|
نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية: مدخل
مجدي الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1609 - 2006 / 7 / 12 - 09:16
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تعريفات الاقتصاد السياسي هو العلم الاجتماعي المعني بدراسة تشابك السلطة السياسية والاقتصادية كوحدة واحدة. تطور المفهوم من درسة الإنتاج وعمليات البيع والشراء في علاقتها مع القوانين والأعراف والسلطات والحكم ليترسخ في القرن الثامن عشر كعلم يختص بدراسة الاقتصاديات القومية. شاع علم الاقتصاد السياسي بانتقاد نظرية الفزيوقراطيين الفرنسيين القائلة بأن مصدر الثروة الأساس هو الأرض، ثم استبدالها بنظرية العمل للقيمة (labour theory of value) التي قال بها جون لوك، ثم طورها آدام سميث، حتى تثويرها النقدي على يد كارل ماركس. يدرس الاقتصاد السياسي نشاط الانسان الإنتاجي المادي، طرائق تنظيم هذا الإنتاج، وسبل توزيع ريع هذا الإنتاج فائضاً أو خسارة. بهذا المعنى ينظر الاقتصاد السياسي، بصورة تجمع الاقتصاد البحت والعلوم السياسية والقانون، في علاقات التأثير المتبادل بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، وذلك في المحتوى التاريخي الخاص بكل فترة. في هذا وجه تميزه عن علم الاقتصاد الذي يختص بالنشاط الاقتصادي في تجريده الرياضي من حيث الكفاءة والفعالية بغض النظر عن علاقات التوزيع والسلطة، حيث ينطلق من افتراض مفاده أن السوق والسلطة السياسية مجالان مستقلان عن بعضهما البعض، ليواجه تناقض الحاجات غير المحدودة للإنسان والموارد المحدودة للثروة. مقدمات الاقتصاد الحاجات: يحتاج المجتمع البشري وكل انسان على حدة الى اشباع الحاجات المتنوعة. وهذه الحاجات يمكن ان تصنف بمعايير مختلفة: وسائل البقاء، وسائل المعيشة الاجتماعية والثقافية، وسائل العمل، وسائل الترفيه والراحة. تتنامي الحاجات وتتغير نوعياً وكمياً مع تطور المجتمع، حيث تختفي حاجات قديمة وتبرز حاجات جديدة وهو ما يعبر عنه قانون ارتقاء الحاجات.
الموارد: هي الامكانيات المتوفرة لدى المجتمع لإنتاج الخيرات واشباع الحاجات. والموارد متنوعة ويمكن تصنيفها كما يلي: موارد طبيعية، مواد مراكمة بواسطة الأجيال المتعاقبة من نشاطها الإنتاجي والاستهلاكي، موارد بشرية، موارد مالية. قاعدة الاقتصاد الإنتاج، أي خلق المنتوجات، يشكل نقطة الانطلاق والمؤشر الأول للنشاط الاقتصادي للبشر. ففي سياق الانتاج والنشاط العملي يتم تكييف الموارد الطبيعية وتحويلها الى منتوجات تشبع الحاجات البشرية. والخيرات ليس ما ينتج فقط بل هي كل شيء مادي وغير مادي قادر في نهاية المطاف على اشباع حاجات معينة للمستهلكين أو يستخدم لأهداف محددة من قبل المنتجين. الخيرات في اقتصاد السوق تبرز على شكل سلع وخدمات. من هنا فالموارد هي مدخل، وعملية الانتاج هي الحلقة المركزية أي عملية استخدام الموارد، اما الاستهلاك الفردي فهو مخرج مباشر، وعملية إعادة انتاج الموارد هي الصلة العكسية في الاقتصاد. الاقتصاد إذن هو وحدة الانتاج والاستهلاك والتبادل والتوزيع. مفاهيم أساسية في الاقتصاد السياسي الإنتاج: وحدة العمل ورأس المال لخلق شئ محدد معلوم يمكن استعماله أو استغلاله ويلبي حوجة اجتماعية. دراسة كيفيات وعلاقات الإنتاج هم أساس للاقتصاد السياسي على أصل أن الإنتاج محدود بمحدودية الموارد، والموارد المحدودة هي مجال النشاط السياسي بامتياز وذلك بغرض السيطرة عليها. الإنتاج هو النشاط القاعدي لأي اقتصاد، أما العمل فهو وقود الإنتاج، وما يتوفر من العمل يمثل عنق زجاجة أي اقتصاد. العمل ليس فقط زمن العمل المجرد بل الإنسان العامل في وجوده الاقتصادي والاجتماعي. المعادلة الأولى للاقتصاد السياسي ناتج هذه التحليلات (آدم سميث): رأس المال (العمل) - الاستثمار - الاستهلاك = الفائض/العجز الاقتصادي رأس المال هو مطلوب إنتاجية العمل، والاستثمار هو المقدار الذي يصرف على تنمية مخزون من رأس المال، والاستهلاك هو استعمال المنتوجات. الدولة التي تنتج فائضاً يمكن أن تستغل الفائض لشراء رأس المال أو المقتنيات، أو تزيد من الاستثمار أو الاستهلاك. أما الدولة التي يزيد فيها مجموع الاستثمار والاستهلاك على رأس المال (العمل) فتحقق عجزاً وعليها إذن إما بيع المقتنيات أو الاستدانة لسد هذا العجز. دراسة الإنتاج إذن هي درسة العلاقة المتبادلة بين رأس المال والعمل. رأس المال: يقصد به كل وسيلة تزيد من قدرة العمل على تحويل المادة إلى منفعة. رأس المال المادي يشير إلى كل المحسوسات التي حين توظيفها تسمح بإنتاج أوفر. رأس المال الذهني مقصود به المفاهيم والأفكار والتصميمات والنظريات والمعلومات التي تعين الفرد والمجموع على العمل بفعالية وكفاءة أكبر. لاستغلال رأس المال المادي المتوفر لا بد من رأس مال ذهني مكافئ وملائم. رأس المال البشري يشمل الاستعداد للعمل ويشير إلى التعليم والأعراف الاجتماعية والبنية الأخلاقية وشبكات العلاقات الاجتماعية والإتصال والصحة والرفاه العام. السلاح أيضاً هو رأس مال بما هو أداة الدول للاستيلاء على موارد وأسواق جديدة. النقل والاتصال: يلزم وصول العمل والموارد إلى رأس المال، وكذلك يلزم وصول السلع إلى مواقع التبادل والاستهلاك. من هنا تنشأ الحوجة لنقل البشر والأشياء والمعلومات: شبكات النقل لترحيل الموارد والعمل إلى دائرة رأس المال، وشبكات الاتصال لتنسيق وضبط الإنتاج. التبادل: المقصود التبادل بين منتجي السلع والمستثمرين من جهة، ومستهلكي السلع من جهة أخرى. في شبكة الإنتاج كل منتج هو مستهلك في ذات الوقت، وكذلك كل مستهلك هو منتج. السوق هو مجال وآلية التبادل والنقد هو وسيط التبادل، والبنية التحتية للتبادل هي التي تحدد مدى إمكانيات السوق. عليه تشكل دراسة ديناميات النقد والسياسة النقدية محور أساس من محاور الاقتصاد السياسي. الاستهلاك: تحقيق استخدام المنتجات، إما السلع أو الخدمات، والذي يتأتى عنه تحول السلعة إلى حالة غير قابلة للاستخدام.
التخلص من النفايات: هذا مجال مستحدث للاقتصاد السياسي. الناس ينتجون نفايات تبعاً لاستهلاكهم المنتوجات أو استغلالهم الموارد. هذه النفايات في حال تراكمها تؤدي إلى الأمراض والإضرار بالبيئة الكلية. توفير البنية التحتية للتخلص من هذه النفايات أو تحييد آثارها السالبة يشكل جزءاً مقدراً من تاريخ التطور الحضري. وقد نشأت أنظمة الصرف الصحي وجمع وتدوير القمامة وإعادة تدويرها استجابة لهذه الحوجة. هذه الأنشطة تشكل موضوعاً شاغلاً للجهد السياسي على المستوى المحلي وتتجاوز ذلك إلى المستوى القومي والعالمي. تركز اقتصاديات الحفاظ على البيئة (green economics) على قدرة النظام الإكولوجي تحمل هذه التبعات وآثار النشاط البشري على البيئة، على سبيل المثال: الاحتباس الحراري، تعرية التربة، نوعية المياه، الوبائيات وتلوث البيئة. علوم متداخلة والاقتصاد السياسي الاجتماع: بما هو دراسة أثر الاشتغال الاجتماعي على الأفراد والمجموعات كأعضاء في كيان اجتماعي وقدرة الأفراد والمجموعات على أداء الوظائف الاجتماعية المناطة بهم. الأنثربولوجي: من باب دراسة أثر الاقتصاد الرأسمالي العالمي على الثقافات وأساليب المعيشة المحلية. علم النفس: من باب دراسة طرائق إتخاذ القرار الفردي وخيارات الاستهلاك وعلاقة حراك الأسعار بالتصورات الفردية عن مخاطر ومهددات النشاط الاقتصادي. التاريخ: بما هو تسجيل وتحليل للتغيير على مدار الزمن. عادة ما يكون للأعمال التاريخية هيكل من الاقتصاد السياسي يؤخذ باعتباره قاعدة بناء الحكاية التاريخية. الاقتصاد: بما هو دراسة الأسعار والنقد وآثار الندرة والوفرة. من وجهة نظر الاقتصاد السياسي يعتبر الاقتصاد فرع من دراسة كلية ويستند الاقتصاد على قاعدة نظرية من الاقتصاد السياسي يجب تعريتها واستكشافها. القانون: من حيث هو تقنين للسياسات أو توسط لتحقيق أهداف كلية عبر أفعال سياسية ذات نتائج محددة. في اعتبار الاقتصاد السياسي يشكل القانون رأس مال سياسي وبنية اجتماعية فوقية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعتبر نتاجاً للاجتماع البشري المعين. الجغرافية البشرية: إذ تختص بدراسة العمليات الاقتصادية والسياسية بالتشديد على أبعادها المكانية والبيئية. علوم البيئة: لجهة أن النشاط البشري له أثر عميق وحاسم على البيئة، ولأن ملائمة البيئة للحياة البشرية تعتبر قضية شاغلة لكل إنسان. تفرع من الدراسات الإيكولوجية للنشاط البشري محور من الأبحاث التي تضع الافتراضات الحسابية الأساسية والمحفزات الخاصة بالاقتصاد الرأسمالي محل شك وتساؤل. ماركس: نقد الاقتصاد السياسي بعدما توصل ماركس إلى حقيقة أن النظام الاقتصادي يشكل الأساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي السياسي، أعار انتباهه أكثر ما أعاره لدراسة هذا النظام الاقتصادي. مؤلف ماركس الرئيسي "رأس المال" مكرّس لدراسة النظام الاقتصادي القائم حينها في انجلترا القرن التاسع عشر كونها أكثر البلدان الرأسمالية الصناعية تقدماً. من هذه الزاوية يعتبر عمل ماركس الرئيسي "دراسة حالة" تستند على مفهوم ماركس المادي للتاريخ بتطبيق ديالكتيكي. تطور الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ما قبل ماركس في انجلترا، على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو حيث توصلا إلى نظرية العمل للقيمة. في إتفاق مع تصوراته التاريخية طور ماركس نظرية العمل للقيمة جاعلاً أياها وسيلة لتحليل اقتصادي اجتماعي للاقتصاد الرأسمالي غرضه التغيير وليس الشرح. بين ماركس أن قيمة أي سلعة مأخوذة من وقت العمل الضروري إجمالا لإنتاج هذه البضاعة. حيث كان الاقتصاديون البرجوازيون يرون علاقات بين الأشياء (مبادلة بضاعة ببضاعة أخرى)، اكتشف ماركس علاقات بين الناس المنفردين. ظهور المال(النقد) كوسيط للتبادل أدى إلى أن تزداد هذه الصلة وثوقاً، جامعة في كل واحد لا يتجزأ حياة كل المنتجين المنفردين الاقتصادية في شبكة للاعتماد المتبادل هي السوق. نشوء الرأسمال يعتبر استمراراً وتطوراً لهذه الصلة الرابطة. تحت شروط الإنتاج الرأسمالي تغدو قوة عمل الإنسان ذاتها سلعة، فالأجير يبيع قوة عمله لمالك الأرض أو المصنع أو أدوات الإنتاج. العامل يستخدم قسماً من يوم العمل لتغطية نفقات إعالته و إعالة أسرته (الأجر)؛ ويستخدم القسم الآخر للشغل مجانا خالقا للرأسمالي فائض القيمة، التي هي مصدر الربح أي مصدر إثراء الطبقة الرأسمالية. هذا ما تفرضه علاقات الإنتاج الرأسمالية ليس بقسر نفسها لكن في تناقض مع تطور قوى الإنتاج وبفرض علاقات السلطة داخل المجتمع الرأسمالي. فائض القيمة تشكل مقولة فائض القيمة حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية. بحسب ماركس لا يمكن تفسير نشوء فائض القيمة وبالتالي تحول النقد إلى رأس مال بالرجوع إلى النقد ذاته أو إلى عملية التبادل السلعي. النقد ليس إلا وسيط للشراء والدفع لا يفعل أكثر من أن يحقق سعر السلعة المعنية في هيئة نقدية. أما خلال عملية التبادل فليس للبائع ميزة تعطيه القدرة على بيع سلعته بأكثر من قيمتها. البائع إما منتج السلعة أو ممثل منتجها، والمشتري كذلك منتج السلعة التي يمكن أن يشتريها بنقوده. عليه لا يمكن أن ينشأ فائض جراء تبادل اشياء متساوية القيمة. إذن على صاحب المال – الذي هو رأسمالي جنيني - أن يشتري سلعاً بذات قيمتها ويبيعها بذات قيمتها، وفي آن واحد أن يحصد آخر الأمر فائضاً خلال عملية التبادل. التغيير في القيمة لا بد حادث في السلعة ذاتها، أي قيمة استعمالها (use value) أو استهلاكها. حتى يمكن استخلاص قيمة من استهلاك سلعة ما لا بد من توفر سلعة ما في السوق تحمل قيمة استعمالها خاصية أنها مصدر للقيمة، أي عمل يخلق قيمة. هذه السلعة هي القدرة على العمل أو قوة العمل. قوة العمل تعني مجموع القدرات العقلية والجسدية التي توجد في كائن بشري والتي يمكن عند استغلالها نشوء قيمة استعمال بأي صفة كانت. حتى تظهر قوة العمل كسلعة في السوق لا بد من تحقق شرطين إثنين: 1- حرية الفرد العامل في بيع سلعته التي هي قوة العمل. الفرد يبيع سلعته هذه لأجل محدد وإلا يكون قد باع نفسه وتحول إلى سلعة بدلاً عن كونه صاحب سلعة. 2- حوجة الفرد إلى بيع قوة عمله ذاتها وليس السلع التي فيها تتواجد قوة عمله بشكل مدمج. إذن يتحول النقد إلى رأس مال عندما يلتقي صاحب المال العامل الحر في السوق. حرية العامل هنا ذات معنى مزدزج فهو حر في التصرف في قوة عمله كسلعة تخصه، وهو حر من غيرها - أي لا يملك سوى قوة العمل سلعة يبيعها لأنه مجرد من لوازم تحقيق قوة عمله. بالطبع لا تنشئ الطبيعة من جهة أناس يملكون السلع والنقود، ومن جهة أخرى أناس لا يملكون سوى قوة عملهم. هذه العلاقة ليس ذات أصل طبيعي إنما هي نتاج تطور اجتماعي تاريخي، ثورات اقتصادية، وانقراض سلسلة كاملة سابقة من أنماط الإنتاج الاجتماعي الأقدم. إن قيمة قوة العمل تتحدد كأي سلعة أخرى بوقت العمل اللازم لإنتاجها. بما هي حاملة قيمة فهي تمثل كمية محدودة من متوسط العمل الاجتماعي المدغم فيها. بما أن قوة العمل توجد كقدرة في الفرد الحي، فوجودها يفترض إنتاج وإعادة إنتاج هذا الفرد. معتبرين الفرد فإن قوة عمله كائنة في إعادة إنتاج نفسه أي في بقائه حياً. لتحقيق ذلك يحتاج الفرد إلى كمية معينة من وسائل البقاء. عليه يكون الوقت اللازم لإنتاج قوة العمل هو الوقت اللازم لإنتاج وسائل البقاء هذه. بمعنى آخر تكون قيمة قوة العمل هي قيمة وسائل البقاء الضرورية للحفاظ على العامل حياً. وسائل البقاء هذه لا بد أن تكون كافية للحفاظ عليه على حالته المعتادة كشخص عامل. تتحدد الحوجات الرئيسية للعامل بحسب المرحلة التاريخية المعينة والشروط المناخية لكل بلد، وبحسب مستوى الرفاه الذي نشأت فيه طبقة العمال الأحرار. بخلاف السلع الأخرى تتدخل عوامل أخلاقية وحضارية اجتماعية تاريخية في تحديد قيمة استعمال قوة العمل. تشمل قيمة قوة العمل كسلعة كلفة بقاء أطفال العامل بما هم استمرار هذه الطبقة الاجتماعية المناط بيها بيع العمل، وكذلك كلفة التعليم والتدريب الضروري لأداء كل عمل على حده. عندما يدفع صاحب المال كلفة يوم من قوة العمل فهو يستحوذ على استغلال هذه القوة لمدة يوم، أي قيمة استعمالها، وهنا منشأ فائض القيمة: العامل يبيع قوة عمله لينال قيمتها التبادلية في شكل الأجر ويفارق قيمة استعمالها. قوة العمل هذه خلال يوم تؤدي لخلق ضعف قيمتها التبادلية في شكل إنتاج، أي يخلق العامل من القيمة خلال يومه أكثر مما تلقى سعراً لقوة عمله. هذا مكمن خصوصية العمل كسلعة، بخلاف السلع الأخرى، فهي باستهلاكها تقود إلى نشوء قيمة تفوق قيمة تبادلها. لم يصطنع رأس المال فائض العمل، حيثما احتكرت فئة اجتماعية وسائل الإنتاج كان لزاماً على العامل حراً أو عبداً أن يضيف إلى وقت العمل اللازم لبقائه وقتاً إضافياً لإنتاج أسباب البقاء لصالح مالك وسائل الإنتاج. لكن الشاهد أنه متى ما سادت قيمة استعمال المنتجات (نفعها) على قيمة تبادلها فإن فائض العمل يظل محدوداً بحوجات معطاة تزيد أو تنقص بحيث لا يكون الشره غير المحدود لفائض العمل خاصية نابعة من ذات طبيعة الإنتاج. القياس أنه في أطوار الإنتاج قبل الرأسمالية ظل فائض العمل مستقلاً عن صلب العمل اللازم للبقاء، مثلاً يعمل الفلاح القن في أرضه لضمان معيشته وفي أرض الإقطاعي لإنتاج الفائض. أما في الطور الرأسمالي فهذين المجالين في تداخل واندماج لا فواصل بينهما، فمتى أدى العامل نشاطاً منتجاً كان قدر منه لصالح الرأسمالي بالمجان. إن الرأسمال الذي يخلقه عمل العامل ينيخ بثـقله على العامل، يخرب صغار أرباب العمل، و ينشئ بالضرورة جيشاً من العاطلين عن العمل. انتصار الإنتاج الضخم في الصناعة أمر ظاهر من نظرة أولى؛ ولكننا لنلاحظ ظاهرة مماثلة في الزراعة أيضا: إن تفوق الاستثمار الزراعي الرأسمالي الضخم واستخدام الآلات يزدادان، والاستثمارات الفلاحية تقع في ربقة الرأسمالي النقدي وتنحط ويحل بها الخراب تحت وطأة تاخرها عن التقنية العالية. إن أشكال هذا الانحطاط في الإنتاج الصغير تختلف في الزراعة عنها في الصناعة، ولكن الانحطاط نفسه واقع لا جدال فيه. إن الإنتاج الرأسمالي، إذ يغلب على الإنتاج الصغير، يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمل والى خلق وضع احتكاري في صالح الرأسماليين الكبار. لكن التناقض أن الإنتاج الرأسمالي هو إنتاج اجتماعي بامتياز. مئات الآلاف والملايين من العمال يتم جمعهم في هيئات اقتصادية متناسقة، بينما قبضة من الرأسماليين تستملك نتاج العمل المشترك. لذا تشتد فوضى الإنتاج، والأزمات والركض المجنون وراء الأسواق، وعدم ضمان العيش لسواد السكان. إن النظام الرأسمالي يزيد من تبعية العمال إزاء الرأسمال ويخلق في الوقت نفسه قدرة العمل الموحد الكبيرة. إن الظروف الأكثر ملاءمة للطبقة العاملة أي نمو الرأسمال بأسرع ما يمكن لا تقضي على التناقض بين مصالح العمال والرأسماليين. مهما كان التحسين الذي يُدخله نمو الرأسمال الإنتاجي في حياة العامل المادية فالربح و الأجر هما، من بعد كما من قبل، في علاقة متناسبة عكسياً: حين ينمو الرأسمال بسرعة فإن الأجرة قد تنمو، ولكن ربح الرأسمالي ينمو بما لا يقاس من السرعة. إن حياة العامل المادية تتحسن، و لكن على حساب وضعه الاجتماعي. فالهوة الاجتماعية التي تفصله عن الرأسمالي لا تنفك تزداد اتساعاً، وتبعاً لذلك قدرته على المشاركة في إتخاذ القرار حتى في الديموقراطيات المستقرة. مثلاً استطاع توني بلير أن يخوض حرباً على العراق بإزاء معارضة شعبية عارمة، وكذلك الحال غرب الأطلسي، حيث تستمر سياسات واشنطن الحربية برغم ثقل المعارضة الشعبية لها. عالمية الإنتاج الرأسمالي مستنداً على تحليله للرأسمالية كما خبرها وصل ماركس إلى جملة استنتاجات أثبت التطور اللاحق سلامتها التامة: البرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. هذا الانقلاب المتواصل في الإنتاج، و هذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات و أفكار قديمة موقّرة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، و التقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدّس يدنّس. الناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة. حاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها أن تُعشعش في كل مكان، وأن تنغرز في كل مكان، وأن تقيم علاقات في كل مكان. البرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج و الإستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، و انتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. الصناعات القومية الهرمة دُمّرت وتدمَّـر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. مكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والانعزال القديم تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. ما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. البرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفاً إلى حضارتها. الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وتُرغم البرابرة الأكثر حقداً وتعنتاً تجاه الأجانب على الإستسلام، وتجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبّل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. بكلمة، هي تخلق عالماً على صورتها. تناقض العمل ورأس المال في الاعتبار الماركسي الإنتاج الرأسمالي محدود بتناقض علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج وهنا مكمن ثورية اقتصاد ماركس السياسي. عند صاحب رأس المال ما يميّز الشيوعية، ليس القضاء على الملكية بشكل عام، بل إلغاء الملكية البرجوازية بما هي آخر تعبير و أكمله عن الإنتاج و تملّك المنتجات القائم على التناحرات الطبقية، و على استغلال البعض للبعض الآخر. الملكية، في شكلها الحاليّ، تتحرك في التناقض بين رأس المال و العمل المأجور. إنّ كون المرء رأسماليا لا يعني أنه يشغل مركزا شخصيا فحسب بل يشغل أيضا مركزا مجتمعيا في الإنتاج. رأس المال هو نتاج جماعي، لا يمكن تحريكه إلا بنشاط مشترك لأعضاء كثيرين، بل إنه، في التحليل الأخير، لا يُحرَّك إلاّ بالنشاط المشترك لجميع أعضاء المجتمع. رأس المال إذن ليس فاعليّة شخصية، بل فاعليّة مجتمعية. أما العمل المأجور فثمنه المتوسط هو الحدّ الأدنى لأجر العمل، أي جملة وسائل العيش الضرورية لبقاء العامل كعامل على قيد الحياة. الملكية الخاصة، في ظل الإنتاج الرأسمالي، مُلغاة بالنسبة إلى تسعة أعشار أعضائه. إنّها في الحق موجودة لأنها غير موجودة بالنسبة إلى الأعشار التسعة. تباعد الشقة بين من يملكون ومن لا يملكون، والتناقض الكامن بين العمل ورأس المال، وإجحاف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بجانب تدمير الإنتاج الرأسمالي للبيئة الطبيعية بدافع الربح، كلها قضايا ما تزال حية وحاضرة، لم تزُل لأن الإتحاد السوفييتي سقط صريعاً، أو لأن الامبريالية بات إسمها العولمة. في العام 1998 كان أغنى 10% من سكان الولايات المتحدة يمتلكون أكثر من 85% من الأصول والاعتمادات المالية، و84% من الضمانات النقدية، و91% من الودائع البنكية، و92% من الأسهم في القطاع الخاص. على صعيد العالم يملك أقل من 500 فرد أكثر من مجموع الدخل لما يزيد على نصف سكان الأرض. تقدر منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة أن واحد من كل ثمانية أفراد حول العالم، ما يساوي 840 مليون شخص، لا يجد الحد القياسي لسد الرمق في اليوم؛ وأن 2 بليون فرد (واحد من كل ثلاثة) يعانون من الأنيميا (فقر الدم)، بينما ينتج العالم ما يكفي من الغذاء لحصول كل ساكن له على 2800 من السعرات الحرارية في اليوم، أي ما يفوق بنسبة 20% الحد الأدنى القياسي الذي وضعته المنظمة. بالإضافة إلى ذلك تستطيع الأرض الصالحة للزراعة في عالمنا، حال تم استغلالها بصورة منطقية، توفير ما يكفي لإطعام أكثر من 40 بليون شخص، أي ستة أضعاف عدد سكان الكوكب في الوقت الحالي. بحسب مكتب الإحصاء المركزي الأميركي يعتبر واحد من كل عشرة بيوت في الولايات المتحدة غير آمن غذائياً، أي ما يقارب 33 مليون فرد. في نفس الوقت كانت كلفة المجهود الحربي الأميركي في 2003 تزيد على 400 بليون دولار، أي أكثر من خمسة أضعاف مبلغ 80 بليون دولار في العام اللازم لسد النقص في الغذاء، والسكن، والماء الصالح للشرب، والتعليم الأولي، والرعاية الصحية الأولية حول العالم وذلك بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. على مستوى آخر تقدر "الرابطة الأميريكية لتقدم العلوم" أن 78% من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يعيشون في بلاد تنتج ما يكفي لإطعام سكانها. في بنغلاديش مثلاً، وهي بلد ارتبط اسمها بالجوع منذ أزمة الغذاء في السبعينات، تقول الإحصاءات أن المحصول السنوي للأرز يكفي لتوفير رطل لكل فرد يومياً، أي 2000 سعر حراري من الأرز فقط، لكن في الواقع لا يستطيع الثلث الأفقر من السكان الحصول على أكثر من 1500 سعر حراري يومياً بسبب فقرهم. سيطرة الرأسمالية على حد قول ماركس "بزغ فجرها الدموي باكتشاف الذهب والفضة في أميركا، واقتلاع واستعباد ثم قبر السكان المحليين، ونهب الهند الشرقية واخضاعها، وتحويل افريقيا إلى مطردة لصيد ذوي البشرة السوداء تجارياً (..) إن النفاق الفج والبربرية الكامنة في الحضارة البرجوازية قد انكشفت أمام أعيننا، في الديار تأخذ اشكالاً أكثر تهذيباً، لكنها تبدي سوءتها عارية في المستعمرات". لينين: الامبريالية أعلى مراتب الرأسمالية: من ناحية اقتصادية يعرف لينين الامبريالية بأنها مرحلة الاحتكارات الكبرى حيث تزيح الاحتكارات التنافس الرأسمالي الحر، وخواصها الأساسية: تركيز الإنتاج ورأس المال لدرجة نشوء الاحتكارات التي تلعب دوراً حاسماً في الاقتصاد؛ اندماج رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي لتكوين أوليغاركية مالية؛ تصدير رأس المال في محل التصدير السلعي؛ تكوين هيئات احتكارية رأسمالية كونية تتقاسم العالم بينها؛ اكتمال التقسيم المناطقي للعالم بين القوى الرأسمالية الكبرى. ركز لينين بحثه على تصدير رأس المال معتبراً إياه العملية التي بها تتحول الدول الرأسمالية إلى أجسام طفيلية متخمة تعيش على استغلال البلدان المستعمرة والمستضعفة. كما ميّز بين أربعة أبواب للاحتكار الرأسمالي نشأت عنها الامبريالية: أعلى درجات تركيز الإنتاج أي نشوء الكارتيلات؛ الاستيلاء على أهم مصادر المواد الخام بالنسبة للصناعات الرأسمالية؛ تطور القطاع المصرفي حتى مرحلة الاحتكارات المالية البنكية؛ السياسة الاستعمارية أي الصراع من أجل مصادر المواد الخام ومناطق النفوذ (الإعفاءات، العقودات المربحة) وتصدير رأس المال. معتمداً على تحليله للامبراطورية البريطانية وهي في طور غروبها خلص لينين إلى التعميم الآتي: الرأسمالية تشهد طورها الأقصى والأخير أي الامبريالية، وحسب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية الكامنة فيها فإن هذه المرحلة تمثل قنطرة انتقالية وتخلقاً نوعياً يفضي إلى نظام اجتماعي اقتصادي أعلى - أي وبين قوسين (الاشتراكية). الامبريالية ما بعد لينين و الإنتاج المعلوماتي حلزون التاريخ جاء بما لم يتوقعه لينين. تجاوز الاقتصاد الرأسمالي أزمته الثالثة بحرب عالمية (ثانية) تم بموجبها ترتيب العالم والقوى الفاعلة فيه وفق قواعد جديدة. من رحم هذه الأزمة خرجت الموجة الثانية من الثورة الصناعية على أساس من فتوحات ومنجزات علمية تكنولوجية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حيث لم يعد البحث العلمي مسألة فردية يعود الفضل فيه إلى نابغين أفذاذ بل عملية مؤسسية تتحكم فيها هيئات مرموقة ومنظمة ذات ميزانيات ضخمة ترتبط بالرأسمال والانتاج الصناعي من ناحية، وبالدولة وسلطتها من ناحية أخرى. من درس الركود العظيم في ثلاثينات القرن العشرين أصبح واضحاً أن "السوق الحر" متروكاً دون تدخل إيجابي من سلطة الدول يتعرض حتماً للانتكاسات والمطبات الناجمة عن الاحتكارات الامبريالية، وبالتالي لا مناص من إحكام العلاقة بين الرأسمالية والسلطة السياسية لضمان إنقاذ الموقف متى ما كان ذلك ضرورياً، بإجراءات حمائية أو جمركية أو ضرائبية أو بالتمويل المباشر، ما يعارض بداهة إدعاءات الليبرالية الاقتصادية. هكذا نشأ الهيكل الاقتصادي لما بعد الحرب الثانية – أي نظام "بريتون وودز" – صندوق النقد والبنك الدوليين. تصديقاً لتحليل لينين بحتمية تفسخ الامبريالية البريطانية غادرت بريطانيا مقعد الامبراطور الكوني مرغمة واهنة وبنهاية الحرب العالمية الثانية كان هناك الإتحاد السوفييتي نعم، لكن كذلك الامبراطورية الأميريكية يافعة كاسرة، حيث لم تذهب الرأسمالية إلى الجحيم بل أنجبت أمة مؤمنة بربها وبمالها أعادت بناء أوروبا الأم في سنوات قلائل بمشروع مارشال. فيما يخص استئناس الطبقة العاملة في المراكز الامبريالية، تطور ما أسماه لينين رشوة قطاعات من الحركة العمالية وما وصفه انجلز بالتغيّر البرجوازي في طبيعة البروليتاريا الانجليزية إلى منهج اقتصادي متكامل، حيث تعلمت الرأسمالية من تجربة الثورة الروسية والثورة الألمانية وكذلك من صعود النازية على خلفية ركود العشرينات والثلاثينات أنه لا يمكن الحفاظ على تماسك العقد والسلام الاجتماعيين داخل المراكز الامبريالية دون إعادة توزيع منافع الرأسمالية بصورة تضمن نزع فتيل ثوريتها! تكامل هذا الغرض السياسي مع نظرية كينز (Keynes) الاقتصادية، التي أصبحت الرافد النظري لدولة الرفاه الاجتماعي. برفع مستوى معيشة الطبقات العاملة وزيادة الطاقة الشرائية لأفرادها حققت الرأسمالية أولاً الاستقرار الاجتماعي والاستئناس السياسي وثانياً مستوى عال من الاستهلاك يوازي القدرات الانتاجية المتزايدة للرأسمالية الصناعية والناتجة عن قفزات التكنولوجيا المتسارعة. لكن تأتي رياح الديالكتيك بما لا تشتهي السفن، إذ أن التطور التكنولوجي الهائل والمصاحب للنمو الرأسمالي تولد عنه نمط من الإنتاج "المعلوماتي" يفارق بوضوح نمط الإنتاج الصناعي ما قبل الحرب العالمية الثانية، من حيث اعتماده الأساسي على الآلة والمعلومة بدلاً عن العامل. النتيجة كانت أزمة مكبوتة للرأسمالية مظهرها البادي العطالة، رغم التوسع العظيم في قطاع الخدمات والذي اقترن بنشوء دولة الرفاه الاجتماعي، بمعنى أن منطق الرأسمالية الهادف إلى إحراز أفضل النتائج بأقل الجهد يؤدي إلى البطالة وبهذا لا يتسق مع "مجتمع العمل" الذي أفرزته الثورة الصناعية الحديثة وحافظت عليه دولة الرفاه. مصدر ثروة الدولة الاجتماعية القديمة كان العمل الذي تتم مقايضته بالمال، لكن التقدم التكنولوجي جعل العمل سلعة فائضة وغير ضرورية بحيث أصبح التخلص منه – أي من العمالة – باباً واسعاً للربح. خرجت من الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة من التطور الرأسمالي تشغل فيها الخدمات والمعلومات موقع القلب وليس بالضرورة مصدر الفائض الإنتاجي المباشر. من وجهة نظر إحصائية يمكن القول أن تغييرات عظيمة قد طرأت على هيكل الاقتصاد الرأسمالي في مراكزه المتقدمة، وعلى توزيع العمالة بين القطاعين التقليديين الزراعي والصناعي والقطاع الجديد الخدمي المعلوماتي، لكن ذلك ليس مربط الفرس إذ أن التغيير في طبيعته تغيير كيفي وله سوابق في صيرورة الرأسمالية. عندما أخضعت الزراعة للإنتاج الصناعي لم يؤدي ذلك إلى اندثار الزراعة بل تم "تصنيع" الزراعة إذا جاز التعبير وأصبحت تحت رحمة الضغوط الاجتماعية والتمويلية للصناعة، بحيث تولدت "زراعة" حديثة اندغمت في هيكل الإنتاج الصناعي. البيّنة الإحصائية المحضة تفشل كذلك في إدراك التراتبيات الاقليمية وعلاقات القوة في هيكل الاقتصاد العالمي مما يقود إلى كثير من الخلط وسوء الفهم، مثلاً قد يقود الإحصاء إلى اعتبار وجود تماثل بين اقتصاد في القرن العشرين يعتمد في جله على الزراعة والتعدين كاقتصاد نيجيريا أو الهند واقتصاد فرنسا أو انجلترا في حقبة تاريخية سابقة، بينما الفرق أنه في الماضي كانت الزراعة تشغل موقع الغلبة في هيكل الاقتصاد العالمي وفي القرن العشرين الزراعة خاضعة كلياً لعلاقات التصنيع، إن وجهة النظر الإحصائية في هذه الحالة تعتبر المجتمعات كافة في تتابع خطي كاذب. لتصحيح هذا الخطأ لا بد من تمحيص علاقات القوة والهيمنة الحاكمة للمجال الاقتصادي في النظام العالمي. أخذ خطاب التنمية الذي فرضته الهيمنة الاميريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية بهذا المنطق الاحصائي معتبراً التاريخ الاقتصادي لكل البلدان في سير خطي يقود من التخلف إلى التقدم على منهج واحد حسب سرعة كل مجتمع بحيث أن البلدان التي لا تتمتع اليوم بمستوى الإنتاج الاقتصادي للبلدان المتقدمة تعتبر بلدان "نامية"، لكنها إذا اتبعت نفس الدرب الذي سلكته البلدان المتقدمة وأعادت تطبيق نفس السياسات والاستراتيجيات ستصل إلى درجة مماثلة من التطور. يغيب عن البصيرة في هذا التصور النموذجي أن البلدان المتقدمة ليست كذلك فقط بفضل خواصها النوعية أو بفضل هياكلها الداخلية لكن ولحد كبير بفضل موقعها الغالب في النظام العالمي. إن العَرَض الأساسي للرأسمالية المعلوماتية في المركز هو هجرة الوظائف من القطاع الصناعي إلى قطاع الخدمات والمعلومات، وهو قطاع يتوسع يومياً: الصحة، التعليم، الاتصالات، الترفيه والإعلان، تحقق هذا الانتقال فعلاً من الطور الصناعي إلى الطور المعلوماتي في المراكز الامبريالية كالولايات المتحدة، لكن ذلك لا يعني بأية حال اندثار الإنتاج الصناعي أو تناقص أهميته، فكما تحولت الزراعة في مرحلة سابقة إلى زراعة "صناعية" يخضع الإنتاج الصناعي بالتدريج للشروط الغالبة للقطاع الجديد، تحت شعار "إجعلوا من الصناعة خدمة". حقيقة أن تحولاً معلوماتياً قد حدث في البنى الاقتصادية للبلدان المتقدمة، بحيث تم تهجير الصناعات إلى بلدان في مرتبة أدني - من الولايات المتحدة واليابان مثلاً إلى المكسيك وماليزيا -، ليست حجة للنموذج الرأسمالي الخطي في التنمية، إذ أن المصنع الذي يتم بناءه اليوم في المكسيك لا يمكن مقارنته بمصنع مشابه تم بناءه في ثلاثينات القرن العشرين في الولايات المتحدة لا من حيث التكنولوجيا ولا علاقات الإنتاج، فالرأسمال الثابت يتم تصديره في أقصى درجات تطوره التكنولوجي والإنتاجي. الواقع أن مصنع الثلاثينات الأميركي كان في موقع هيمنة اقتصادية بينما مصنع اليوم في المكسيك أو الهند ليس كذلك بل يخضع لإنتاج الخدمات عالي القيمة، عليه ليست الاختلافات الجغرافية في الاقتصاد العالمي بدليل على وجود مراحل مختلفة من التنمية بقدر ما هي نتاج لعلاقات الهيمنة في التراتبية الاقتصادية الدولية. من ثم أصبح واضحاً أن "التحديث" على النمط الرأسمالي ليس مفتاح التنمية والتقدم الاقتصادي تحت شروط المنافسة الحالية، إذ تجد أقاليم مضطهدة كافريقيا نفسها مستبعدة من سيل الاستثمارات والتكنولوجيا الجديدة، بينما أصبحت المنافسة على المواقع الوسيطة في التراتب العالمي معتمدة في الأساس على الانقلاب المعلوماتي في الإنتاج وليس التصنيع فقط. بالتالي يلاحظ في اقتصادات بلدان كالهند والبرازيل تعايش كافة مستويات الإنتاج: إنتاج الخدمات القائم على المعلوماتية، إنتاج السلع الصناعي الحديث، الأعمال الحرفية التقليدية، الزراعة والتعدين، كل هذه الأنماط تتواجد مختلطة تحت هيمنة إنتاج الخدمات المعلوماتي.
المصادر: كارل ماركس، رأس المال (1867) لينين: مصادر ومكونات الماركسية الثلاث (1913) كارل ماركس وفردريك انجلز، المانفستو الشيوعي (1848) لينين، الامبريالية: أقصى مراحل الرأسمالية (1916) ميشيل بو وجيل دوستالير، تاريخ الفكر الاقتصادي منذ كينز (1997) "مدخل إلى علم الاقتصاد"، منشورات تثقيفية، الحزب الشيوعي اللبناني (بدون تاريخ) مجدي الجزولي: "غربة الحق، المانفستو الشيوعي في طبعة جديدة"، الأيام، يناير 2006 مجدي الجزولي: "ملاحظات ما قبل المؤتمر، حول مصائر اليسار الجذري"، الأيام، ديسمبر 2005
#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول الاقتصاد السياسي لكرة القدم
-
أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -2
-
الأموات والقوات في دارفور: الله يجازي الكان السبب
-
أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -1
-
منبر السودان: نرجسية المثقفين وعطالة السياسيين
-
سُترة الكوليرا وفضيحتها
-
الكوليرا: شاهد شاف حاجات
-
سلام زوليك: غزرة جيش ومحقة عيش
-
سد مروي: التنمية الدموية
-
ما مِنِّي ما مِنُّو: عُزّال شماليين وجنوبيين
-
أنميس عيون كديس
-
البجا: السالمة تمرق من النار
-
كلنا في الهم بجا
-
السودان الجديد: لأهله نصيب الطير
-
السودان الجديد: الإنسان من أجل الدكان
-
أميركا اللاتينية: اليسار هَبْ نَسِيما - الأخيرة
-
أميركا اللاتينية: اليسار هَبْ نَسِيما 2
-
أميركا اللاتينية: اليسار هَبْ نَسِيما
-
السياسة الدولية في دارفور: كش ملك
-
خصخصة المثقفين: أقول الحق واتعشّى في بيتنا
المزيد.....
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|