أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني















المزيد.....


هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6752 - 2020 / 12 / 4 - 02:11
المحور: الادب والفن
    


الساعة الواحدة فجراً
سكنت الحركة عندما انتصف الليل في بغداد، وخلت الشوارع تماماً من المتبضّعين والتجّار. ونشط بعض رجال القاع الذين لايكون لهم نشاط عادة في أوقات النهار. وهجع النهاريّون منهم الى مآويهم السريّة متعبين.
لم يترك رجال ونساء القاع عالمهم تحكمه الفوضى كما يبدو لنا، بل حافظوا على درجة من التنظيم. وغاية التنظيم ليس التدخل بالشؤون الخاصة لكل شخص منهم بل التدخل في حالات الضرورة القصوى للحفاظ على الأرواح. حدث ذلك مثلا في الحرب عندما انتفت الحركة وهدد الجوع المئات منهم. وحدث ذلك في الأيام التي قررت السلطات فيها منع التجوّل. أما السنوات التي كان منع التجوّل مفروضا طيلة ساعات الليل فقد عانت المجموعة أقسى الظروف، ذلك لأنها كانت قد اعتادت ان تنشط ليلا. ولكنها استطاعت أن تتأقلم مع هذا الظرف الذي استمر سنوات عديدة، بل حوَّلته لصالحها عندما اكتشفت أن حركة أعضائها يمكن أن تكون أكثر أمناً في الأزقة الجانبية فقط مع تجنب الشوارع العامة.
لم يتسنَ لعماد وحسن بعد معرفة هيكلية الجماعة بشكل واضح، وذلك لمرور مدة قصيرة من الزمن لوجودهما في المجموعة. الا أنهما سمعا أن هناك من هو له الكلمة العليا فيها، يساعده رجال ونساء آخرون كل منهم مسئول عن جانب معين من حياة مجتمع القاع.
عرف عماد وحسن مثلا أن الرجل الشاحب الوجه النحيف الى درجة مخيفة والذي تظهر أوردته الزرقاء واضحة من خلال جلده شبه الشفاف والذي يجوب الشوارع صامتاً في ساعة متأخرة من الليل يتفقدها مرتدياً معطفاً رمادياً هو أهم شخص في مجتمع القاع رغم أنه لا يكلّم أحداً، ولا يسير معه ليلاً سوى مجموعة من الكلاب البيضاء الهادئة والمتشابهة والتي لا تصدر أصواتاً على غير عادة كلاب الشوارع. لم يستطع عماد وحسن أن يعرفا المكان الذي يأوي اليه ذلك الرجل الشفاف. ولم يعرفا سبب سيطرته. ولكنهما يعتقدان أنهما سيتمكنان من معرفة كل تلك التفاصيل لاحقاً.
كما عرف الشابان أيضا ان هناك أمرأة عمياء معمّرة تعيش في إحدى مقابر بغداد القديمة تتمتع بمكانة خاصة في مجتمع القاع هي الأخرى. ورغم أنهما لم يلتقياها، الا انهما سمعا عنها وعن قدرتها على الاحساس بالأحداث قبل حدوثها! يقال أن الرجل الشفاف يرجع اليها لمعرفة الطالع، وكذلك يفعل الآخرون.
كذلك عرف عماد وحسن أن جماعة القاع هؤلاء تؤمن إيماناً راسخاً أن مجتمع السطح تسوده الفوضى ويحكمه الجشع!
بالامكان القول أن عماد وحسن لازالا تحت الاختبار رغم مرور ثلاثة أعوام على انخراطهما في مجتمع القاع. ولهذا السبب يمكن القول انهما لازالا يحتفظان بقدم في عالم السطح وأخرى في عالم القاع، متذبذبين بينهما، وهو أمر طبيعي يعرفه الجميع، فأنت لا تستطيع الانتقال كلياً من عالم الى آخر بقفزة واحدة. فهما لم يتخلصا بعد تماماً من العادات السيئة التي لا توجد الا هناك في عالم السطح الموبوء!
يقول الناس في مجتمع السطح ان الجنون فنون، وهو من الأقوال الصحيحة القليلة التي يرددها أناس السطح. ذلك لأن لكل فرد من أفراد مجتمع القاع الخفيّ هذا شخصيته المتفردة، وله طريقته الخاصة في الجنون. وجنون الناس هنا مثل بصمة الأصبع لا تتكرر. ولعماد طريقته الخاصة في الجنون. فهو يعتقد أن الاحلام كائنات حيّة لها وجود!
يعتقد عماد أن الناس يحملون أحلامهم، مثل بيوض عصافير لم تفقس بعد، يحتضنونها في صدورهم دافئة، ويرعونها بعيونهم، فتنمو وتترعرع ثم تحلَّق في الفضاء، لكنها تظل مرتبطة بأصحابها دوماً. ولكنه لا يعلم في أي وقت تنشأ العلاقة بين الناس وأحلامهم .هو غير متأكد ما اذا كان الناس يأتون الى العالم بدن أحلام ثم يلتقون بأحلامهم التي تنتظرهم، أم أن أحلامهم تولد معهم.
ويعتقد عماد أن الاحلام للناس مثل الروح للجسد، فحالما يتخلى الناس عن أحلامهم أو حين تضطرهم الظروف لذلك، تغادرهم لتفرَّ الى الخلاء، فتهيم على وجهها، تطير مثل عصافير. فهي لا يمكنها أن تموت، ولا يمكنها أن تكون شيئا آخر، فعلّة وجود الاحلام أن تتحقق. يتحوّل الناس عند فراق أحلامهم الى علب فارغة، أجساد بلا أحلام. ويعتقد عماد أن الناس بلا أحلام مثل معادلات حسابية بلا معنى، أومثل كتابات بلغة مبهمة لا يقرؤها أحد. يصيرون وجوداً خاطئاً، فيمكن أن يكونوا خطرين ويمكن أن يكونوا مثيرين للشفقة.
يعتقد عماد أيضاً أن جواد سليم قد خبّأ في عيون متمرديه الذين تركهم طيلة عقود وهم يصرخون على سطح نصب الحرية أحلاماً كانت قد هامت في الفضاء تاركةً أصحابها المفجوعين، فجمعها هو وأسكنها عيون التماثيل. ولكنه أحيانا يعتقد أن الأحلام هي التي جاءت من تلقاء نفسها فزعةً عندما خيّم الخوف، فوجدت في شخوص فائق حسن، وفي أشجار الحدائق، وفي الأجمات المنسية على ضفاف دجلة مأوىً لها منتظرةً الفرصة المناسبة لتغادر عيون التماثيل والرسومات والأشجار وتستقر مرة أخرى في عيون الناس وقلوبهم. وقد جاء عماد الى هنا والتحق بمجتمع القاع عندما فقد حبيبته بسمة، جاء فقط ليسترجع حلمه المفقود! كما يعتقد.
حركة
عدد قليل من الناس يتحركون في الشارع في هذه اللحظات حيث تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. ثمة سيارات تنقل مواد مختلفة. بعض المتحركين في الشارع الرابط بين ساحة التحرير وساحة الطيران هم من سكنة محلة البتاويين، عمال وكسبة و موظفون يتجولون هم وأحلامهم !
البتاويين تلك المحلة التي تحاصرها الشوارع تبدّلت مرات عدة في العقود الأخيرة. تبدَّل ساكنوها، تبدّلت طبيعتها، تبدّلت وظائفها، ورغم أن الأبنية فيها تبدّلت هي الأخرى الا أن بيوتا كثيرة بقيت تقاوم الزمن. تحملت البتاويين أكثر من غيرها التغيرات التي حصلت للعاصمة، تحملت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، والأمنية. الانفجارات كانت تحدث على حافاتها، وفي وسطها. يبدو أن البتاويين لم تعد قلقة على ما يجري لها. فقد شهدت كلّ شيء، ولم تعد تخاف من أيِّ شيء. لذلك فقد حافظت على فطورها المتكوّن من قيمر وعسل وخبز تنور حار وشاي غير عابئة بما يحصل. الناس في محلة البتاويين متصالحون مع أفراد مجتمع القاع. فلم يحصل يوماً أن حدثت مشكلة بين المجتمعين. حتى أنهم يتقاسمون الفطور المبكر ذاته.
برد
يشعرالشابان في مثل هذه الساعة ببرد شديد. تتوغل الريح الباردة وتجوب الشوارع، وتبحث لها عن منفذ للدخول الى خيمة الشابين غير المحكمة الغلق حتى لو بذلا جهودا استثنائية لغلق منافذها وتلحيفها بالنايلون، وفرش أرضياتها بالبطانيات والبسط والخرق وغيرها. تلسع الريح الباردة في مثل هذا الوقت من السنة. يحاول عماد الهروب بتذكر مشاهد أخرى. تذكر اليوم الأول الذي تعرف به على بسمة. حبيبته التي فقدها، وتذكر حوارهما السابق والذي ذكرت فيه كيف أن القراءة غيرت حياتها، وامتصت اليأس والغضب من قلبها، وغيرت تقاطيع وجهها. مرت بخيال عماد صور لوجه بسمة الغاضب المتجهِّم المحبط. وكيف بدأ ذلك الوجه يتغير، تدريجيا. ثمة أصوات جلبة في الخلفية، موسيقى، تتغير ألوان المشاهد من الأبيض والأسود الى الألوان بشكل تدريجي، ولكنه لم يستطع الفرار من مشهد أخير مؤلم، يتحول المشهد بصورة مفاجئة الى الأسود والأحمر، تمتد أيادي لتغطي وجه بسمة بكيس أسود، تنطلق صرخة مكبوتة، ثم يسود الصمت.
يتخيّل عماد وجهيّ والديّ بسمة المرعوبين.
- أبي وأمي لم يتعلّما من حياتهما شيئا مثلما تعلّما الخوف. هكذا قالت بسمة ذات مرة لعماد في بداية تعارفهما عندما كان فردا من مجتمع السطح. وروت له ذات مرة ، كيف سُجِن والدها ذات يوم.
- كلّ تهمتي أنني كنت جاراًلذلك المعارض المعروف، سُجنتُ لسنوات. قال أبو بسمة ، وواصل حديثه لها.
- تعرفين ماذا يعني الاعتقال؟ تعرفين الحرمان من النوم؟ تعرفين كيف يأكلك الجرب؟
فيما يحاول حسن النوم دون جدوى على ما يبدو، كان عماد يجلس يراقب الرجل الغامض الذي كان ممددا على بطانية في الخيمة، ويراقب قلبه، لأنه بات يشكّ أنه ربما ما زال يحبّ بسمة دون أن يدري! وإلا لماذا لا يفارق وجهُها خياله!
استفاقة الرجل الغامض
يتدلى مصباحٌ مربوط بعمود الخيمة متأرجحا مثل بندول. يكشف الضوء الساطع بوضوح عن وجه الرجل الغريب ، وجه بارز الوجنتين، غائر العينين، ثمة غموض على ذلك الوجه، كأنه قادم من عصر آخر أو من عالم آخر. بدا أن الرجل الغامض يستعيد وعيه، يحاول النهوض، الا أن عماد يحاول إبقاءه مستريحا.
يتنبه الرجل الغامض، كان ضوء المصباح الكهربائي المتدلي قبالته يشعُّ ضوءً أبيضاً بارداً وساطعاً. لا يشعر بجسده الذي كان شبه مخدّر. ثمة دفء لم يشعر به منذ زمن بعيد. مقتنعا أنه ميت، راح يسرد للملاكين اللذين رآهما للتو قربه حكايته فيما كان عماد يصغي الى ما يقوله باهتمام بالغ.
تكلم الرجل الغامض قائلاً:
- أعلم أنني في الحياة الأخرى، وأنتما ملاكان. وأعلم أنكما تريدان أن تعلما من أكون. لابد أنكما تعلمان من أكون. في الحقيقة كنت أود أن أروي قصتي وأن أكتب ما رأيته لتكون رسالة للآخرين الذين يأتون بعدي هناك في الدنيا ليعلموا الحقيقة. لكنني أعترف أنني فشلت، فقد متُّ قبل أن أحقق تلك الرغبة. يا لأسفي الشديد، ذهبت كلّ جهودي أدراج الرياح. قضيت دون أن أترك وراءي للقادمين شيئا يساعدهم على معرفة الحقيقة. الحقيقة التي لا يعلم بها أحدٌ سواي! فأنا الذي رأى كلّ شيء!
لم يتوقع المجنونان المستجدّان ذلك. فهو ييظنُّ نفسه ميتا! الأمر الذي زاد من درجة إثارتهما. هذا الرجل الغريب يفاجيء منطقُه المجانين! كانا الى وقت قريب يظنان أن هناك عالمان فقط. ولكن هذا الرجل لا يبدو عليه أنه من عالم السطح، وهو أيضا ليس من عالم القاع المعروف لهما بعد أن داخ بأمره المجذوبون البارحة ولم يتوصلوا الى حقيقته. فمن أيِّ عالم هو؟
واصل الرجل الغامض حديثه قائلا:
- كنت أجلسُ بين ركام الأشياء المحطمة، ليس لدي وسيلة أخرى لأروي لمن يقرأ ربما بعد حين سوى أوراق وأقلام احتفظت بها منذ زمن بعيد، خبئتها عن عيون الآخرين، لففتها بأكياس من البلاستيك ودفنتها في أماكن عدة، كما يفعل الثعلب بفرائسه، على أمل أن تسنح لي الفرصة للكتابة يوما ما. كنت أعرف أنني ربما لن أعثر على بعض أوراقي، وسأنسى ربما الأماكن التي خبأت فيها بعضها، ومن المتوقع أن أجد بعضها وقد أصابه التلف، ولكنني سأجد ما يكفيني. وحيدا كنت هناك، هكذا ظننت، ظننتهم ماتوا جميعا، أو ربما رحلوا، فرادى أو جماعات. جُنّوا، وتشوهت أفكارهم ووجوههم. انخرطوا بالأحداث حتى لم يعد بإمكاني التحدث معهم. كانوا مقتنعين بمواقفهم. كلّ واحد منهم مقتنع تماما الى درجة تمنع إقامة أيِّ حوار معه. إن تكلمت سأموت. لذلك بقيت صامتا أراقب. وبقيت حتى النهاية. وحدي لا أسمعُ الا صفيرَ الريحِ وهي تتخلل بين الحطام. تتوغلُ بين بقايا جدران ما زالت قائمة، بلا سقف يستند عليها، وإن وجد في مكان ما سقفٌ، فهو إما مثقوب، أو متداعٍ من أحدى جهاته. تجولتُ فيما كان يوماً مدينتنا، ورغم أن التجوال لم يكن سهلا، ذلك لأن الأنقاض والأشياء والجثث المتفسخة قد تراكمت، فغيبت آثار الدروب.الا أنني تسلقت فوقها، وانحدرت منها، زحفت على بعضها، وتسللت خلالها، ولكنني لم أسمع سوى وقع أقدام الموت وهو يجول حيث أجول.
واصل الرجل الغامض حديثه:
- كنت قد عرفت الأماكن قبل أن يصيبها ما أصابها. عرفت الشوارع والأبنية والأسواق والبيوت والحدائق. عرفتها وتجولت فيها، وحفظت تفاصيلها. ثم رأيتها وهي تتحول، وتختفي. رأيتها تتغير تدريجيا. تحولتْ وأنا أجوبها. احتفظت بصورها القديمة في ذاكرتي. أنا لست كالآخرين الذين كانوا مشغولين بأمور أخرى، مشغولين بأنفسهم، مشغولين بأعمالهم، مشغولين بحروبهم، مشغولين بأوهامهم، لم يكونوا يشعرون بتغير المدينة، لم يلحظوا تحولاتها، كنت أراقب عن كثب. فعرفت أكثر مما عرف الجميع، ورأيت ما لم يره أحد، ورأيت كلَّ شيء.
تبادل عماد وحسن نظرات الدهشة . كان كلّ منهما يسأل في نفسه، ما هذا؟ ولكن الرجل الغامض واصل الحديث:
- أتعلمان لمَ لمْ أمت حين مات الآخرون؟ الأمرُ بسيط جداً، لأنني جبان. منذ أن أدركت أنني كائن حي، وأنني من البشر، عرفت حينها أنني كنت أخاف من كلّ شيء، وأخاف من كلّ إنسان. وخفت من الكبار ومن أعدائهم ورجالهم على السواء. كنت لا أجرؤ على الإعلان عن نفسي. صرتُ غائبا رغم حضوري، وسراباً رغم وجودي. لم أقل يوما رأياً، ولم أنبس ببنت شفة، ولم أقف بوجه أحد، ولم أعترض طريق أحد. كلّ ما كان عليَّ فعله، هو الانزواء والتخفّي، والابتسام بوجه من يعبس بوجهي، والهروب، نعم، الهروب من أيِّ مواجهة حتى اذا كان الخطر الذي يُحتمل وجودُهُ فيها ضئيلاً. كان كلّ همّي أن أحتفظَ برأسي على كتفيَّ. وكان همّي أن أحتفظ بصور الاحداث لأرويها ذات يوم. وقد نجحتُ الى حد ما. أختزنت الذكريات جيدا، وكنت أنوي أن أكتبها، ولكنني متُّ قبل أن أحقق تلك المهمة، يا للأسف. وها أنا ذا أروي حكايتي الطويلة لكما فيما كانت حكايات الآخرين قصيرة كما كانت أعمارهم قصيرة. وأشهد أمامكما. كنت أنوي أن أشهد أمام الآخرين من أبناء شعبي، وليس للملائكة في الدار الآخرة، كنت أنوي أن أقصَّ عليهم وأشهدُ أمامهم أنني رأيت كلّ شيء، وفهمتُ كلّ شيء. كنت آمل أن تبقى كتابتي للأجيال القادمة ليعرفوا من خلالها ما جرى. كنت أقول دوما في نفسي: سوف أترك مسلتي. سوف أترك حكاية شعبي الأخيرة كما ترك الأوائل حكايتهم.
صور
يشعر حسن المجنون بثقل جفنيه، يبدو أن محاولاته التي كان يبذلها منذ قليل للنوم قد افلحت أخيراً، ويبدو أن هذه الحكاية المملّة التي يسمعها من هذا الكائن العجيب تساعده على النوم. كانت معلومات حسن شحيحة لا تساعده على فهم ما كان يتحدث عنه الرجل. فكل ما اختزنه في ذاكرته هو صور لأناس مشغولين بتحميل السيارات بصناديق بضائع، وصور لتصنيع لوحات مغشوشة تلصق على مكائن مغشوسة، وصور لوثائق مزوَّرة ترفق مع بضائع تالفة، وصور لنتائج فحص مزوَّرة ترفق بملفات ملفَّقة.
تمر بخيال عماد صور لقراءاته السابقة، ولأفلام سابقة شاهدها حين كان في عالم السطح. مرت بخياله صور لمدن قديمة. وتراءت له معابد قديمة ابتلعتها الرمال. وجال بصره بين جبال وكثبان رملية وأهوار وسفوح، وسمع هنا وهناك أصوات كدح الرجال والنساء وهمهماتهم، وأصوات معاولهم وهي تدك الصخر، وفؤوسهم وهي تقطع الخشب، ومطارقهم وهي تهوي على الحديد الساخن. وسمع أصوات أنفاسهم وآلامهم. ورأى احلامهم! كان يحاول أن يكتب ملاحظات بسيطة عمّا كان يذكره الرجل الغامض، ولكنه وجد نفسه يرسم خطوطاً بسيطة وسريعة، خربشات ليس الا.
استمر الرجل بالكلام:
- أدركتُ أن إبقاء الآثار والعلامات والرموز للأجيال القادمة هو أهمُّ عمل يمكن أن يقوم به الانسان. بل هو العمل الأفضل على الاطلاق، ذلك لأن المتقاتلين سوف يقضوا، وأن الشجعان سوف يقتل بعضهم بعضا، وأن الهاربين سوف يمحوا الزمان ذكراهم، والمطاردين سوف يصيبهم الأعياء يوما، والمنتصرين سوف يموتون، وأن المهزومين سوف يموتون. ولن يبقى بعد كلّ ذلك الصراع المرير شيء للأجيال القادمة. ما الذي بقي لنا من الزمن السحيق غير تلك الكتابات التي قصَّت للناس ما كان يجري؟ كان الهروب من الموت، والجبن، أو تصنُّع الجبن، أو استثمار الجبن، وسيلتي كي أبقى حياً. أبقى حياً لأرى ما كان يجري بعين الرقيب المسجِّل الموثِّق للأحداث دون أن يكون لي دورٌ فيها، ودون أن أسمح لها أن تجرفني بتيارها أو تسحقني بدوامتها. بقيتُ لأرى ولأروي للناس. فهل كان ذلك جبنا؟
استمر تدفق الكلمات من فم الرجل المجهول:
- ربما لا يعود سبب بقاءي حياً ومحتفظاً بقدرتي على التذكّر الى كوني جبانا، بقدر ما يعود الى سبب آخر. ذلك لأنني ومنذ أن أدركتُ ذاتي، كنتُ دائما أشك بما يُقالُ لي، وأحاولُ دوما التأملَ بالأحداث لأفهمها. وكنت دائما أجدُها مختلفةً عما يقال عنها، أو ما يُرادُ لها أن تكون. ساعدني هذا على الاحتفاظ بعقلي كما أريده أنا أن يكون. مثلما ساعدني جبني على الاحتفاظ بجسدي سالما. ولهذا فقد رأيتُ كلّ شيء، وعرفت كلّ شيء. تسللت خفيةً الى الأماكنِ التي لا يُفترضُ أن أكونَ فيها، وعشت متخفياً بين الجماعاتِ المتناحرةِ. اجتزتُ الحدودَ مرات ومرات، و اجتازتني الحدود المتحركة مرات وأنا قابع في الحفر. لم يلحظ وجودي أحد. وربما رآني الكثيرون، ولكنهم كانوا دائما لا ينتبهون لي. فمن يأبه بمتشرد معتوه، لا يفهم شيئا، أو غريب لا ينتمي لجماعة بعينها. سترتني هيئتي المتسربلة بالأسمال البالية، وحمتني معالم وجهي التي تنمُّ عن الإنفصال عن الواقع. وهكذا نجوتُ من الموت ورأيتُ كلّ شيء. ومع هذا فقد تم اعتقالي أكثر من مرة، وفي كل أقسام مدينتنا المتناحرة. حقَّقوا معي، وعذَّبوني، حاولوا انتزاع اعترافات كاذبة مني، ضربوني، وكسروا أسناني، واقتلعوا أظافري، وخزوا جسمي بأسياخ الحديد، وحرموني من النوم، أغرقوني بالماء البارد. كان المحقّقون في كل أجزاء المدينة المتناحرة التي اعتُقلت فيها يتَّبعون الأساليب ذاتها، ويسوقون إليَّ التهم ذاتها، ويتصرفون معي بالطريقة ذاتها. كان الجميع يريدون مني أن أعترف أنني مرسل من قبل جزء آخر من مدينتنا للتجسس، وبعد أن يتأكدوا أنني لست جاسوساً، يعيدون عليَّ الفصول السابقة نفسها من حفلات الألم في محاولة لاقناعي أن أعمل جاسوساً لديهم، حتى خُيِّل إليَّ أنهم كانوا يقرأون ويطبقون كتيب تعليمات واحداً. ولكنهم في النهاية يتأكدون أنني لا أصلح لشيء. فيطلقون سراحي، فأعود أجوب المدينة كما كنت أفعل دائما. لأرى كلَّ شيء. قد يكون من المبالغة القولُ أنني عرفتُ كلّ شيء. ذلك لأن مدينتنا تضمُّ أماكنَ لايمكن لمثلي الوصول اليها. نعم، لم أعرف ما كان يدور في قصور الكبار، ولا دوائر المقرَّبين منهم. ولكنني عندما أقولُ أنني عرفتُ كلّ شيء، أقصد أنني عشتُ قريبا من كلّ الأجزاء المتناحرة من مدينتنا. وشاهدتُ الأحداثَ الكبيرةَ التي حصلتْ منذُ عقود. ولم أنتمِ لجهةٍ بعينها، فصرت شاهدا على ما جرى سنوات طوال.
رفع رأسه عن الوسادة، وهمس بصوت واضح:
- أكتبا، أنا الذي رأى كلّ شيء. من أجل الحقيقة تحمَّلتُ كلّ أنواع المتاعب. أنتظرت طوال الليالي حتى بزوغ شموس النهارات. وانتظرت طوال النهارات حتى غروب الشموس وراء الآفاق. بعينين مفتوحتين، كنت فقط أريد أن أرى حقيقة ما يجري. وقد رأيتُ.
إصّفَرَّ وجهُ الرجل، وتلعثم لسانه وهو ينطق كلماته الأخيرة، دارت عيناه بشكل مضطرب، تراخت يده، ثم أُغمي عليه مرة أخرى. أو ربما غطَّ بنوم. هرع اليه الشابان يتفقدانه .
سمع الشابان ما قاله الرجل الغريب، وازداد فضولهما. فهما لم يتوقعا أن يسمعا مثل هذا الكلام. توقعا أن يقول شيئا مختصرا فقط ليساعدهما على معرفة من يكون، أهو دكتور منعم استاذ الفلسفة في جامعة بغداد الذي كان يفترش الرصيف أمام المكتبة المركزية في الوزيرية، أم أنه سلمان الذي فقد عائلته بانفجار سيارة مفخخة في منطقة جسر ديالى، أم أنه أبو فيصل الذي فقد أبناءه؟ كانا يأملان أن تكون تلك هي الاحتمالات فقط. أما الآن وقد سمعا منه ما قاله للتو،إذ تحدَّث عن نفسه باعتباره شاهد عيان على أحداث كبيرة حصلت هناك في مكان ما، مدينة حصل فيها صراع دمَّر كلّ شيء ، ومات الكثيرون، ونجا هو وحده كما يبدو من كلامه، ويريد أن ينقل ما عرفه للأجيال القادمة فقد اتسعت دائرة الغموض. خمَّنَ عماد أن الرجل ببساطة فقد أحلامه! فيما ظنَّ حسن أنه مجرد ضحية أخرى من ضحايا غشّ الغشّاشين في مجتمع السطح العفن.
- في المرة القادمة سأسجّل ما يقول على الهاتف بالصوت والصورة. قال عماد في نفسه. فهذا غريب! غريب جداً! وسنحتاج مشورة العارفين ربما.
للحكاية تتمة



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
- سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
- سالم ابن دَهَش -ج3
- سالم ابن دَهَش -ج2
- سالم ابن دَهَش- ج1
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه


المزيد.....




- الرياض.. دعم المسرح والفنون الأدائية
- فيلم -رحلة 404- يمثل مصر في أوسكار 2024
- -رحلة 404- يمثّل مصر في -أوسكار- أفضل فيلم دولي
- فيلم -رحلة 404- ممثلاً لمصر في المنافسة على جوائز الأوسكار
- فنانون من روسيا والصين يفوزون في مهرجان -خارج الحدود- لفن ال ...
- اضبط الآنــ أحدث تردد قناة MBC 3 الجديد بجودة عالية لمتابعة ...
- كيف تمكنت -آبل- من تحويل -آيفون 16 برو- إلى آلة سينمائية متك ...
- الجزائر: ترشيح فيلم -196 متر/الجزائر- للمخرج شكيب طالب بن دي ...
- وفاة النجم الأمريكي الشهير تيتو جاكسون
- مصر.. استعدادات لعرض فيلم -إيلات- الوثائقي في ذكرى نصر أكتوب ...


المزيد.....

- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق
- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش
- تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة / كاظم حسن سعيد
- خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي ... / أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني