|
ذاكرة الخطى
علي شبيب ورد
الحوار المتمدن-العدد: 1612 - 2006 / 7 / 15 - 05:29
المحور:
الادب والفن
على الصخب مذعورة تستيقظ ، تفرك مقل نعاسها بالخطى المرعبة ، تستجير بالأسيجة عندما الشوارع تتلعثم . وعندما على تخومها يذرف اللهاث بحاره المظلمة ، يبلسم الصمت أوجاعها . وإذْ تلوذ بالحفر - بعدما التدمير الباسل يرسم خرائط ولائم الإنتصار - فإنها تنوح دون شفاه مخافة أن تفشي سرّاً ما . عادة تمتهن العزلة ، درءاً للفضول . وتلتحف الدهاء ، نكاية بالهوان . بالمحاذاة وحدها أثّثت عالما مغريا للحثيث . وخاصمت كل ما يخدش الذاكرة . والمحاذاة صيّرت منها حاضنة أسرار خارقة . بمفردها سوّرت منظومة خفايا مرعبة لشبهات مقطّبة / أفراح موقوتة / فضلات سباب / ثقافات لئيمة / إحباطات دائمة / وشايات مبتكرة . وبدماثة خلقها مدّت فسحا عامرة بمقل تلصّص / ميتات رخيصة / صفقات مريبة / كواليس تواطؤ . و تحملت بصبرٍ مذهل هذيانات سماسرة لامعين / شعراء بائسين / موظفين باعة / بنات هوى / قطط ناقمة / كلاب انيقة . ولرهافة حسّها فهي تتأوّه حينا لغياب زهرة / شجرة / نخلة . وتحزن كثيرا لحضور حفرة / بركة / قمامة . وتصعق أبداً لتراجيديا الجثث . أنا من هذه السلالة الطيّعة إلى الحد الذي يفوق التصور . سلالة ما أربكتها عثرات وركلات وتجاوزات سلالات أخر . على الجانب الآخر لأي شارع في الكون يتمدد أخي التوأم . في حقيقة الأمر نحن أبناء شوارع ، ولكم نفخر بذلك . اجل ولدنا في الشوارع وفيها نحيا ونموت . نسير مع الشوارع في امتداداتها وانعطافاتها ، غير أننا نغيب عنها أحيانا في بعض الدروب بحثا عن الحرية . لا نطيق العيش أبدا في الممرات الضيقة . كيف يمكن لنا العيش في أزقة الحارات القديمة ، لا سيّما المعدمة ؟ لانتحمّل النظر إلى شرفات بيوتها وهي تتشابك بالأيدي مع شرفات بيوت أخر ، تلافيا لإنهيار وشيك . عادة لا ندخل البيوت ، ليس لأن للبيوت أسرار كما يقال . بل لأنها وبلا سبب ترمي بها على رؤوسنا كما الفضلات . ربما ندخل البيوت الفخمة ، لا لشيء إلاّ لإثبات بطر ساكنيها . سفرنا هو سفر شوارع مدن بلاد ما بين النهرين منذ فجر التاريخ بدءً بالمدن السومرية الاولى / أوروك / أور / شروباك / نفر / أريدو ومرورا بالمدن البابلية والمدن الآشورية . وانتهاءا ببغداد الرشيد التي حوّلتها الحروب اليوم إلى شمطاء سليطة اللسان لا أكثر . إذ راحت شوارعها تتنافس بجدارة فريدة لعرض مفاتن خرابها اليومي . ما يشير إلى قدم وجودنا ما ذهب اليه أ . ليو أوبنهايم ( أما بالنسبة إلى مينة أور فنجد مقطعا محدودا – من لوح - عنها يشتمل على أقسام السكنى والشوارع ، حيث ان شوارعها لها اتجاه يتميز بالإتساع وبالممرات القائمة الزوايا ، وان بعض شوارعها تنعطف إلى مناطق مخرّبة والى الحقول والبساتين والمساحات الخالية ) وما يثبت جدوانا لكم ، هو مروركم علينا كل لحظة دوما ، غير أنكم لا تعرفوا مثلا أننا نؤرشف أبدا نوايا الخطو ، ونلملم نثار الفضائح ، ونقارع براثن الهدم ، ونشاكس أفانين المحو، ونحتضن بأوجار صدورنا رعونة البارود وفخاخ الإبادة . مريرة هي الحروب . كم من المدن والأنام أبادت ؟! ويا لفلسفتها العائمة على بحار الدم . والمانعة لسبل الخير والمودة . ويا لأهوالها التي قبرت تحت جلبابها المهول حضارات الضوء الإنساني ، منذ المدن الاولى التي ترزح تحت أتربة الأهمال . وها هو أحد شعراء سومر يرثي مدينته أور بعد حرب مدمرة أطاحت بالملك ( آبي – سين ) آخر ملوك سلالة أور الثالثة : ( مرّ أيّتها المدينة طعم رثائك . أيتها المدينة ذات الأسم الشهير ، لقد هدّموك . أيتها المدينة ذات الاسوار العالية ، قد أبيدت أرضك . مدينتي لقد أبعدت عنك مثلما تبعد الحملان عن الشاة الطيبة . أور أصبحت كالعنزة الطيبة التي ابعد عنها صغارها ، أيتها المدينة طقوسك كانت ترهب الاعداء ، والآن قواك الإلهية قد نقلت إلى البلدان البعيدة ) لنا أخوة في العالم المتقدم يعيشون حياة رغيدة ، حيث الشوارع الرائعة والحدائق المدهشة والجنائن الغرائبية وووونحن في العالم المتخلف للأسف نفقد نضارتنا كل حين ، الخراب يطال أجمل المدن جرّاء المفاهيم النعراتية والإنتماءات القارّية . والتوجس الدائم من أخطار التقنيات الحديثة . ولشد ما يتضح ذلك بجلاء لدى العرب ، وتطرّفهم الجنوني للحفاظ على هرم الولاء ، بالإستماتة في إدامة وتزويق نظرية المؤامرة المقيتة التي يقدّسها أغلب حكامهم ، وذلك لجدواها السحرية في إقناع العامة للتضحية بأنفسهم كوقود فعّال لحروبهم الأزلية المفضية الى تثبيت مؤخراتهم على كراسي الظلم . اجل الحروب الأبدية التي حولت المدن إلى براكين حطام يتشظّى أبدا على أبداننا المتآكلة . إعتدنا على أن نتلقى بلا مبالاة وعلى الدوام كل أثر يخلفه أبناء آدم – القابيليون طبعا – لنعبر عن ذواتنا بتقارب تام مع اسلوب ستيفن أحد أبطال جويس ( سأحاول ان اعبّرعن ذاتي في اسلوب من الحياة والفن باقصى ما يمكنني من حرية ومن تكامل مستخدما في الدفاع عن نفسي تلك الاسلحة الوحيدة التي أبيحها لنفسي – الصمت والمنفى والدهاء . ) الصمت لغتنا الأثيرة ، وفي أروقة متحف هدوئنا الابدي تتنافس خطى مراميكم الصاخبة . المنفى عالمنا المجهول ، وعلى فسح ترفعه الرصين تتسكع قبوركم العظمية المتلاطمة . الدهاء سمتنا البهية ، وفوق حصى مهاراتها تتكسر جرار خفايا أعماقكم المعتمة . ترى من يفكر بإعادتنا إلى جدوى وجودنا غيركم ؟! أم أنكم لاهون في إشباع سرائركم بأسلحة الحنق والضغينة والغل ؟! ما وجدنا للقبح بل للجمال . ماذا بنا تفعلون ؟! يا لقساواتكم !! جلودنا مدوّنات خطاكم ، أعمارنا تستبطن كنوز ذاكرة ، أرشفت آثار خطى سلالات الكون . يكفي أن تتأمّلوا مشهدا لأيّ شارع في أيّة مدينة في العالم من على الإنترنيت ، لتتبيّنوا ذلك . نحن سبل بحثكم الأبدي عن وسائل تحقيق مراميكم التي أذهلت الفلاسفة والعلماء والكتاب والشعراء منذ السؤال البدئي الأول وحتى اللحظة . بالحب والعقل ازدهرت مدن مثل باريس / لندن / روما / طوكيو / فيينا / وغيرها . بينما الحقد والقتل ينهبان فتنة مدن أخر مثل بغداد . ترى متى تخلع بغداد وشاحها الأسود ، ليطل محياها مشرقا ، يبعث النور لأقصى المدن ؟ وإلامَ تصهل في شوارعها متاريس التحيّن والإنقضاض ، مقيمة ولائم الدم والدخان ؟ وهل ثمة أمل بأن نعود إلى سابق عهدنا دروبا لعابرين يحملون مشاعل أمل وسعادة ، لا حراب يأس وبؤس ؟! دروبا جميلة عامرة بالخطى العبقة بالخير ، لا دروبا تقايض المارة بالبضائع والقمامة والجثث ؟ بغداد .. يا أميرة العصور .. غاليت في الكهولة ، لتعاطيك الضّجيج . كان لك / أن تهجري مثلبة الدّوي / أن تمنحي أفياءك جناحين للربيع / وأن تطمري الثّرثرة . متى تخلعي خوذة العمى ، وتلبسي تاج الورد ؟ فالملعونة . تسرق أفئدة ورؤى . تلبس رأساً . تنزعه كي تلبس آخر . تسلخه عن مدن النّخل المتسابق والغيم . تركله في مدن ليس لها أجفان . يصهل فيها التحديق ، ليؤرشف ميتات حشود الوقت . والدمع بها تقطنه الأسماك . مدن كان لها أن تطرد / البريق عن الصّدأ / الأغاني عن الخواء / الحشود عن السغب . وآن لها أن تقايض / البنادق بالكتب / الفخاخ بالبصل . وأن تسلفن التصحّر بالندى والأسى بالأمل . بغداد .. من يلملم الشوارع ، عن شغب الألغام ؟! ومن يصطاد القرون ، لبلسمة أعوام مشلولة ؟! من يردع خرابنا نحن الارصفة ؟! مفتتح مؤجل : ------------------------------------------------------------------------------------------------------ إثر انفجار هائل في أحد أجمل مناطق بغداد ، صعد أحد الارصفة على أحد البيوت ، ولهول الصدمة ، أصيب بانفصام الشخصية ، فتصوّر نفسه سقفاً ، طارداً خرسه، ليهذي بما ورد أعلاه . ---------------------------------------------------------------------------------------------------- إشارات - بلاد ما بين النهرين / تأليف ليو اوبنهايم - مسرحية ( آبي – سين ) تأليف حسين الهلالي - موسوعة جيمس جويس
#علي_شبيب_ورد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها الماغوط .. هل أخذت الملف ؟
-
تعال يا مغترب
-
مكائد الأمكنة - كولاج تأويل
-
ناطحات الخراب
-
دكتاتورية المعدان
-
أسئلة الشعر المخيفة
-
نحت الشعر في سماوات الحجر
-
محرّضات ثراء النص الشعري
-
لي أيضا عربة
-
أيّها العاشق السومري .. من ألقى بك في الجب ؟؟؟؟
-
محاولة في إيقاظ طفولة الشاعر ناجي رحيم
-
شـارع الحـبـوبـي
-
خرق الظلمة بألوان الفرح والحب
-
بيت الترباس
-
الفاصولياء من صدام الى الجعفري والله أكبر
-
أمـنـيـة
-
( 2 -2 ) إستثمار مرجعيات المكان الأسطوري في إثراء الفضاء الش
...
-
2-1 -استثمار مرجعيات المكان الأسطورية في إثراء الفضاء الشعري
-
جدوى بلاغة المخيلة وكفاءة الشفرة في اسطرة النص 2-2
-
(جدوى بلاغة المخيلة وكفاءة الشفرة في أسطرة النص ( 1-2
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|