الزراعية ، ولم يكن ذلك التطور إلا تتويجا لحقب طويلة من الجهود المبذولة لفهم واستئناس الطبيعة . لكن هذا التطور ترك عدة قبائل وشعوب فى طور أدنى، حيث استمرت فى الترحال وراء قطعانها، وظل اعتمادها على الرعى كوسيلة لكسب العيش، وهذه وسيلة لا تدر سوى عائد هزيل وغير منتظم، وكان طبيعيا أن ينشأ صراع طويل المدى عميق التعاريج بين الزراع والرعاة، وبتحديد أكثر دقة بين المتحضرين والأدنى حضارة، ولقد أخذ هذا الصراع أحيانا شكل التسلل، وأحيانا شكل الهجرة والترحال، لكنه ارتدى أحيانا ثالثة شكل الغزو والاحتلال. وفى خضم ذلك الصراع الذى اختلط فيه التاريخ بالأسطورة، والحقيقة بالخيال، ظهرت شخصية " إبراهيم " الذى يعتبرونه فى الثقافة السائدة أبو الأنبياء الساميين ، عبرانيين كانوا أم عرب ، وهو بالرغم من أنه كان صاحب قطعان من الغنم ، إلا أنه يعتبر زعيم سياسى ومنظر أدرك عن وعى وبصيرة أن هذين المجتمعين فى العراق ومصر لن ينكسروا من الخارج تحت ضغط التسلل أو الهجرة أو حتى الغزو ، وأن انكسار هما لن يتأتى إلا من الداخل ، أى عن طريق السيطرة على روح أبناؤها ، وبتحديد أكثر على عـقـولهم ووجدانهم ، وذلك بتحويلهم عن عبادة آلهتهم القومية ، ودعوتهما إلى عبادة إلاهه هو ، وتكفير من يخالف ذلك ، وبالتالى أنزل على ديانات هذان المجتمعان وسم " الوثنية " وهو حكم قيمى لا يزال حتى اليوم يتردد فى كتابات المتعلمين . هذا وقد وضع إبراهيم أسس الديانة الإبراهيمية التى إنشعبت فى أوقات لاحقة إلى ثلاث شعب، الموسوية نسبة إلى موسى ، والمسيحية نسبة إلى المسيح ، والمحمدية نسبة إلى محمد ، ديانات لها كتب مقدسة من العهد القديم إلى العهد الجديد والعهد الأخير ، يذكر فيها الزعماء والآباء والحكماء بل والملوك العبرانيين ، كأنبياء مقدسون معصومين يتلقون الوحى من رب السماء ، بينما يقف المصريين جميعا ، فراعنة وحكماء وأهالى ككفار يعبدون الأصنام . وإذا كانت مصر قـد تعرضت فى تاريخها الطويل إلى عديد من الغزوات بل والاحتلال، وكانت تدفع الجزية للأجانب بشكل منتظم منذ منيت بالهزيمة أمام جحافل الفرس عام 525 ق.م ، لكن الفرس لم يأتوا إلى مصر بديانة جديدة ، ولم يرموا الديانات المصرية القديمة بالوثنية ، كما لم يحاولوا فرض لغة وثقافة أجنبية على أهل البلاد ، لكن التحول الخطير بدأ مع وصول الإغريق من جنوب أوروبا ثم العرب من غرب أسيا ، ويرى بيومى قنديل أن أخطر محاولتين أثرتا على الحضارة المصرية ، هما الإغريق والعرب اللذان ينفردان معا بأنهما حاولا استبدال اللغة المصرية ، حيث كان كلاهما مسلحا بكتاب مقدس ودعوة إلى دين جديد . ورغم أن الإغريق والعرب كانوا فى مستوى أدنى حضاريا من المصريين لدى تسللهم ثم غزوهم ، إلا أنهما نجحا فى هاتين المحاولتين ، ويستند بيومى فى مقولة الدونية بالنسبة لهؤلاء الغزاة إلى حقيقتين : الحقيقة الأولى: عدم النضج القومى حيث أن الإغريق والعرب لدى وصولهم مصرعامى332 ق.م ، و 641 م كغزاة لم يكونوا قد تحولوا كل على حدة إلى شعب ، بمعنى جماعة قومية موحدة ، أى لم يكونوا قد غادروا بصفة نهائية ضيق الانتماءات القبلية إلى رحابة الانتماء القومى التى تعد تعبيرا عن النضج القومى ، وبعبارة أخرى لم يكونوا قد ارتقوا إلى مستوى إعلاء شأن محل الإقامة ـ أى رابطة الأرض ـ بشكل حاسم ، على رابطة الدم ـ أى رابطة القبيلة ـ . الحقيقة الثانية : وضع المرأة ، وذلك لأن الشواهد على أن المرأة كانت تتمتع فى مصر بمكانة اجتماعية وقدر من الاستقلال لم تعترف به الشرائع للمرأة عند الإغريق أو العرب ، ، فالإغريق لم يعطوا للنساء حق التمثيل السياسى كالرجال الأحرار ، بل ساووهم بالعبيد ، ولم يكن للمرأة ملكية خاصة بها ، أو استقلالية فى تصرفاتها أما المرأة عند العرب فالأمر كان وما يزال شديد السطوع ، ويكفى أن نعيد إلى الأذهان أن النسق القبلى العشائرى لدى هؤلاء الأقوام كان ينظر للمرأة باعتبارها كيان تابع للرجل وضمن أملاكه ، وما تزال عند العرب تخضع لمشيئة الرجل ، ويتم التعامل معها فى الميراث والحقوق الشرعية باعتبارها كيان ناقـص لا تماثل الرجل ، بينما كانت المرأة فى مصر الفرعونية لا تتزوج إلا بموافقتها ، ولا تستمر فى الزواج إلا برضاها ، وكان يتم التعامل معها باعتبارها كيان يتمتع بكافة الحقوق مثلها مثل الرجال ، وقد وصل الأمر إلى أن تقلدت المرأة فى مصر القديمة الحكم وكانت حاكمة لبعض الأقاليم ، بل وأصبحت ملكة تحكم البلاد كلها . كان أخطر ما فعله الإغريق والعرب هو فرض لغتهم من خلال الأديان الإبراهيمية، فقد انتشرت المسيحية فى مصر عن طريق اللغة اليونانية، مما أدى إلى استبدال اللغة المصرية المحلية ـ الديموطيقية ـ باليونانية ، وكان طبيعيا أن تقـف الديانة الجديدة ضد الديانات المصرية القومية بدعوى أنها ديانات وثنية ، ولا تزال المعابد التى حولها المسيحيون الورعون إلى كنائس شاهدا يوازى الشاهد الأخر على تحويل الكنائس إلى جوامع على أيدى العرب المسلمين ، كما أن اللغة العربية قد حلت محل اللغة القبطية ، مما دعى كثيرا من الدارسين الى التساؤل عن هذه الظاهرة ، وهى تخلى شعب عريق فى المدنية والحضارة كالشعب المصرى عن لغته ، واتخاذه لغات شعوب لا توازيه فى الحضارة . وعند هذا الحد يطرح بيومى قنديل سؤلا شديد الأهمية : أكان للزراعة أن تنهزم أمام الراعى أو هل كان للحضارة أن تندحر أمام البدواة ؟ وفى سبيل الإجابة عن هذا السؤال الهام يعرض مجموعة من الأسباب تتعلق بتطورات الحالة الدينية والأمور الثقافية دون أن يتعرض للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والتى نرى أنها الأقدر على الإجابة الحقيقة عن هذا السؤال ، وهذا ما سنوضحه فى التعليق على ما ساقه من أراء تتمثل فى النقاط الآتية : • عن تطورات الحالة الدينية يقول بيومى قنديل : عقب الانقلاب الذى قام به الملك الشهير " إخناتون " أخذت الديانة الأمونية ترث الأتونية ، وبمعنى آخر أخذ " آمون " بعد اكتسابه بعض صفات " آتون " يستبعد سائر الآلهة الأخرى عبر عملية غاية فى الخصوصية ، إذ بدا يترأسهم فى المجمع الإلهى " التاسوع " ثم فى الثالوث ، ويدمجهم فى ذاته ويحولهم إلى أبناء وبنات وزوجات له ، وأحيانا إلى صفات وأسماء له ، وفى جملة واحدة . كاد " آمون " أن يغدو الإله الواحد الأحد، رب المصريين بل رب العالمين على نحو ما دعا " إخناتون " لإلهه " آتون " وأخذ كهنة آمون يحقـقـون لأنفسهم الإنفراد فى الساحة الدينية وفى الساحة الدنيوية ، وواصلوا زحفهم نحو هدفهم فى السيطرة حتى ارتقى عرش مصر الكاهن الأعلى لـ " آمون " وهو " حريحور " حوالى سنة1100 ق.م . ومنذ ذلك الحين بدأ أن المصريين أو المتعلمين منهم تحديدا عاجزين عن التطور . والذين يعجزون عن التطور لا ينهزمون فحسب بل يسلمون أقدامهم دون وعى وبصيرة لبداية الطريق الذى ينتهى بهم إلى الاندثار. • يحار علماء المصريات طويلا أمام حقيقة أن المصريين القدماء توصلوا إلى نحو 24 علامة هجائية ، تشير كل علامة منها إلى صوت منفرد متميز ، كانت تكفل لهم أن يكتبوا لغتهم بصورة أبجدية خالصة ، وأعاروها لليونانيين عبر الفينيقيين ، كما أعاروها للعبرانيين وأشقاهم العرب ، وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط . وظل المصريون يحافظون على كتابة لغتهم لما يزيد على أربعة آلاف سنة بالخط الهيروغليفى الذى احتاج إلى جهد شاق ووقت مديد لتخريج ناسخيه ، حيث بلغت علاماته نحو 700 علامة مختلفة ، وهذه كتابة غير منطقية تماما من الناحية العلمية على حد تعبير " مارينا سكريابين " رئيس قسم الأبحاث بالمركز القومى للبحوث العالمية فى فرنسا ، وبذلك يكون المتعلمون المصريون القدماء قد كشفوا ومنذ ذلك الوقـت المبكر عن آفة مرزولة ـ أخذت تلازم المتعلمين فى كل زمان ومكان على ما يبدو ـ أن يقعوا أسرى ما تعلموه ، ويرفضون بإصرار كل ما يخالفه ، ويتأسس على هذا ، وكنتيجة حتمية ، فأن المتعلمين المصريين كانوا قد دخلوا مرحلة الشيخوخة أى ما أسموه بالقـداسة وإجلال التقاليد العريقة ، وهو لا يزيد عن فرض الثبات على العالم المتغير ، كان منطقيا أن يسقط من أيديهم مشعل أعظم حضارة عرفها العالم القديم . • اهتدى المصريون القدماء إلى التوقيت الذى يعد أقدم توقيت شمسى والأدق نجمى عرفه الإنسان ، إذ حسبوا ما بين كل ظهور صادق وظهور صادق آخر لنجم الشعري اليمانية ـ الذى اعتبروه أنثى وأطلقوا عليه إسم " سيدت ":أى جالبة الفيضان ـ فوجدوه 365 يوما ، وقسموه إلى ‘ثنى عشر شهرا قمريا وكسور لا تصل إلى نصف شهر فأكملوا عدة كل شهر ثلاثين يوما ، وبقيت خمسة أيام أسموها الشهر الصغير ، وكان ذلك منذ سنة 2773 ق.م فى أرجح الأراء ، وإن كان " برستيد " يرجع ذلك إلى سنة 4241 ق.م ، ويقف هذا التوقيت وراء التواقيت الشمسية الأخرى التى ظهرت فى العالم القديم ، وبعد بعض التعديلات الطفيفة انتشرت وأصبح أكثر من ثلثى البشر يسيرون وفقا لها وإن حملت إسما غير مصريا . وغنى عن الذكر أن هذا التوقيت لا يزال حيا فى عقل ووجدان الأميين المصريين ، فى الوقت الذى يجهله المتعلمون المصريون ، وبعبارة أدق من يفرض عليهم التعليم المصرى السائد أن يجهلوه ، وأن يجهلوا ارتباطاته خلال حصار الصمت المحكم حوله ، وحول الثقافة المصرية القومية بصفة عامة ، وقد لا أبالغ إذا قلت أن المصريين الذين يستطيعون تذكر الشهور القبطية الإثنى عشر أى الشهور المصرية الحقيقية ، يتناقصون كلما أوغلوا فى مدا رج التعليم ، دع عنك أن يتذكروا الأمثال والحكم والأقوال المأثورة التى يربط الأميون بينها وبين شهورهم . وهكذا يخلص بيومى إلى نتيجة نهائية : لقد كان الأميون المصريون دون متعلميهم هم الذين واصلوا احتضان الحضارة المصرية فى أعماق وجدانهم ، بعد سقوط مشاعلها ، وذلك فى وجه الثقافات الأجنبية المتخلفة للغزاة الفاتحين أو الوافدين المستوطنين الذين قدموا من جنوب أوروبا أو غرب أسيا . فلقـد قدم الأميون المصريون الشهداء تلوا الشهداء فى المقاومة ضد هؤلاء الغزاة ، وهم الذين طالبوا قادتهم الروحيين بأن يترجموا لهم الكتاب المقدس إلى لغتهم التى يفهمونها أى القبطية ، فانقذوا بذلك مرحلة من مراحل تطور اللغة المصرية القديمة ، كما يؤكد أن دور الأميين فى ثورة برمهات / مارس 1919 أحدث شرخا فى بنية الثقافة المصرية السائدة خلال العصر الحديث ، حيث أعاد الاتصال بين المصريين المحدثين والمصريين القدماء ، وترك للمتعلمين الذوبان فى ثقافة مضطهديهم من الغزاة والمحتلين ، مما جعل النحات العظيم محمود مختار يلتقط الأزميل الذى سقط من أيدى جدوده ، وأن يلتفت الموسيقار العظيم سيد درويش إلى الألحان الكنسية الشعبية التى تخمرت فى ترانيم المعابد ، وأن يغنى لأول مرة فى تاريخ الغناء الحديث للشمس " طلعت يا محلا نورها . شمس الشموسة " بدلا عن القمر الذى يتربع على قمة التشبيهات والاستعارات كرمز للجمال والأنثوى منه على وجه الخصوص ، وليس غريبا أن يبرز طه حسين ، قمة ما أبدعه العقل المصرى ذلك الشرخ ، ويفرق بين ثقافة الأميين ذات الطابع القومى ، وبين ثقافة متعلميهم التى تعبر عن ذوبانهم وتمجيدهم لثقافة الغزاة الأجانب ، فضلا عن تشرب طه حسين لروح الصلابة والشموخ التى يسخر منها فى نكاتهم المبتذلة المتعلمون المصريون من أبناء الحضر الذين يضمون فى صفوفهم الأولى سقط الغزاة الأجانب ، أولئك الذين لا يزالوا ينعون على المصريين أنهم فلاحون مرة وصعايدة مرات . ولقد لاحظ بحق وصدق فرج فودة ، شهيد الكلمة هذه الملاحظة الذكية : " يجب أن نعترف بأن فى مصرقدر من التعصب الدينى ، وأن هذا القدر له من الخصائص ما يتناقض مع المنطق ، فهو يزداد مع المستوى العلمى فيتواجد فى بعض الأقسام العلمية فى الجامعات بشكل أوضح ، ويقل كثيرا فى القرى أو المدن الصغيرة " وغنى عن الذكر أن التعصب نوع من الانحطاط العقلى والخلقى ، بمعنى أنه لا يغدوا كونه تكلسا للعقل الحر وضمورا للضمير الحى ، وهو بذلك ألصق بالبداوة منه بالحضارة . وهذه الأسباب لا تخرج عن كونها دفاع حماسى عن إنجازات الحضارة المصرية واستمرار تراثها بين الطبقات الشعبية ، بينما الطبقات الوسطى والعليا أخذت تتغير وفقا لتغير مصالحها ومن خلال ارتباطها بمواقف الحكام الأجانب طوال فترات الغزو والاحتلال ، وقد ركز بيومى قنديل أسباب سقوط الحضارة الزراعية على عوامل البناء الثقافى التى تعود إلى تطور الحالة الدينية أو تغير اللغة ، ولم يهتم بالتحليل الاجتماعى والأسباب الاقتصادية التى يرى عديد من المفكرين أنها تشكل العوامل الأساسية للتطورات والتغيرات فى التاريخ الانسانى . فيرى سعد زهران : أن ظهور القوميات الأولى فى موطن نشؤ وازدهار الحضارات الزراعية فى وادى الأنهار الكبيرة ، حيث كان الاعتماد أساسا على الرى النهرى ، فى وادى النيل ، وما بين النهرين ، ووديان الأنهار فى الهند والصين ، وساعدت ضرورة تنظيم الرى النهرى على سرعة التوحيد الاقتصادى ، وإنضاج جهاز الدولة المركزية ، وعلى أطراف هذه الحضارات ، ظهرت مجتمعات زراعية مطرية ظلت فنون الزراعة فيها متخلفة ، وكان الرعى يشغل مكانا هاما فى اقتصادياتها ، فى مثل هذه المجتمعات لم تتهيأ الشروط الموضوعية للتوحيد القومى إلا فى عصور متأخرة ، وحين أخذت التجارة البعيدة بين المراكز الأولى للحضارات الزراعية تحتل مكانا هاما فى اقتصاديات هذه الأطراف . وقامت التجارة البعيدة بنقل جزء من الفائض الاقتصادى من المجتمعات الزراعية النهرية الغنية إلى ثروات التجار المتمركزين فى المدن ، وتمكن هؤلاء من تقوية نفوذهم المحلى والصعود إلى مواقع السلطة ، ولما كانت التجارة مرتبطة دائما بتقوية وسائل الحماية المسلحة للقوافل ، فقد حدث اندماج طبقى ضم مهن التجارة والحرب ، وتشكلت طبقة اجتماعية يمكن تسميتها " مركب التجار المحاربين " وتلك هى الطبقة التى أنجزت التوحيد القومى فى تلك المجتمعات الطرفية ، وأشهر عمليات التوحيد القومى فى تاريخ الشرق الأوسط هى : • التوحيد القومى الإغريقى ، التى قادها فيليب المقدونى ، ودعمها أبنه الاسكندر ، وأفضت إلى قيام إمبراطورية الاسكندر الأكبر فى القرن الرابع قبل الميلاد . • التوحيد القومى الرومانى ، التى قادتها أرستقراطية التجار المحاربين الرومانيين قبيل التقويم الميلادى ، وأفضت إلى قيام الإمبراطورية الرومانية . • التوحيد القومى العربى ، التى نضجت بظهور الإسلام ، وأفضت إلى قيام الدولة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى . وبهذا ترى أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية هى التى لعبت الدور الأساسى فى تغلب الشعوب المتخلفة على الحضارات الزراعية ، بفضل انتقالها إلى النشاط التجارى وقدرتها على تكوين فائض اقتصادى اتاح لها التفوق خلال هذه الفترة من التاريخ ، ورغم أننا لا ننفى دور العوامل الثقافية إلا أنها تظل عوامل ثانوية فى حدوث التطورات وتغير موازين القوى . وقد أكد بيومى قنديل نفسه ذلك فى استعراضه لأسباب مجىء العرب إلى مصر ، واتفاقهم فى الغرض الذى جاء من أجله كل الغزاة والمحتلين ، فهل نهض أهل المدينة المنورة أو يثرب إلى فتح الطائف ، وسائر البلدان بما فيها مصر ، كى ينشروا الإسلام وحسب أو حتى بصفة رئيسية ، أم من أجل الجزية والفيء والخراج ، والأهم من ذلك فتح وتأمين طرق التجارة بين الشرق والغرب ، أى بين بلاد الهند وبلاد الإفرنج .
هذا عن الموضوع الأول والخاص بالصراع بين بناة الحضارة الزراعية وبين البدو والرعاة ، أما الموضوع الثانى والخاص باللغة المصرية ، فمما لا شك فيه أن بيومى قنديل قد بذل جهدا علميا غير مسبوق ، وفتح أرضا بكرا فى مجالات تاريخ اللغة واللغويات الو صفية ، وكمدخل لتوضيح رؤيته يشير إلى انقسام المتعلمون المصريون اذاء قضية اللغة المصرية إلى قسمين كبيرين . • الأثريون : الذين ينظرون إلى اللغة المصرية باعتبارها لغة قديمة وميتة ، وأخذوا يدرسونها سيرا على نهج المستشرقين مشطورة إلى خطوط مابين هيروغليفية وهيراطيقية وديموطيقية وقبطية ، أو من خلال الحقب التاريخية التى مرت بها . • اللغويون : الذين يقفون عند حدود اللغة العربية المشهورة بالفصحى ، ويعتقدون اعتقادا أرسخ من الجبال ، أن " اللغة المصرية الحديثة " التى يطلقون عليها " العامية " ليست سوى لهجة من لهجات تلك اللـغـة السامية الوافدة من غرب آسيا . وهو من أجل وضع قضية اللغة على بساط البحث التاريخى ، يطرح فرضياته العلمية على شكل مجموعة من الأسئلة • ما هو السر فى أننا نقول بالمصرية الحديثة على سبيل المثل وليس الحصر : ( أقعد ـ همسة ، جبنة ـ حلوم ، بنها ـ العسل ) أتكون اللغتان المصرية ذات الأصل الحامى ، والعربية ذات الأصل السامى ، قد بلغتا فى وقت ما مرحلة من التوازن المرهف على المستوى الدلالى ، حتى أصبح المصرى يقول الكلمة بلغة ومرادفها بلغة أخرى ؟ فأقعد بالعربية تعنى كفعل أمر بالقبطية " همسا " وجبنة بالعربية تعنى " حلوم " بالقبطية ، وهكذا . وكان المتكلم خشية أن يكون المخاطب يجهل أحد اللغتين ينطق الكلمة باللغة العربية وأيضا بالقبطية ليفهم هؤلاء وأولئك. • ما هو السر فى أننا ننفى الإثبات فى اللغة المصرية على منوال اللغة الـقـبطية ، وليس على منوال العربية ( مـا ـ أعرف ـ هو ـ ش ) بينما تجرى بنية النفى فى اللغة العربية على نحو آخر ( لا ـ أعرف ـ هـ ) . • ما هو السر فى أن اللغة المصرية الحديثة تثبت العدد ولا تغيره بتغير المعدود إذ نقول ( تلات بنات ، تلات صبيان ) بينما نجد العربية تقول ( ثلاث بنات ، ثلاثة صبيان ) وفـقا لقاعدة التوافق العكسى التى تميز اللغات السامية . أيكون الأب اليسوعى الألمانى " أثانا سيوس كيرشر" هو أول من قال فى أوائل القرن السابع الميلادى بأن اللغة القبطية هى نفس اللغة المصرية القديمة مكتوبة بحروف يونانية ، ويكون " بيومى قنديل " هو أول من يفترض أن اللغة المصرية الحديثة هى مرحلة من مراحل اللغة المصرية القديمة ، وهذا هو السر الذى يجعله يطلق عليها أسم " اللغة المصرية الحديثة " دون سائر التسميات السائدة . وفى نطاق اللغويات الو صفية يحاول بيومى أولا : التفرقة بين اللغة واللهجة ، وثانيا : توضيح الفارق بين اللغة العربية واللغة المصرية الحديثة ومن ثم الإجابة عن سؤال هام هو : هل " اللغة المصرية الحديثة " لها قواعد مثلها فى ذلك مثل باقى اللغات ؟ . فى البداية يشير إلى تعريفات " كارول ريد " لما هى اللغة ؟ وما هى اللهجة ؟ حيث تقول " اللغة عبارة عن نسق من الرموز الصوتية ، يستطيع البشر عن طريقها أن يتفاعلوا بعضهم مع البعض الآخر " وإذا كانت اللغات المختلفة غير قابلة للتفاهم المشترك بينها ، فأن اللهجات لنفس اللغة الواحدة قابلة للتفاهم المتبادل ، وهذا وان كان قول علمى ، ولكنه لا يضع فارق حاسم بين اللغة واللهجة ، فالتداخل بين حدود اللغة واللهجة شديد ، فبالرغم من أن اللغة مشتركة بين سائر البشر ، إلا أنها أيضا متفردة كالبصمة لدرجة أننا نعرف أصدقائنا على خط التليفون من مجرد سماع صوتهم ، ويتفق اللغويون على أن دوائر التفاهم المتبادل تتقارب أو تتباعد بدءا من اللهجة بسبب الاختلافات العرقية أو المهنية أو الجغرافية ، وليس هناك سوى سمة " التغيير" التى تعتبر القانون الطبيعى للكون الذى نعيش فيه الذى يضع فارقا بين اللغة واللهجة ، فكل اللغات تبدأ كلهجات تعبيرا عن قانون التغيير ، فالإنجليزية والألمانية والهولندية بدأت كلهجات مشنقة من أصل واحد هو الجرمانية القديمة ، ونفس الأمر يصدق أيضا على الإيطالية والفرنسية والأسبانية وأصلها المشترك هو اللاتينية ، وقد ارتقت كل هذه اللهجات من خلال قدرتها على التبسيط ويسر الاستخدام ، لذلك فأن اللهجات ليست سوى مرحلة أرقى من لغاتها الأم . وفيما يتعلق بالفارق بين اللغة العربية / الفـصحى ، وما يتكلمه المصريون ، فليس الأمر مجرد لغة وما يتفرع عنها من لهجات ، بل الأمر أكثر من ذلك فالأصل بينهما مختلف ، ولكل منهما قواعد أيضا مختلفة ، وهذا ما سيوضحه بيومى من خلال مجالات علم اللغة وهى : النحويات Syntax أى العلم الذى يدرس أكبر وحدة لغوية لها معنى ، وهى الجملة ، وكيفية بنائها كميا . الصرفـيات Morphology العلم الذى يدرس ، الكلمة ، وكيفية بنائها مورفيميا . الصوتيات phonogy العلم الذى يدرس الوحدات الصوتية فى علاقاتها مع الوحدات المورفيمية ، والمورفيم هو أصغر وحدة لغوية لها معنى أو وظيفة . النحويات : تنتمى اللغة العربية مثلها فى ذلك مثل اللاتينية إلى اللغات " التركيبية " أى التى لا يتغير معنى الجملة فيها بتغير ترتيب الكلمات بها ( تحب البنتُ الوردةَ ـ الوردةَ تحب البنتُ ) المعنى لم يتغير بتغير موضع الكلمات فى الجملة ، بينما نرى فيا يسميه اللغويون اللغات " التحليلية " الأمر على غير ذلك ، حيث نجد فى : اللغة الفرنسية ( La fille aime la rose ـ La rose aime la fille ) وفى اللغة الإنجليزية ( The girl likes the rose ـ The rose likes the girl ) وفى المصرية الحديثة ( البنت بتحب الوردة ـ الوردة بتحب البنت ) كانت " البنت " فاعل فى الجمل ألأولى ، وأصبحت " الوردة " هى الفاعل فى الجمل الثانية ، ويشير بيومى إلى ملاحظة هامة فى هذا الصدد ، هى أن اللغات التركيبية تميل عبر التطور التاريخى ومن خلال الاستعمال الطويل أن تصبح تحليلية . الصرفيات : هناك ميل فطرى لدى النوع البشرى نحو إسباغ النظام على الفوضى ، والتحول من التعقيد إلى البساطة ، هذا ما نجده فى اللغات الراقية مثل الإنجليزية والفرنسية ، وهو أيضا ما نجده فى المصرية الحديثة مقارنة مع اللغة العربية / الفصحى ، وهذا ما توضحه الأمثلة الآتية : لغة عربية مصرية حديبثة لغة عربية مصرية حديثة لغة عربية مصرية حديثة صيغة مثال صيغة مثال صيغة مثال صيغة مثال صيغة مثال صيغة مثال فعل بطر فعلان بطران فاعل حائر فعلان حيران مفعول مكروب فعلان كربان أفعل أجرب " جربان فعول كسول " كسلان فعيل ملىْ " مليان ما الذى حدث ؟ الفوضى فى اللغة العربية تنتظم فى اللغة المصرية الحديثة من خلال صيغة " فعلان" التى تواصل تقدمها حيث استحدثت أمثلة أخرى مثل ( حزنان ـ بردان ـ دفـيان ـ زوران … الخ ) . كما أن النوع البشرى فى سبيلة إلى الرقى بما يتوافق مع الطبيعة التى تسلك أسهل وأبسط الطرق فى الوصول إلى الهدف ، فأنه ينحو نحو الاقتصاد فى بذل الطاقة ، هذا ما توضحه الأمثلة الآتية : لغة عربية مصرية حديثة لغة عربية مصرية حديثة لغة عربية مصرية حديثة فعل كوب فعالة كباية فعلة حبة فعالة حباية مفعال مبراة فعالة براية فعلة حدأة " حداية فاعلة طائرة " طيارة وهكذا نرى أن صيغة " فعالة " إضافة إلى توحيدها للأمثلة ، فأنها تعتبر صيغة أسهل وأبسط من الصيغ العربية المتعددة وكثيرة التغير . وينتقل بيومى إلى مجال آخر فى نطاق الصرفيات حققت فيه المصرية الحديثة ، ووراءها معظم اللهجات المشنقة من اللغة العربية كالشامية والنجدية والحجازية والخليجية والليبية ، قفزة هائلة وهو إسقاطها التصريف عن الاسم الموصول ، إذ بينما تحتفظ العربية بست صيغ مختلفة لهذا الاسم ( الذى ـ التى ـ اللذان / اللذين ـ اللتان / اللتين ـ الذين ـ اللواتى ) نجد المصرية الحديثة تستعيط عن ذلك كله بصيغة واحدة هى " اللى " وبذلك فأنها لخصت وبسطت الأمر ، ووفرت الطاقة المبذولة إلى أدنى حد ، هذا مستوى من الرقى والتطور لم تبلغه كثير من اللغات التى تسبغ عليها القداسة وتتسم بقدر كبير من الثبات . الصوتيات : يعد هذا المجال أوضح المجالات التى يتبدى فيها التغير فى الظاهرة اللغوية ، ويقول " رونالد لانجلر " فى كتابه اللغة وبنيتها " أن اللغات تتغير ولا تتدهور وإلا كنا هجرنا الكلام منذ زمن بعيد إلى القباع أى أصوات الخنازير " فاللغات كسائر ما فى الكون تتغير ، وأبرز مظاهر هذا التغير تتضح فى المجال الصوتى ، فسائر الشعوب التى تنطق إذاعاتها وتلفزيوناتها باللغة العربية تخلت عن حرف " القاف " مرة لصالح " الهمزة " ( قال ـ أل ) ومرة لصالح " الجاف " ( قويدر ـ جويدر ) ومرة ثالثة لصالح " الغين " خاصة عند السودانيين (قادر ـ غادر) كما أن حرف " الضاد " قد اختفى بعد أن تحول إلى " دال " رغم أن كثيرون يصفون اللغة العربية بأنها لغة الضاد وتتميز بها فضلا عن سائر اللغات ، والعرب خاصة فى العصور الوسطى تخلصوا من " الهمزة " لصالح " الواو " ( نأى ـ نوى ) أو لصالح " الياء " ( ذئب ـ ذيب ) أو حذفوها تماما ( سماء ـ سما ) . ووفقا لقانون التغير فأن المصريين قد تخلوا عن الحروف الثقيلة التى كانت تحتاج إلى جهد عضلى فى إنتاجها عبر الأجزاء العميقة من الجهاز الصوتى مثل الصائتين المدغمين أو ما يسمى Diphthong وتحويلهما كل على حده إلى صائت بسيط ( بينْ ـ بِِِِيِِن ، موْزـ موُز) . ولكن لماذا أختلف نطق ما يتصوره البعض بأن اللغة العربية فى مص كل هذا الاختلاف ؟ وبعبارة أخرى . لماذا سلكت هذه اللغة تلك الصيرورة كى تصل إلى ما أسميه باللغة المصرية الحديثة ؟ يذهب بيومى إلى بعض البديهيات لتوضيح هذا الاختلاف. • مصر بصفة أساسية أفريقية ، والحضارة المصرية القديمة حضارة سوداء . • المصريون حاميون بصفة أساسية. • المصريون لا يزالون ـ دون سائر شعوب المنطقة العربية ـ يسبغون على أى أمرآة يجلونها صفات " إيزيس " لذا كانت السيدة زينب عندهم ( أم العواجز ، الطاهرة ، رئيسة الديوان ، الست ) ويضفون على شقيقها الحسين صفات " أوزير" ( أمام الشهداء ) قد تتغير الأسماء ولكن الروح ظلت مصرية . • تطورت اللغة المصرية القديمة ذات الأصل الحامى ، وليست لها علاقة باللغة العربية ذات الأصل السامى . وإذا كان اللغويون يذهبون إلى أن الإنجليزية دخل عليها كم هائل من الكلمات اللاتينية، إلا أن ذلك لا ينفى كونها ذات أصل جرمانى قديم ، وهذا يؤكد أن اللغة بصفة أساسية بنية Structure وليست كلمات منفصلة أو تعبيرات متناثرة ، وإذا كانت المصرية الحديثة قد دخل عليها بعض الكلمات العربية فأن هذا لم يغير من كونها ذات أصل وقواعد مختلفة تماما عن هذه اللغة العربية ، فالقوميات تولد وتترعرع وفى خط موازى تولد معها وتترعرع لغتها الخاصة ، هكذا كانت اللغة المصرية نتاج الحضارة والقومية المصرية . وإذا كان للجماعات البشرية المنتشرة فيما بين الخليج والمحيط أن تتحد يوما وتكون قومية موحدة، فلسوف تنشىْ هذه القومية لغتها التى يرجح بيومى أن تكون أحدى اللهجات الراقية والأكثر انتشارا فى المنطقة، وليس هناك احتمال فى أن يعود العرب إلى التحدث باللغة العربية الكلاسيكية التى شارفت على الموت من فرط ثباتها مهما اندمجوا أو اتحدوا ، مثلما يتعذر أن تعود أوروبا إلى التحدث باللاتينية مهما اتحد الأوربيون ، الذين توصلوا إلى لغات راقية تعبر عن قومياتهم المختلفة . أما الخطر الذى يخشاه المدافعون عن الديانات الإبراهيمية، فالديانات تنشأ وتستمر فى الوجود لأسباب أخرى خلاف الارتباط بلغة مقدسة ، فالديانة الهندوسية لم تنقرض بانقراض السنسكريتية ، والمسيحية لم تتلاشى بزوال أو اضمحلال لغاتها المقدسة كالآرامية واليونانية واللاتينية ، والعقائد المصرية لم تندثر بانحسار اللغة المصرية القديمة . و يرى بيومى قنديل أن الهيروغليفية ، لا الفينيقية هى أم الأبجديات فى العالم ، وتأكيدا لذلك يورد أراء عديد من علماء اللغة والمصريات فبشير إلى " جى . جيلب " صاحب كتاب " دراسة فى الكتابة " الذى يقول : " أن الكتابة نسق للتواصل بين البشر عن طريق علامات مرئية تقليدية " ويتفق معه جمهرة الباحثين فى ذلك ، لكنهم يختلفون حول الأبجدية الأولى التى ظهرت فى العالم القديم ، وهل هى الأبجدية السامية " الفينيقية " أو أحد أشكالها المقطعية " السومرية " ولكن بعضهم اتفق على أن هذه وتلك إنما تضرب بأشكالها إلى الكتابة المصرية القديمة ، وبالتحديد الهيروغليفية ، وهو لفظ يونانى يفيد معنى " الكتابة الإلهية " . ويقول " جيمس هنرى برستيد " تؤكد الدلائل أن المصريين الذين عاشوا فى عصر ما قبل التاريخ كانوا أقدم مجتمع أستطاع أن يضمن لنفسه غذاء باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان ، على أن صهرهم للمعادن فيما بعد ، وقدرتهم على اختراع نظام كتابى ، قد وضع أيديهم على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة . كما يشير " جاردنر " : ظل التاريخ المدون فى حكم العدم حتى اكتشف المصريون قبل نهاية حقبة ما قبل الأسرات مبدأ الكتابة الصورية ، ويتفق معه اللغوى الإنجليزى " سيمون بوتر " الذى يقرر أن كافة الأبجديات فى العالم تنحدر عن أصل واحد مشترك ، هو الكتابة الصورية التى نشأت فى مصر . ويعتقد " ديفيد مادلين " أن الحدث الذى أخترق حدود المعرفة حقا ، يتمثل فى اكتشاف " شامبيليون " أن حروف حجر رشيد الهيروغليفية تحمل قيمة صوتية إلى جانب قيمتها الدلالية . وبعد كل ذلك يتساءل بيومى قنديل : هل تنطوى الكتابة الهيروغليفية على أبجدية ، أى علامات محددة تشير كل منها إلى صوت متفرد متميز ؟ ثم يستطرد قائلا ، واقع الأمر أن المصريين القدماء استمروا يكتبون بالهيروغليفية لحقبة تزيد عن أربعة آلاف من السنين ، وكان منطقيا ألا تظل تلك الحقب على ماهى عليه دون تغيير أو تطوير ، فإذا كانت هذه الكتابة قد بدأت من خلال نسق بدائى ( علامة = معنى ، أو صورة = معنى ) إلا أنها ارتقت إلى النسق المقطعى ، ثم إلى النسق الأبجدى أو الألفـبائى ، من خلال التوصل إلى حروفها الأربعة والعشرين التى تبدأ بحرف ( الألفا ، الذى = a ) المشتق من صورة الصقر المصرى ، والذى تبدأ به أبجديات الكتابة فى اللغات الحية العديدة فى أرجاء القارات الخمسة . بينما استقرت جمهرة اللغويين على أن الحجازيين اقتبسوا الحروف العربية من الحروف النبطية ، المشنقة بدورها من الحروف الآرامية ، التى ترتبط بصلة وثيقة بالحروف الفينيقية ، والتى ينتهى أصلها جميعا عند الأبجدية الهيروغليفية ، إذ عثر العالم الفرنسى " دوسو " على نقش مكتوب على قبر الملك أمرؤ القيس بحروف نبطية ، وهى نفس الحروف التى كتب بها المصحف العثمانى . ومنذ ذلك الحين أجريت على هذه الحروف بعض الإصلاحات، بدءا من إضافة علامات الإعراب لأبو الأسود الدؤلى ، وإصلاحها بعلامات أصغر على يد الخليل أحمد الفراهيدى ، لكن هذه الإصلاحات لم تصل بهذه الحروف إلى مستوى الوضوح والبساطة ، وفى أعقاب ثورة برمهات 1919 دبت روح التجديد فى مصر ، وعبرت شخصيات كبيرة كأحمد لطفى السيد وطه حسين وعلى الجارم ومحمد تيمور وعلى عبد الواحد وغيرهم كثيرون عن أن الحروف العربية ـ النبطية الأصل ـ وراء اللبس والتعقيد التى أجملها بيومى فى الآتى : • تعدد رسم الحرف الواحد وفقا لترتيب وقوعه فى الكلمة ( عـ ، ـعـ ، ـع ،ع ) . • الافتقار إلى صوائت مستقلة ، فالمعروف أن الصوائت الثلاثة ( أ ، و ، ى ) هى سواكن فى نفس الوقت . • اتساع الفجوة بين ما يكتب وما ينطق، وقد كتب طه حسين فى " مستقبل الثقافة فى مصر " يوضح ذلك " أريد أن تكون الكتابة تصويرا دقـيقا للنطق ، لا أن تصور بعضه وتلغى بعضه ، لا أن تصور نصف اللفظ وتلغى نصفه الآخر . أريد أن تكون للكتابة ما نسميه " السواكن " وما نسميه الحركات " الصوائت " تصويرا لا إهمال فيه من جهة ، وتصويرا قوامه اليسر والسهولة والسرعة والاقتصاد فى الوقت والجهد من جهة أخرى " ونستطيع أن نضرب مثالا باسم " طه " الذى ينطق " طاها " . • لكن أغرب ما فى الكتابة العربية وأشده إرباكا ، هو تأثر الكلمة المكتوبة بقواعد الصرف ، وهو الأمر الذى يؤدى بهذه الكتابة اللامنطقية، إلى كتابة الصوت الواحد بحرفين مختلفين ( دعا ـ هدى ) فالصوت الأخير فى الفعلين واحد ، ولكنه يكتب مرة بالألف ، ومرة أخرى بالياء ، وتوغل هذه الكتابة فى لا منطقيتها حين تخضع الكلمة المفردة فى الجملة للنحو ، مما يؤدى إلى تغير أخرها ( موازى ـ مواز ، خالى ـ خال ) . وإزاء هذه الأسباب وأسباب أخرى أقترح مجددون استبدال الحروف العربية ـ النبطية الأصل ـ بالحروف اللاتينية، ولكن هذه الدعوة: لماذا لم تنتبه إلى الحروف القبطية ؟! فالدعوة إلى الكتابة بالحروف القبطية، وبتحديد أدق اعتما د النسق القبطى فى وضع أبجدية جديدة، يمثل من وجهة نظر بيومى قنديل وصلنا بالعصر الذى نحيا فيه ، وفى نفس الوقت يربطنا بتاريخنا القديم ، حيث أن الحروف اللاتينية المشنقة من اليونانية والتى تشكلت حروفها الـ 25 من الـ 32 حرفا القبطية هى التى يكتب بها اغلب الشعوب المتقدمة ، كما يصلنا ذلك فى نفس الوقت بتاريخنا القديم الذى لا يزال ـ رغم كل ما حدث ـ حيا فى وجداننا . من أجل ذلك يقدم بيومى قنديل اقتراح يتضمن شقين .الأول : كتابة اللغة المصرية الحديثة اعتمادا على الحروف القبطية وخصوصا حروفها السبعة الديموطيقية كأساس لأبجدية جديدة . والشق الثانى : طريقة الكتابة من خلال الأسلوب الذى يكتب به ثلاثة من شعراء العامية المبدعين ( عبد الله النديم ، بيرم التونسى ، وأحمد فؤاد نجم ) نظرا لتوغلهم فى الإنصات للأميين المصريين باعتبارهم الأكثر اتصالا بالحضارة المصرية القديمة ، والانصهار بوجدانهم وروحهم فى تشرب لغتهم المصرية والتفكير بها ، وهى اللغة التى تعتبر استمرارا للغة المصرية القديمة . وأخذ يضرب العديد من الأمثلة من أشعار هؤلاء المبدعين ، مع بعض التعديلات البسيطة التى تتركز على فصل بعض الحروف عن بعضها ، ورغم أته لم يوضح لنا رسم الحروف القبطية الأساسية وكيفية الكتابة بها ، إلا أنه ابتغاء الصدق مع النفس وتحديد دوره كفرد ، اكتفى بفتح هذا المجال الخطير ، حيث أن مهمة بهذه الجسامة تحتاج الى فرق من العلماء والمتخصصين ، ويجب أن تتم داخل المعامل الصوتية و بالأساليب العلمية الحديثة ، كى تكون لغة أكثر وضوحا فى الذهن وأسرع فى الفهم ، يتطابق مكـتوبها مع النطق السليم للكلمات ، مع القضاء على كل العيوب التى نعانى منها فى استخدام اللغة العربية ألمسماه بالفصحى والتى لا نتمكن من إتقانها بعد سنوات طويلة من تعلمها حيث أنها ليست لغتنا الحقيقة ، أى لغة الأم لقوميتنا المصرية ، والأكثر أهمية من كل ذلك أن تكون لغة قابلة للتطور وفقا لمجريات الواقع ، ومتحللة من أى ارتباط يفرض عليها ضرورة الثبات أو أى شكل من التقديس .
#فتحي_سيد_فرج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسرح في مصر الفرعونية 2
-
المسرح في مصر الفرعونية 3
-
المسرح في مصر الفرعونية
-
المسرح في مصر الفرعونية 4
-
المسرح في مصر الفرعونية 5
-
المسرح في مصر الفرعونية 6
-
المسرح في مصر الفرعونية 7
-
المسرح في مصر الفرعونية 8
-
مؤتمر الاصلاح العربي
-
التخاذل في مواجهة العنف
-
التخاذل في مواجهة العنف 2
-
الدروس الخصوصية
-
قراءات ورؤى
-
البدائل المقترحة لتمويل التعليم
-
لغة واحدة ...ام لغات متعددة
-
لغة واحدة 00أم لغات متعددة
-
الاتجاهات الفكرية للإبداع فى مصر
-
بينالى الاسكندرية الثالث والعشرون لدول البحرالمتوسط
-
مرصد الإصلاح العربى
-
العلم والنظرة الى العالم
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|