أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل ياسين - اوجاع الوردة-الفصل الرابع















المزيد.....


اوجاع الوردة-الفصل الرابع


نبيل ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 1609 - 2006 / 7 / 12 - 09:13
المحور: الادب والفن
    


اوجاع الوردة
سيرة قصيدة .. سيرة راي

الفصل الرابع

بغداد .. سيدة نساء العالمين

جف حليب امي ولم ترضعني. فاسلمتني الى بغداد التي القمتني ثديها ورحت امص حلمته الريانة كرضيع جائع . ناغتني ودللتني وهزت مهدي الخشبي ذا اللون الازرق المفضض الذي كان عليها ان تأخذه بعد فطامي وتهديه الى مرقد السيد محمد قرب سامراء, في رحلة بطيئة مع اكوام الحاجيات المهداة اليه من نساء عاقرات يحبلن ذات يوم ، وامهات ينتظرن عودة ابن طال غيابه ، او زوج طال هجرانه ، او رزق ساقه الله بعد ظمأ وجوع . تلك الرحلة التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر من المحطة العالمية في غربي بغداد.
مااكان المتنبي على حق وهو يقول: اعز مكان في الدني سرح سابح. كان اعز مكان لنا في الدنى ,الرفوف الخشبية الطويلة المعلقة في العربات والمخصصة للحقائب . هناك كنا نتمدد طوال الرحلة البطيئة ، منتظرين بذلك الشوق الطفولي والصبياني ، محطات الطريق التي ستزودنا بصحون اللوبياء وفخاريات اللبن الخاثر المغطى بتلك الطبقة الرقيقة الصفراء من الزبد . لم يدل مشهد ما ، على ذلك التيه الرافديني الابدي ، مثلما دل عليه المشهد في المحطة الاخيرة للقطار في برية واسعة . لم تكن هناك محطة . عمود واحد يقف بين اعمدة التلغراف الممتدة على طول سكة الحديد والتي كانت تبدو كطناطل شاحبة تتقدم الى الامام بالسرعة نفسها التي يسير فيها القطار ، بينما كانت هي في واقع الامر ثابتة على الارض الحجرية . عند ذلك العمود يتوقف القطار ، وتهبط حشود الخلق : نساء بعباءات سوداء واطفال وشيوخ ورجال منحدرين في رحلة برية لثلاث كيلومترات الى ذلك المرقد الواقف وحده في البر الشاسع . هنا قتلوه ذات يوم ، وهنا دفنه العابرون ، والى هنا تأتي الحشود لتقيم طقوسها . وما من بلاد يتوزع الشهداء والقتلى الغرباء ثراها مثل هذه البلاد ، كأنها الملاذ الاخير لكل من يريد ان يسقط في الميدان.
لقد ظهرت لي بغداد في كل النساء اللواتي عرفتهن. واذا كان من عادة الامهات فطام ابنائهن ، ووضع نبات الصبر المر على حلمات اثدائهن كي يمتنع الرضيع عن الرضاعة ، فان بغداد لم تحاول فطامي الا بعد ان صار لي زوجة وطفل . ولم تضع الصبر المر على حلمتها البنية الداكنة ، الحلمة التي اشتقت اليها في كل النساء اللواتي هويت ، مثل طفل رضيع جائع لم يشبع من الاثداء، على حلماتهن الاسفنجية الشبقة المذاق
وفي نفس اللحظة التي فارقت فيها امي ، ذلك الفجر البعيد ، فارقت بغداد . ظلت امي على هيئتها تلك ، لم تستطع تحمل رحيلي . فهوت على اسمنت المدخل وتحجرت الى اليوم بثياب حدادها على ابي، وصارت تبدو منذ ذلك المشهد الفجري على هيئة تمثال لكاهنة سومرية تحيطها هالة من عتمة الفجر الشتائي الرمادي البارد . وبغداد ظلت على هيئتها تلك ، متيبسة راكعة على ضفاف دجلة الرمادية في ذلك الفجر بثياب حدادها على شعب كامل . وقد خلطت ، فيما بعد ، بين بغداد وامي وكل النساء اللواتي عرفتهن ومررن في طريق رحيلي الطويل ، الطويل ، في مدن وشوارع وحانات ومقاه ومحطات وقطارات وليال وفضاءات ضيقة واخرى واسعة لامتناهية ممتدة في زمكان ٍ فيروزيُّ وسندسيِّ اللون ، دائري ٍّمغلق . ومثل شراع هاو من اعلى الصاري ، هويت على كل جسد بحثا عن سرة تلك المدينة ، وحلمة تلك السيدة ، وبطن تلك الغانية الدافئة ، واصبحت كل صباباتي قطرات عرق تسيل على الاثداء والاعناق ، واصبح كل حلولي رعشة في الكائن الذي احتضن الوهيته الانثوية التي تنحل في انات واهنة في نهاية التكوين:
الملح في اليدين
الخبز في اليدين
والماء في العينين
جئت الى بغداد
احمل هذا الزاد
في خرجيَ المنسوج من اهداب إمرأة
( افتاحية قصيدة مرثية بغداد 1969)
دهاليز بغداد القديمة ، وبيوتها المكونة من ايوان تطل عليه شبابيك الحجرات ، في الحيدرخانة, والسنك, وجديد حسن باشا, والكريمات, والكاظمية والصالحية والشواكة, وسراديب يسوتها الباردة, قادتني إلى البحث عن عصور قدية.
كنت اسأل : هل هذا ما تبقى من بغداد ، من عصر ازدهارها العباسي كعاصمة للعالم ? كنت اشم رائحة الطابوق(الفرشي) برطوبته وعطن رائحته, فاشم رائحة تاريخ واجيال وفلاسفة ومعتزلة ومتكلمين وشعراء وخلفاء ومكتبات وحروب وتدمير . كان دجلة يدفع بضفتيه الشبيهتين بذراعين لدنتين, جانبيها وكأنه يفصل بين رئتين . وحين وضعت قدمي على طريق الصحافة في وقت مبكر ، في السادسة عشرة من عمري ، كانت محلة جديد حسن باشا ,هي شارع الصحافة في بغداد: المنار, الفجر الجديد, كل شئ, البلد, صوت لاعرب, المتفرج, الفكاهة,
وغيرها من صحف منتصف الستينات . طريق سيري الليلي ، بعد انتهاء العمل في الجريدة ، كان مرورا في السحر ، والصوفية ، ومشهد الازل السرمدي في مكان ما ، في كون آخر . شارع المتصرفية الذي ينتهي في شارع جديد حسن باشا ، الذي يلتقي بشارع المتنبي ، عتمة الاضواء ، والابواب المغلقة للمكتبات ، والورق المتطاير في ريح هادئة ، ووقع الاقدام على اسفلت الشارع ، والحيطان العالية للابنية القديمة ، والصمت الذي حل قبيل منتصف الليل كلها ملامح سحرية تلفني قبل ان ادخل الى سوق السراي الضيق والمسقف الطويل الذي عاش منذ العصر العباسي كسوق للوراقين ، وحوانيته المغلقة في الليل تنام على مخطوطات ، وكتب قديمة ، وطبعات شعبية عن
عنتر وعبلة والمياسة والمقداد وكليلة ودمنة والف ليلة وليلة والملاحم والفتن, وغيرها من كتب صعدت من طبقات بغداد القديمة لتبقى إلى جوار النهر.
في العشرينات من القرن التاسع عشر, كانت منطقة المتصرفية, او القشلة, مقر الوالي المملوكي داود باشا.
واتى حريق بغداد عليها الذي دبره العثمانيون المهاجمون فظل القصر واسطبلا ت خيل السلطان المملوكي تتلوى تحت النار ثلاثة ايام ، وسقطت القلعة ذرات من رماد ذرته الريح الى النهر الذي كان يشهد, كل بضعة اعوام, رمادا لشئ ما . وقبل ذلك كان القصر العباسي للخلافة التي انتقلت الى الرصافة في عصر الخليفة المهدي مهجورا قائما قرب مقرات سلاطين وولاة الدولة الذين نصبواطوب ابو خزامة ليكون شاهدا على اخضاع مراد الرابع لبغداد التي اغوت كل البرابرة والغزاة.كما اغوت الفلاسفة والروحانيين والمتصوفة والعلماء للرحيل اليها.
هناك من سمع الامام الشافعي يقول : ما دخلت بلدا قط الا عددته سفرا ، الا بغداد فاني حين دخلتها عددتها وطنا.
. لكن بغداد ظلت تحتفظ باسرارها التي لاتبوح بها الا لواحد مثلي من ابنائها ومحبيها ، كما يبوح جامع الآصفية ، في نهاية السوق ، بصلوات عباد متوحدين في آخر الليل ، تتسرب من بابه المفتوح الى الفجر . وبعد ثلاث خطوات او اكثر قليلا يبدأ الجسر الى اليمين منحنيا ، مثل زمان متجمد ، حنون ، على نهر دجلة المعذب بالانات والاغاني والتراديد وشجى الفقراء الجالسين على ارصفته بانتظار العابرين . كل يوم ، كل يوم ، في مثل ذلك الوقت ، اقف على الجسر ، من جانب الرصافة ،ناظرا إلى ساحة القشلة الحجرية, عاكسة ضوء مصباحها الوحيد على سطح مياه النهر, لارى الجنيات سبحن في مياه دجلة الفضية المعتمة, على حواشي بغداد طالعات من الف ليلة وليلة ، عائدات عند الفجر ، الى حجراتهن تحت قصر الخليفة ، مختطفات من الفجر ، شذى الرازقي, وندى الجوري,
وعبق الطلع في نخيل بساتين بغداد في الرصافة والكرخ والكاظمية . من على الجسر ، تلوح العطيفية عند منعطف النهر في جهة الكرخ ، حيث دوّر المنصور مدينة بغداد هناك ، ممتدة الى الجعيفر الذي يضم رفات بغداد الزوراء التي زوّر المنصور اسوارها لتمتنع عن الغزاة.
قال رباح البناء وكان ممن تولى بناء سور بغداد : ان بين كل باب من ابواب المدينة الى الباب الآخر ميل . وفي كل ساف من اسواف المدينة مائة الف لبنة واثنتان وستون الف لبنة من اللبن الجعفري( المنسوب الى ابي جعفر) . فلما بنينا الثلث من السور لقطناه ( اي ضيقناه ) فصيرنا في الساف مائة الف لبنة وخمسين الف لبنة ، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا في الساف مائة الف لبنة واربعين الف لبنة الى اعلاه.
كأن بانيها كان يعرف ان الغزاة سيأتون اليها من كل فج عميق ، ومن كل متاهة حتى يصلوا هذه القبة السماوية المضروبة على قمة الارض وسط العالم في تصادم الرياح الاربعة الهوجاء.
قيل لرجل : كيف رأيت بغداد ? قال : الارض كلها بادية وبغداد حاضرتها ( تاريخ بغداد للخطيب البغدادي)
سحر الليل على ضفاف دجلة هو سحر يرقى الى التاريخ والزمن القديم الذي بقيت اشلاؤه مطروحة على الضفاف الطينية لمدينة يقوم على ضفتي نهرها مسجد وجامعة وسوق للكتب ومزار لصوفيّ . لم يبق في قلبي حب لامرأة الا كما بقي فيه حب هذه المدينة التي رأيتها في حبيبتي وفي امي . لقد جلسن ، ثلاثتهن ، على ضفاف دجلة ، في فجر ما ، سحيق في القدم ، ليتحللن في حواء واحدة ، نهضت من اعماق الماء جنية مبللة الشعر لتهرع نحوي في نداوة ذلك الفجر الذي ولدت فيه ، واغادرها في صمت ذلك الفجر الذي رحلت فيه . هل قدر لي ان اولد في الفجر ، وان ارحل في الفجر ? ما احببت فجر مدينة مثلما احببت فجر بغداد . مدينة يهيم في شوارع فجرها التاريخ والانس والجن من مردة وعيارين وفقراء وصوفيين ودراويش وشعراء ومغنين ومرتلين ومرددي ادعية مختفين في عبق حدائقها وبساتينها ، ورائحة اسواقها : سوق الصفارين ، سوق الذهب ، سوق السراي ، سوق الشورجة ، سوق النهر ، سوق الدجاج ، سوق الشواكة ، سوق الفحامة ، سوق حمادة ، سوق القماش ، سوق الآلهة التي هدمت هذه الاسواق ولم يبق منها سوى صياح الباعة مترددا في الفضاء الفسيح الممتد من محلة الشيخ صندل وعلاوي الحلة في الغرب الى المربعة ( حيث سوق الثلاثاء في العصر العباسي وخمارات ابي نؤاس في بعض الاديرة التي كانت قائمة آنذاك ) والباب الشرقي في الشرق ، ومن اسواق الكاظمية وباب الدروازة في الشمال الى الطريق الى
كربلاء في الجنوب.
عن ابي يعقوب الاسرائيلي وكان قد قرأ الكتب ، انه قيل له : مال بغداد لاترى فيها الا مستعجلا ، فقال : لانها قطعة من بابل فهي تبلبل باهلها . قال ابو الحسن بن المنادي : فنظرنا في كلام هذا الاسرائيلي فاذا هو كلام لايصح في المعتبر(الخطيب البغدادي):
بغداد حلم الله
اعطاها النواح ، وكثرة الشعراء
بغداد حلم الله
اعطاها الفرات ودجلة
وسلالة من اجمل الشهداء
.....
بغداد تنأى عن يدي
وتصير اقرب من وريدي
...
بغداد تنأى عن يدي
واعيد تشكيل الشوارع ، والازقة ، والبيوت
واعيد رصف طفولتي
واشيد الماضي
وارسم شارع السعدون ، والميدان ،
مقهى في الرصافة .
حانة البحرين
او سرجون
(بغداد الجديدة1981 )
في طريقي الى المدرسة ، في الخمسينات من هذا العصر كان يواجهني كل صباح تمثال الملك فيصل الاول في الصالحية ، ممتطيا صهوة جواده الاصيل ، وهو بعباءته وعقاله وكوفيته وقد استحال الى كتلة سوداء بفعل اللون الصخري لمادة الجرانيت التي صب فيها التمثال ، وكأنه قطعة انكسرت من كوكب عابر استتقرت في الساحة بين الجسر وشارع المتحف . كانت الرشاقة الجرانيتية قد طوعتها رشاقة الحصان العربي الاصيل ، كما طوعتها رشاقة الملك التي اعجبت نساء لندن وباريس في مؤتمر فرساي ,اللواتي اعتقدن ان المسيح لن يكون بشكل آخر . كان التمثال يدير ظهره الى النهر السرمدي ، ناظرا الى الغرب بهدوء صحراء باردة في آخر الليل . وبسبب جماليات ، ربما غذاها سبب سايكولوجي ، لم اكن احب تمثال الجنرال مود ، امام السفارة البريطانية والذي لايبعد كثيرا عن تمثال الملك فيصل . كان الجنرال بخوذته التي تتدلى فضلتها على رقبته ، وببدلته العسكرية ، مجللا بكآبة المادة البنية للتمثال وهو الآخر ينظر الى الغرب . غالبا ما كنت اعزي نفسي وانا صبي صغير ، بان الحصان سيقفز ذات يوم من قاعدته عابرا الشارع منطلقا الى البراري التي لم تكن آنذاك تبعد كثيرا عن المكان خلف سكة الحديد والمطار الذي رأيته ذات يوم لأحل اللغز الذي رافقني في طفولتي ، اللغز الذي كان يثير استغرابي : كيف تهبط الطائرات في مصيدة الفئران المحاطة بالاشجار ? في ذلك البيت القديم ، في عصر طفولتي الاول ، كانت الطائرات تمر قريبا منا ، فوق البيت احيانا ، ومن على السطح كنت اراقبها تهبط مختفية عني وراء اكمة من اشجار بعيدة . ولقد خلطت ، في الخامسة, او السادسة من عمري, بين مهبط الطائرات واكمة الاشجار وبين مصيدة الفئران التي كانت في الصفحة المقابلة لصورة طائرة في كتاب مدرسي يخص اخي الكبير جعفر. وحتى الآن لم اتحرر من هذا الربط بين مهبط الطائرات وبين مصيدة الفئران .كان سيف الجنرال مود يتدلى على خصره حتى يبدو وكأنه القائمة الخامسة للحصان . كان التمثال قريبا من منطقة الشواكة التي كانت اكبر اسواق الشوك يوم بنى المنصور مدينت(نا), وكانت تقع آنذاك في جنوب المدينة المدورة وخارج الاسوار.اما في عصر الجنرال مود , فقد كانت حية صاخبة تضم احياء وبيوتا قديمة يفوح منها بخور الماضي وجناء حمام التميمي

تضم احياء وبيوتا قديمة يفوح منها بخور الماضي وحناء حمام التميمي للنساء الذي رايت فيه لاول مرة , ولا اذكر ما اذا كنت في الرابعة او الخامسة, لوحة(الحمام التركي) للرسام انجر, مجسدة في نساء الكرخ باجسادهن ،
المرمرية اللينة ، ونهودهن العسجدية الطافحة ، وباعجازهن المدورة ، وكأنهن جواشن محاربين آشوريين ، بذلك البياض الممزوج ببخار وعبق صابون زيت الزيتون ، ودارسين حمام التميمي للرجال.وتضم مؤسسات حكومية
اخرى ، كما تضم مبنى الاذاعة والتلفزيون .ونسخة جبسية بالحجم الطبيعي لباب عشتار الذي يعلوه الاله شمش في جانب من جوانب المتحف العراقي:
الملائكة المنشدون
تحت ايقونة الوردة الميتة
يقطعون الزمان الجميل
(الوردة الميتة 1974)
يوم الرابع عشر من تموز 1958 سقط التمثالان في فورة غضب الحشود التي لم تقدر ما اذا كان تمثال الملك فيصل يحمل نفس دلالات الجنرال مود . هذا هو الحس العراقي المتطرف ازاء كل ماهو تحد للهوية . وازاء كل ماهو اجنبي.
اليوم لم تعد بغدادي كما كانت . مسافرون وسياح يأتون الي ّيحدثونني معجبين ، في لوية المي وانسحاق روحي ، عن عمارات اسمنتية عالية تعبر عن مجد طاغية .عمارات لا رائحة لها ولا عبق من ورد او حناء او آس ٍ او خليفة او عيّار ٍ او جنية او صوفيّ:
بغداد تنأى عن يدي
وتصير اقرب من وريدي
الارض ضيقة ٌ ، وواسعة ٌ ،
وكل مقاهي المنفى تقدم قهوة ً ممزوجة ً بمياه دجلة َ،
آه ِ دجلة ُ اجملُ الانهار ،
(بغداد الجديدة1981 )
كنت دائما الوم الشعراء العذريين لانهم لم يختلطوا باجساد حبيباتهم . واقول لهم وهم على بعد مئات السنين عني : ليس هناك حب عذري ، هناك الاختلاط بالمحبوب ، في ايقاع جسدي صاخب . ولقد اختلطت ببغداد في ايقاع جسدينا في كل الليالي التي مرت بي . هناك ، في المكان البعيد ، البعيد ، البعيد ، مثل الابدية ، ولا ادري كم انجبنا من ابناء . وهنا ، هنا ، هنا في المنفى الذي يأخذ بغداد من بين احضاني مثل نسر خاطف.
وانا احن اليها مثلما احن الى امي . وانا احن اليها مثلما احن اليها ، وانا احن اليها احن الى رحمي الذي خرجت منه مطلقا صرختي في وجه العالم . لقد حكمها طغاة ، وجبابرة . ومغامرون وعابرو سبيل مثل عبد الله الذي قالت
عنه كتب التاريخ(وحكم بغداد في ذلك العام شخص اسمه عبد الله لم يدم حكمه سوى ثلاثة ايام)
لكنها ظلت عامرة ، مسامرة ، مقامرة ، ولياليها متآمرة.
من يأتيني بها ? من يضع فمي على فمها الكرخي او الرصافي ، المندى برضاب اللمى لاذهب الى شفيعي واقول له : اضمن له شربة ً من ماء الحوض الذي تجلس عليه بحق ابنتك فاطمة الزهراء!
العبور اليومي المتأخر الى ساحة الشهداء على جسر الليل الذي يبدو وكأنه ينداح مع الماء الجاري الى الجنوب ، فيما تبدو فضة الامواج الهادئة تتلألأ من بين كوى السياج الحديدي الاخضر للجسر ، تلك الكوى المعينية التي تبدو مثل شقوق في عتمة الليل . هذا العبور كان يضعنى على عتبة الكرخ قادما من الرصافة . خمس دقائق بين رئتين وكأن هذا الجسر غضروف كالذي بين الرئتين . عتمة الكرخ القديمة التي تقطعها اضوية صفراء شاحبة ، والسكون المخيم عليها والمقطوع من عابري ليل ، ومشردين ، وسكارى ، وخفراء ، تبدو وكأنها تنطوي على جناحيها عائدة الى ذلك التاريخ البعيد يوم ظهرت اول مرة هنا ، وفي هذا الجانب من النهر . وبالتفاتة واحدة الى الجهة الاخرى تملأ جامعة المستنصرية على اليمين ومنارة جامع الآصفية المشهد الليلي الذي ينام على الاسرار والجنيات ومصباح علاء الدين والسحرة والحوريات والسرر التي تمتلئ بنساء بغداد اللواتي يسرحن شعورهن السوداء بمشط من اصابع الجان وهن يحركن اوتار اعوادهن منشدات صوتا من اصوات كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني, الذل لم نستطع ولم يستطع هاشم الرجب (رغم بحثه المضني سنوات)العثور على مقاماته حتى الان.

تلك الرحلة نسجت في ذاكرتي ليل بغداد ، وزرعت في مخيلتي صورة المشهد الذي لم تبهت الوان طيفه حتى الآن . ذلك العبور سيكون تجسيدا لتناغم المشهد الذي امدني بجسد لبغداد يتمدد معي في الليالي التي توحدت فيها فيها وفي المنفى البعيد . وبعد ذلك فتحت بغداد دروبها : ازقة الحيدرخانة الضيقة التي تضيق اكثر فاكثر في الاعلى حيث تقترب الشرفات والشناشيل وكأنها تمنع السماء ان تهبط اليها ، متكرمة على الزرقة ان تتسلل حتى تبدو قطعا من حرير يتدلى منسابا ، مفضضا بغيوم صغيرة ومذهبا باشعة الشمس . هناك ، في واحد من هذه الشنانيل رسم صديقي آنذاك, الفنان سلمان داود غلاف ديواني الاول (البكاء على مسلة الاحزان), حيث تتكئ فتاة بغداد على شرفة البيت, ممسكة بيدها حمامة من حمامات بغداد اللواتي ينتشرن على قباب المساجد واسطح البيوت وذؤابات النخيل:
انني اعشق من بغداد عذراءَ
بعينيها ارى نخل بلادي
البستني من زمان العشق احزانا،
والوان حدادِ
ثم ابحرت بعينيها ،
فكان الهدب صارية ،
ومجدافا بكف السندباد ِ
انني اعشق من بغداد ، عذراء َ
بعينيها ارى حزن بلادي
المقطع السابع من الجلاء عن المواطن السبعة 1969)
سربت بغداد اليّ رومانسيتها التاريخية وحزنها المعاصر . والقت بي ، سنة بعد سنة ، في دروب وطرقات مرت بها قبلي حشود من البشر . لم تعد تلك الرحلة ، رحلة العبور الليلي هي الوحيدة . رحلات من باب المعظم حتى الباب الشرقي مشيا على الاقدام عبر الميدان والحيدرخانة ، وباب الآغا ، ورأس القرية ، ومحلة سيد سلطان علي
وجامعه المطل علي الشارع ، والمربعة ، والسنك ، وصولا الى السعدون وشارع ابي نؤاس, حيث المقاهي الادبية التي غزاها جيل من ادباء العراق هاجروا من مقاهي البرلمان وحسن عجمي وعارف آغا ومقهى الزهاوي إلى مقهة ياسين وليالي السمروالبيضاء,في جلسات ليلية تضع على المقاعد والطاولات ثقافة عصر جمع خطوط الطول والعرض في خط عرض 36 حيث تقع بغداد.
كانت بغداد المصب الذي يتلقى موجات المهاجرين ، من القرى والمدن والارياف الرافدينية ، ومن البقاع البعيدة والاصقاع النائية حيث يجلب سحر اسمها الغواة والهواة والحواة والطغاة والرعاة والحفاة والسراة والشراة . وحيث استعدت لتجديد اسمها في العقود الستة من هذا القرن ، فان موجة من المغامرين عبرت الى خط العرض هذا لتحولها مرة اخرى الى مدينة مسبية يسيل حبر كتبها على الماء والسنة اللهب التي اضرمت للافكار والاشعار ، وتوحلت شوارعها الى ميادين لكتائب يتردد فيها صدى المارشات العسكرية وتدق فيها احذية الجنود الذين ظلوا يذرعون الشوارع والميادين ولثكنات اكثر من عشرة اعوام بحثا عن حرب . وذات يوم ، صاح النفير الغرابي مترددا في فضائها الكذيب لتخرج الامهات والزوجات والاخوات مودعات ابنائهن وازواجهن واخوانهن الى الخنادق التي سيسقطون فيها ولن يعودوا ابدا . لقد لبست بغداد ثوب حدادها الطويل ، الطويل ، ومن سراديبها و ودهاليزها ، وعتمة زواياها وتكاياها وقبور اوليائها خرجت الاشباح طائرة في سماواتها الوطئة الملبدة بالوجوم ، وتردد مرة اخرى ، ايقاع المراثي ، ووقفت الندابات وسط حشود النساء لتندب القتلى الذين سقطوا على الاسوار والمداخل قبل ان يسقطوا على حجر الحدود الذي دقه سنحاريب لحراسة حدود البلاد.
لم نعد نعثر على حجر من بنائها القديم ، ولا على درب من سككها التي سكها سكانها الاوائل الذين سمعوا قول الفقهاء فيها بعدم جواز بيع ارضها.
. (انبأنا احمد بن محمد بن جعفر ابو الحسين ، حدثني ابو الفضل جعفر بن محمد المؤدب : ان اباه لما مات ارادت والدته ان تبيع دارا ورثاها ، فقالت لي : يابني امض الى احمد بن حنبل والى بشر بن الحارث فسلهما عن ذلك ، فاني لا احب ان اقطع امرا دونهما ، واعلمهما ان بنا حاجة الى بيعها . قال : فسألتهما عن ذلك فاتفق قولاهما على بيع الانقاض دون الارض.)
. هذه الارض التي لاتشترى ولاتباع, بيع كل حجر فيها حتى لم تعد مدينة بل مقبرة خرساء . لن اجد فيها جيلي . لن اجد فيها مواطئ قدمي الاولى من الكرادة الى الصالحية . ومن الشواكة الى البياع ، ومن المنصور الى الاعظمية:
ندى مركب قلق وانا العاصفة
حينما نلتقي في العواصف نشعل نارا
ندى تتمنى غروبا بهيجا ،
وليس لديّ سماء ولاقمر
وليس لديّ سوى الاعظمية والمفردات
هبطت من رماد العراق لناري
واشتعلنا معا فوق عشب وتحت ازار
نهضنا نسوي حواشي الحياة
ونفتح في الفجر نافذة
ونغلق اعيننا ثم ندخل في حلم او سبات
ونركض عبر العراق ، وعبر البراري
(ندى 1982)
لن اجد فيها ماخلفته من تراب ، وما صنعته اصابعي من طين ، وما رسمته قدماي من آثار ، وما طبعته عيناي على الجدران من صور ، وما حفرته على الابواب كلماتي . لن ارى ذلك الضوء الذي تحول الى هالة معقودة فوق اعمدة النور على الجسر ، ولن اجد ذلك الايقاع الخافت لوقع الخطوات الذي تركته النساء على ارصفة شوارعها . كل شئ تغير من رجل خائف من التاريخ ، يحاول ان يصنع للبلاد تاريخه الشخصي وهي تقاوم بما قاومت به غزاتها وطغاتها ومخربيها . لقد خرجنا منها مطرودين ، وظلت لعنة فراقها تطاردنا ، وهي تنظر ، بعين بقرة وحشية واسعة وحزينة ، الى الابناء يركضون مثل الفرائس امام المطاردين . وحتى تأتي الحشود مرة اخرى ، نكون قد امعنا في الهرم او الموت:
دخلنا المدينة فجرا
وفجرا رأينا المراثي َ تغمر اسطحها
وشوارعها
وحدائقها
رأينا الشوارع تنحلُّ او تتكسر او تتصاعد مثل البخار
........
اي مداخل
ستقود الحشد المنفيَّ الى بغداد
واي الابواب ستفضي لحياة اخرى
ستجئ حشود البغدادين من المنفى
تدخل من ابواب متفرقة
لاتحمل فوق ظهور متعبة غير حقائب من صور
ورسائل هي آخر مايبقى
وهي الذكرى
) (سلالة منقرضة1983



#نبيل_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اوجاع الوردة-الفصل الثالث
- اوجاع الوردة -الفصل الثاني
- اوجاع الوردة
- قصائد من طقوس الى الابد
- التعددية الثقافية شرط الديمقراطية
- البيت
- احلام واوهام الثقافة العراقية
- مستقبل الثقافة في العراق
- موقف الدول العربية من الارهاب في العراق
- حدثني يا ابتي
- الديمقراطية في الفكر الغربي
- ربع قرن من العزلة
- لكي لانصاب بنكسة دستورية
- صاحب الحكيم ومحاكمة صدام
- اثينا 403 قبل الميلاد - بغداد 2003 دكتاتوريةالثلاثين- دكتاتو ...
- المرأة في الفكر السياسي العراقي


المزيد.....




- افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
- “مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا ...
- الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم ...
- “عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا ...
- وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
- ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
- -بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز ...
- كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل ...
- هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟


المزيد.....

- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل ياسين - اوجاع الوردة-الفصل الرابع