|
ملامح الدهشة في نص(الغارقون بأحلام منفية)داود السلمان*
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 6745 - 2020 / 11 / 27 - 22:11
المحور:
الادب والفن
مهدي علي ازبين اشتغل نص (الغارقون بأحلام منفية) على الصور النفسية المركبة، وقد أوحت بلاغته اللغوية بتداعيات ذهنية يفرزها التفاعل بين اللغة الإجرائية والتراكيب الشعرية، وما ينتج عنها من إيحاءات تمظهرت عن تجليات الصياغات الفنية، مبتدئين من العنونة (الغارقون بأحلام منفية)، فالغارق هو من طغت عليه المياه ومات بسببها، أو تراكمت عليه الهموم ليغدو مشلولا، فهو حي لكنه في عداد الأموات. هذه الأحلام التي غادرت محيط الحالمين واستقرت في بيئة صعبة المنال، وهؤلاء الغارقون في أحلام غائبة عن الأنظار في الواقع المعيش؛ يرزحون في أجواء معادية، ويعانون تحت ضواغط غير أليفة أو متجاوبة معهم، فهم يعيشون في وهم مستدام. يبدأ النص/ [في مقابر الأرصفة] لقد جعل الشاعر للأرصفة مقابرَ، وهذا تعبير يفصح عن نوعية المكان وماهية قاطنيه، من هم هؤلاء؟ إنهم أولئك الذين يتخذون منها الأرصفة/ المقابر سكنًا لهم، ألا وهم المعدمون، هذا هو مأواهم الذي جادت به الحياة عليهم، أما ثيابهم فتمثلت في لا شيء كما جسدتها اللوحة الذهنية/ [مدثرون بأجسادهم العارية] وهذه مفارقة تقارب اللوحة السريالية، إذ كيف تسترهم، وتخفي عريهم وهي عارية، فهم معدمون عراة يلفظون أنفاسهم الأخيرة بعد أن لفظتهم شوارع الحياة وركنتهم على قارعة طرقها.. ينتظرون نهاياتهم المأساوية، مع هذا هم يحلمون بأمنيات مهاجرة لا أمل في عودتها. ويشبّه الشاعر تطلعات هؤلاء وأحلامهم/ [كمطر صيف لا يأتي بالزوابع] ومطر الصيف لا ترافقه الزوابع، والزوابع قرينة المطر والنماء، لا تحدث إلا بوجود سحب مثقلة ببشائر الخير، وهي تأتي في فصول معينة، ومن الاستحالة أو غير المنتظر أن تحضر في أيام الصيف. يقرن الشاعر الحرمان الذي يعانون منه بالجليد/ [جليد الحرمان يلسعهم] وهذا الاقتران بين شيء عقلي وآخر محسوس يفضي إلى انزياح يشير إلى قساوة الحرمان وتصلبه، هذا المكوّن الجليدي يكوي الجباه حين يترك آثاره على الملامح، ويرسم على تقاسيم أصحابه سيماء الشقاء والفاقة/ [هم يتسكعون في أزقة الإهمال... تخمت بطونهم بسياط الجوع] إنهم فقدوا الإحساس بالحياة وعاندتهم الأمكنة، واختفت من تطلعاتهم هدفية العيش، فهم أضاعوا طعم الأشياء وطفقوا يدورون في دوامة الحرمان، تأخذهم خطاهم المترددة في دروب تبتهج بالتهميش وعدم الاهتمام، إنها صورة لحركة ترددية لأجساد تدور بلا روح بعد أن فقدت معنى وجودها، وامتلأت قناعة بأنها خارج أسوار الحياة التي تليق بالإنسان. كما عذّبهم الجوع وهم يتضورون منه وقد شبعوا من سطوته إلى حد التخمة، فهو ينهش بطونهم الخاوية، ويعضّها بطريقة مؤلمة، وليس هناك بارقة أمل بانجلائه، وانتقالهم إلى حالة أخرى وواقع جديد يعيد إليهم إنسانيتهم المهدورة. سيبقون فاغري الأفواه في انتظار متغير ما، في ترقب لـ / [غيوم لا تلد ريش النعام] فإن بشائر الأمل لا رجاء فيها، فقد حسم الشاعر رأيه فيها فهي لا لا تجتزئ من خيرها شيئًا لهؤلاء المعدمين، ولن تجود عليهم بشيء ولا تعود عليهم بنتفة رفاه أشار إليها الشاعر ب (ريش النعام) الذي يتوسّده الموسرون وأصحاب الجاه، أما هم فيبقون ينعمون في بحبوحة الفاقة، ويحلمون بوسائد للراحة ولا يجدونها. لكن حالة الانتظار هذه لا ترضي الشاعر، فيصرح/ [الانتظار فزاعة الوقت] لأن انتظارهم الوقت لا طائل منه، فهو يرى الانتظار طاردًا للوقت حين وصفه بالفزاعة التي تتولى مهمة طرد الطيور، فلقد جعل من الانتظار مضيعة لكل أمل، ومؤشر على ديمومة الحال في اتجاه سالب. تبدو رسمة كاريكوتورية للانتظار، إذ صوره فزاعة، لكنها تغترف من مياه السخرية السوداء، فنجد مقابلة الانتظار مع الفزاعة، ثم تستحيل مفارقة حين تستهدف الفزاعة الوقت، أي تضيعه وهو الملتصق بكل الموجودات، فتكون حالة تعاكس تعبر عن الانفصام عن سيرورة الحياة. يختتم الشاعر معماره الشعري بلوحة ذهنية رسمها بأزميل الواقع المعتم/ [حتى الورود نزعت جلبابها وبانت حلمة عطرها مطعونة بالجفاف] تكوين يصور مآل الخراب وذروة انحسار الجمال بأن تلجأ الورود إلى خلع ملامح نضارتها، وأن تنتحر حين تلغي ألوانها وتترك وريقاتها تتساقط، لتترك إعلانًا بصريًا يوحي بتسيّد القبح الذي تسبب بخنقها. لقد شاغل الشاعر الحواس حين جعل للعطر حلمة [حلمة عطرها]، وهي إشارة إلى حاسة الذوق، فالحلمة تحيل إلى اللسان لأن الحلمة مصدر امتصاص الرضيع لرحيق الحياة والنمو من أمه، وهو يتحسسها كذلك باللمس عن طريق أنامله وشفتيه، وهي جزء من جسد الأنثى يمكن رؤيته بالعين أيضًا، فتشاغلت ثلاث حواس في هذه التكوين النفسي الذي عبرت عنه اللغة المفضية إلى المنطوق الشعري، فنتج عنه انزياح في التلقي بعد أن تأثر المتلقي بالعطر مستعينًا بحاسة الشمّ، فضلا عن الحواس الثلاثة التي مر ذكرها. كل هذا الاشتغال ينصب في روعة العطر الذي تبتهج به كل حواس الرائي، لكن هذا العطر جعل له الشاعر حلمة تدر أو ترسل تردد نسائم منه لنشر الراحة في النفوس. صوّر الشاعر حالة الورود بأنها قد طعنت حلمتها، وهذه الطعنة أودت بحياتها، لكن بماذا طعنت؟ لقد طعنت بالجفاف، إذ جعل من الجفاف آلة للطعن المؤدي إلى الموت. جنحت الورود إلى التلاشي تحت ضاغط الجفاف الذي يقدر مصدره بسبب عدم الاهتمام أو الإهمال المتعمد، فهناك توجّه لمحاربة كل مسميات الجمال، وهذا التوجّه يعمل على سلب مسببات جوده. تنتحر الوردة بعد أن افتقدت عشاقها ومن ينتشي بحضورها المترع بمسحات الجمال متمثلاً بألوانها الزاهية التي تزيّن الأجواء، فتنعكس سرورًا للناظرين وعطورها التي تبثها لتخفف من متاعبهم. لم يبقَ أمام الورود إلا محو ألوانها وكتم نبضات عطورها لأنها فقدت أهميتها في أجواء التعاسة، وأصبحت غريبة في بيئة طاردة، فقررت الانسحاب إذ لا معنى للوردة من دون ما يحيطها. ................. *النص الافتتاحي من مجموعة (بحثًا عن رغيف المعنى)
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جحيم ابيض!
-
مكابرة غير يائسة
-
حانة الدرويش
-
لربما
-
في فلسفة المعري: رأيان مختلفان1 /2
-
في فلسفة المعري: رأيان مختلفان2 /2
-
رفض
-
مكاشفة
-
مسامير الذهول
-
أغنية الفقد
-
نصوص قصيرة - نصوص
-
الوجودية السارترية 1 / 2
-
الوجودية السارترية 2 / 2
-
وجودية دوستويفسكي 1 /2
-
وجودية دوستويفسكي 2 /2
-
معتوه!
-
خمس نصوص قصيرة
-
العودة الى طه حسين!
-
حين تركلنا أرجل الليل
-
ابو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الاسلام(1)
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|