أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بديع الالوسي - توغل داخل المرايا _( ج 2 : مرآة العطش )















المزيد.....

توغل داخل المرايا _( ج 2 : مرآة العطش )


بديع الالوسي

الحوار المتمدن-العدد: 6731 - 2020 / 11 / 13 - 18:11
المحور: الادب والفن
    


2 : مرآة العطش
نداءات من عوالم بعيدة صار يسمعها الاب جوستاف ، ولم يجرؤ على البوح بها للآخرين ، مخافة ان يتهمونه بالجنون .. بالرغم من كل ذلك كان حتى اللحظة يتحلى برباطة جأشه ، متوقعا ً حضور تيريز في اي لحظة قادمة .
منذ عشر أيام وهو طريح الفراش ، ومنذ اربعة ايام لم يحتس ِ صفار البيض او الحليب بالبروتين ، زوجته المسكينة كانت تحاول معالجة الموقف بتقطير جرعات من الماء المحلى بالعسل في فمه بين الحين والآخر .
كم كان يرغب برؤية الشمس كي يدفئ عظامه وبشرته التي صارت شفافة كقشرة البصل .
ظل يردد طوال الليل : يا الهي .. رحمتك ....
فقد جوستاف اربعة كيلوغرامات خلال الشهرين المنصرمين ، فهو يعاني من تقلص بصمام المعدة منذ ربع قرن ، من دون ان يجد لهذه المشكلة من حل جذري ، وظل طوال تلك السنوات يتناول طعامه مهروسا ً ويتجاوز ازماته بالصبر وشرب السوائل فقط .
وظل على هذا الحال حتى تدهور وضعه الصحي هكذا فجأة بعد ايام من عيد ميلاده الثمانين ، هذا السبب الطاري وليس غيره هو الذي جعل ابنته الوحيدة تيريز ان تترك قريتها في مدينة ليون وتقرر ان تحزم اغراضها وتسافر في التاسعة ليلا ً صوب الجنوب ، وظلت طوال الطريق تردد : لدي ما يفرحك من الاخبار .
اما ابوها فلم ينم تلك الليلة ، كان ينتظر ، اراد ان يبلغ ابنته بأمر هام يتعلق بزوجته ، التي بدأت تعاني من فقدان الذاكرة منذ العام المنصرم .
حتى غلبه الوهن والنعاس ، اما تيريز فقد وصلت متعبة في الساعة الثانية صباحا ً ، لتفاجأه مع شروق الشمس بسؤال محدد : هل تريد ان نعطيك غذائك عبر الوريد ؟
فيما مضى كان يرفض كل المحاولات التي من شأنها ان تطيل في عمره ، اما الآن وقد مسه العطش ، فقد جاء قراره مختلفا ً ، لم تفهم تيريز سبباً لهذا التراجع ، هل بسبب الخوف من الموت ام بوازع حب الحياة !؟ ، وظل يحدق بها بعينين جامدتين ، من دون ان يترك لها مجالا لمزيد من الذهول ، وباغتها على غير عادته ، مستسلماً لمقترحها الجديد ، ليقول لهما :
ــ ذهبت كل السعادات يا تيريز ، ذهبت والى الأبد ، فأنقذيني من الألم ، انقذيني ... باي ثمن .
صدمت تيريز لقول والدها ، كونها لأول مرة تسمع منه كلاما كهذا ، والذي ينبئ ضمناً بانهياره واستسلامه ، فقد شعرت بأنه يريد ان يقول لها ان الالم اشد وطأة من الموت ، محاولا اقناع ذهنه بأهمية راحة الجسد ، مؤمنا ً ان داخل كل حياة قوة مهمتها الفناء والانتهاء .
في كل المرات الماضية التي كانت تسأله فيها زوجته او تيريز : هل عشت الحياة كما تتمنى بالرغم من تجاوزك عقدك الثمانين ؟ كان يفتح فمه الكبير ويطلق العنان لمخيلته ليثرثر بموضوعات تدور جُلها حول حبه للأرض والحقول التي زرع فيها اكثر من عشرة آلاف شجرة ، كما كان يعرج في كل تلك الأحاديث ليتحدث عن تيريز التي وهبها كل ما في قلبه من عاطفة ، لذا لا غرابة ان يطلق عليها ملاكي الحارس ، فهي وحدها من تعرف ماذا يعني الجفاف وما اثره على الروح قبل الجسد .
الى الآن لا من احد يعرف من الذي اوحى بالفلاح المخضرم جوستاف بان يستل قلمه ويشرع في الكتابة .. فهو وعلى الرغم من عدم معرفة لفنون الكتابة ، لكنه في السنين الخمسة الاخيرة من عمرة ، عكف على كتابة ثلاثة دفاتر تنتمي الى السيرة الذاتية ، كان يسرد على سجيته ، لكن بعض الصفحات اشبه بحلم لم ينضج ، او هواجس تحوم حول تساؤل غريب : من سيستفاد من كل هذه المسودات التي اكتبها !؟
فعله العجيب هذا اذهل تيريز وحفزها ذات مرة لأن تقول له :
ــ انك ما تزال تمتلك ذاكرة عجيبة يا ابي .
وصارت تتفهم جيدا ً لماذا عيناه تذرف الدموع البلورية كلما داهمه ذلك الشعور المزعج الذي يذكره بالخسارات الكبرى او انهيار الحلم . ولا يغيب عن بالها كيف انه في الماضي كان يجلس بأرجوحته في الحديقة متنعما ً بدفء الشمس ، وما ان يروق مزاجه وتنتعش روحه ، حتى يزفر عبارته الاثيرة والتي كانت تعبر عن لواعج نفسه خير تعبير ، يقولها لتيريز ولزوجته ولكل من كان يمر به مصادفة ً  :
ــ اني حاولت ، وفعلت كل شيء ، إلا الانتحار .
لكن شيئاً فشيئاً ترك الزمن بصمة غائرة على روحه ، فلا غرابة ان تتفاعل زوجته معه ، وتصدق مزاعمه في سماع وشوشة الملائكة ، وكان يصر على عدم غلق عينيه ، ربما لهذا بدا الليل طويلا ً عليه ، وصار يسمع اصواتا ً مثل رشقات المطر وموسيقى حزينة ، وحديث مشتت بين تيريز وأمها .. وفي كل صباح كانت تيريز توقظه وتمسح اثار الخوف عن عينيه قائلة ً  : انك تقاوم على نحو رائع . واني على ثقة من انك ستتجاوز الازمة كما في المرات السابقات .
وكانت تلك الكلمات على بساطتها كوقع السحر على روحه ، خاصة بعد ان ربطت له الممرضة كيس المغذي ، فساعده ذلك على سرد حلمه المتكرر الى ابنته ، كان حلما غامضا ، لا يعرف له سببا ً او تأويلاً  : ( هو وزوجته ملتصقان في كهف مظلم ، رطوبة المكان تثير في نفسيهما التقزز والاضطراب ، في ذلك الزمن المغلق لم تبق لهما سوى امنية واحدة ، ان تغلق كوة الكهف ، عسى ان يتمكنا من ان يهجعا الى النوم ، فما عاد لهما من رغبة تساعدهما على مجاراة بهرج الحياة وتقلباتها ) .
لم تجد الأبنة من تفسير مقنع لما اصاب والدها من جفاء مفاجئ للحياة ، بعدها صار النوم هو الحل الامثل له ، لكن تيريز التفتت الى امها واخبرتها بوضوح :
ــ سأبذل ما بوسعي ..
لكن الأم فقدت ذلك الأمل الجميل فقالت مكلومة القلب  :
ــ هل سيكون اخر يوم معنا ؟
ما ان سمع جوستاف تلك الجملة حتى كاد ان ينفجر من الضحك ، لكنه التزم بلاغة الصمت ، لأنه ما عاد يقوى على التنبؤ بكلمات مثل : ستعانين الوحشة بعد فقدي .
ومرت ليلة اخرى ، كانت تيريز تقعد على كرسي هزاز جنب سريره ، في اول الليل كانت تسمع أنينه لكنه بعد نصف ساعة خلد الى الراحة ، مما اتاح لها ان تغط في نوم عميق .. بعدها استيقظ ثلاث مرات ، وفي المرة الرابعة كان كمن يخرج من غيبوبة مؤقتة ، فتح عينيه كوليد يرى النور للمرة الاولى ، شكر الرب ، ما ان رأى الضوء يتسلل من النافذة . حتى صار يردد بصوت مرتفع محاولا ايقاظ تيريز : يا الهي ، نورك ما زال ينعش روحي …



#بديع_الالوسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التوغل داخل المرايا (ج 1 : مرآة النهر )
- الخروج من بيوت الموتى
- أنطفأت شمعة في تكريت
- يوم بين عالمين
- غروب
- قصة قصيرة : فسفور الرغبات
- مدار الجنون
- قصة قصيرة : الأرواح المرئية
- قصة قصيرة : في صحبة ابن مالك
- ألمنحوته المنحوسة


المزيد.....




- عن عمر ناهز 64 عاما.. الموت يغيب الفنان المصري سليمان عيد
- صحفي إيطالي يربك -المترجمة- ويحرج ميلوني أمام ترامب
- رجل ميت.. آخر ظهور سينمائي لـ -سليمان عيد-
- صورة شقيق الرئيس السوري ووزير الثقافة بضيافة شخصية بارزة في ...
- ألوان وأصوات ونكهات.. رحلة ساحرة إلى قلب الثقافة العربية في ...
- تحدث عنها كيسنجر وكارتر في مذكراتهما.. لوحة هزت حافظ الأسد و ...
- السرد الاصطناعي يهدد مستقبل البشر الرواة في قطاع الكتب الصوت ...
- “تشكيليات فصول أصيلة 2024” معرض في أصيلة ضمن الدورة الربيعية ...
- -مسألة وقت-.. فيلم وثائقي عن سعي إيدي فيدر للمساعدة بعلاج مر ...
- رايان غوسلينغ ينضم لبطولة فيلم -حرب النجوم- الجديد المقرر عر ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بديع الالوسي - توغل داخل المرايا _( ج 2 : مرآة العطش )