|
مشكلة الديون الحكومية في الفكر الاقتصادي
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن-العدد: 6720 - 2020 / 10 / 31 - 00:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتزايد الديون الحكومية عبر العالم بمعدلات غير مسبوقة بسبب أزمة الكورونا وما تبعها من اجراءات غلق لمعظم الأنشطة الاقتصادية للحد من انتشار الفيروس وما نتج عن هذا من انخفاض في إيرادات الحكومات من الضرائب وزيادة مصروفات الدعم لمختلف الأنشطة الاقتصادية التي تضررت، وهو ما يضطر الحكومات للاقتراض بكثافة من الداخل والخارج. وفي هذا فقد عرف عن جون مينارد كنز مؤسس علم الاقتصاد الكلي توصيته بأهمية أن تلجأ الحكومات إلى الاقتراض في وقت الأزمات لتفادي الكساد الاقتصادي ولتحقيق نوع من الاستقرار يضمن مستويات معقولة من النمو والتوظيف. ولازال كتاب كينزالشهير "النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود" بكل افتراضاته ومعادلاته الرياضية يدرس في كل جامعات العالم حتى اليوم. وبعد أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن المنصرم اتبعت الحكومات نصائحه في التعامل مع المشكلة التي كان لها أثار سلبية على العالم كله وهي نصائح تتمحور حول ضرورة تخفيض أسعار الفائدة وقيام الحكومات بمبادرات لتحفيز الاقتصاد على النمو من خلال الاستثمار في البنية التحتية لخلق وظائف ،كما قدم كينز فكرة المضاعف للاستثمار والإنفاق وبين أثرها الإيجابي على مخرجات العملية الإنتاجية وبين أيضا من خلال معادلات رياضية دقيقة لازلنا ندرسها كيف يمكن أن يعمل المضاعف بشكل سلبي إذا ما امتنعت الحكومات عن التدخل والإنفاق العام في وقت الأزمات وعندما ينخفض الانفاق الاستثماري الخاص وهو ما يؤدي إليه من انكماش وزيادة البطالة، وتؤدي زيادة الاخيرة إلى خفض أكبر في الانفاق يتبعه المزيد من الانخفاض في البطالة وهكذا يعمل المضاعف بشكل سلبي. ولكسر هذه الحلقة المفرغة ووقف عمل المضاعف السلبي يتعين أن تتدخل الحكومة من خلال سياسات التمويل بالعجز والاقتراض لتعويض ما تسببه الأزمة من انخفاض في إيرادات الحكومة. ولكن الثقة في سياسات كينز انخفضت بشكل كبير نتيجة ما حدث في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم وهو ما سمي في تاريخ الفكر الاقتصادي من قبل مدرسة السياسة النقدية "بعقدي التضخم" حيث أثبت ميلتون فريدمان ومدرسة جامعة شيكاغو أن سياسات كينز التوسعية والمعروض النقدي الضخم كانت السبب في نوبات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بمعدلات كبيرة في تلك الفترة. كما ادعى فريدمان أن سياسات التدخل الحكومي زادت الوضع سوءا حيث بدأ التضخم يلتهم مدخرات الناس ورأى أن نوبات الرواج الاقتصادي التي تأتي بها سياسات كينز لا تلبث أن تنتهي بنوبات انكماش وزيادة في البطالة و أنها سياسات لا تصلح للمدى الطويل! وبهذه المناسبة فإن آخر بحث لي في سنة التخرج في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة قبل مغادرتي مصر في أواخر السبعينات كان موضوعه سياسة التمويل بالعجز عند كينز، وقد أثبت فيه أن سياسة كينز تصلح للمدى المتوسط أيضا ولكن لم استطع إثبات أنها تصلح للمدى الطويل لعدم وجود تجارب دولية أو بيانات تثبت هذا وقتها، ولم اقتنع أبدا برأي فريدمان بوجوب تقليص الحكومة وتحجيم الدور الذي تلعبه في إدارة وتنظيم القطاع الاقتصادي بحجة أن الأسواق لها القدرة الذاتية على تحقيق التوازن. ولا يعني هذا بأي حال التقليل من شأن فريدمان الذي كان رائدا في السياسة النقدية بلا شك وحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد من خلال موسعاته في السياسة النقدية وهو لا يقل شأنا عن كينز في السياسة المالية. وقد تعلمنا منه أيضا مفهوم مشابه لمفهوم المضاعف عند كينز وهو مفهوم ال Velocity أو سرعة دوران النقود عندما درسنا مادة النقود والبنوك وهو مفهوم رياضي هام في حسابات كم النقود المتداولة وكيفية التحكم من خلالها في التضخم. ولإزالت كل البنوك المركزية في العالم تطبيق نظريات فريدمان عند حساب الحد الأعلى والحد الأدنى للتضخم المرغوب فيه. وفي عصر فريدمان توارى الاقتصاد الكينزي بعد إخفاقه في تقديم تفسيرات واضحة لأسباب ارتفاع التضخم وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وزيادة البطالة في فترة السبعينيات بالرغم من زيادة الانفاق العام. وبالنتيجة ظهرت الليبرالية الجديدة ايام ريجان وثاتشر وسيطرت السياسة النقدية ونظريات فريدمان في استخدام كمية النقود المتداولة لتحقيق التوازن بالإضافة إلى الانحياز إلى اقتصاديات جانب العرض على حساب جانب الطلب والتي تقوم على الحد من التدخل الحكومي و تخفيف التشريعات الحكومية و تخفيض الضرائب و أسعار الفائدة والسماح للتضخم بالزيادة بشكل معتدل تحت سيطرة البنوك المركزية.
ولكن ومنذ أوائل التسعينيات وحتى الآن بدأت أسعار الفائدة على كل العملات الرئيسية في الاتجاه إلى الانخفاض نتيجة الانخفاض في الطلب الكلي وجاءت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007/2008 لتنخفض أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر وهو ما يعني تحييد أهم أدوات السياسة النقدية وحرمان البنوك المركزية في الغرب من المناورة بسعر الفائدة ارتفاعا وهبوطا للتعامل مع الأوضاع الاقتصادية المختلفة. وعوضا عن هذا بدأت الحكومات في الغرب في العودة من جديد إلى أدوات الاقتصاد الكينزي للتعامل مع الأزمة من خلال الاقتراض من الداخل والخارج بالإضافة إلى طباعة نقود إضافية من خلال سياسات التيسير النقدي ال QEوالتي تقوم فيها البنوك المركزية بشراء السندات السيادية للحكومة وسندات الشركات لتوفير السيولة للأسواق المختلفة من خلال هذه الأموال الرخيصة. ومما شجع الحكومات على الإمعان في الاقتراض انخفاض أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر. وما أن انتهى العالم من الأزمة المالية والتي استغرق إصلاح آثارها السيئة أكثر من 10 سنوات حتى جاءت جائحة الكورونا لتغلق الاقتصاد العالمي بالكامل وتحرم كل الحكومات من مصدر إيراداتها الرئيس وهو الضرائب والرسوم السيادية، في وقت تحتاج فيه الحكومات إلى إيرادات ضخمة لتعويض قطاعات الأعمال التي تضررت بشدة من اجراءات الغلق العشوائي وكذلك تقديم الدعم اللازم والضروري لقطاعي الصحة والتعليم والقطاع العائلي وأصحاب الأعمال الصغيرة والملايين الذين فقدوا وظائفهم وأصبحوا بلا دخل. ولم يعد أمام الحكومات إلا المزيد من الاستدانة حتى تجاوزت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي حد الأمان الذي نحدده في الاقتصاد ب 60% مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز هذه النسبة حاجز ال 100% في معظم دول العالم. والجديد الآن أن عددا كبيرا من الاقتصاديين ومنهم خبراء صندوق النقد الدولي يروجون لسياسة ما يعرف بالنظرية النقدية الجديدة " " والتي تحث الحكومات على ضرورة الاقتراض عندما تكون تكلفته منخفضة او شبه مجانية كما هو حاصل الآن خاصة وأن هناك توجه عالمي للإبقاء على أسعار الفائدة المنخفضة لسنوات طويلة قادمة لتخفيف عبء خدمة الديون السيادية على الحكومات وذلك كما صرح رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ أسابيع قليلة وكان مبرره وهو نفس مبرر صندوق النقد الدولي تحفيز الاقتصاد على النمو من جديد و المحافظة على الوظائف وأرزاق الناس وهذا توجه جيد في رأينا طالما أن الاقتراض يتم بغرض تحقيق هذه الأهداف الهامة في هذه الأوقات العصيبة. ولكن ينبغي هنا ان ننبه القارئ الكريم إلى أن ما ينطبق على الاقتصاد الغربي لا ينطبق بالضرورة علينا في العالم العربي حيث الاقتصاد الريعي الذي تعتمد فيه دولنا على استيراد الغذاء والدواء والآلات والمعدات وغيرها من السلع الاستراتيجية على الخارج وعلى الدولار بشكل أساسي. وعادة ما نعتمد في هذا الاقتراض المباشر من الغرب وإصدار سندات دولارية وهي مكلفة جدا بسبب ضعف التصنيف الائتماني للدول العربية بشكل عام وهو ما يجعلها تدفع عائدا كبيرا على هذه السندات لحامليها من المؤسسات الغربية، ولذلك فإن الحذر واجب عند الإستدانة من الخارج. أما الاقتراض من الداخل من الجهاز المصرفي ومن خلال طرح سندات بالعملات المحلية للتعامل مع عجز الموازنة فإن هذا هو ما تتحدث عنه النظرية النقدية الجديدة والتي ترى أن مخاطر الاقتراض بالعملة المحلية التي تطبعها الدول تكون محدودة لأنه يكون بمقدورها أن تطبع أي كمية من النقد المحلي للوفاء باي التزامات محلية عاجلة أو سداد مستحقات الديون المحلية. وقد سبق أن بيننا في مقالة سابقة كيف أساءت الولايات المتحدة نفوذها على الدولار باعتباره عملة الاحتياطي العالمي وعملة التسويات الدولية لطباعة ما تشاء منه لتحفيز اقتصادها على النمو وتصدر ما تشاء من سندات لسداد عجز ميزانيتها ولكن المدهش هو أن الكثير من الدول تقبل على شراء هذه السندات باعتبار أنها تدر بعض العائد كما أنها مضمونة من الحكومة الأمريكية وعلى رأس هذه الدول الصين. ولكن نسبة الاستثمار الأجنبي في أذون الخزانة الامريكية لا يقارن بما يستثمر فيها من داخل أمريكا نفسها خاصةً من قبل بنوكها العملاقة وشركات الأوراق المالية وصناديق التحوط والمعاشات. ومرة أخرى نقول إن أمريكا تسيء استخدام نفوذها لانها أصبحت تبالغ في استخدام الدولار وطباعته لتحفيز اقتصادها على النمو بكل الطرق وهناك الآن تشوهات كبيرة في النظام النقدي الدولي نتيجة هذه السياسة الامريكية ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بما ستؤول اليه الأوضاع العالمية.
ومرة أخرى نقول أن على الدول العربية أن ترشد عمليات الاقتراض حتى الداخلية منها وألا تبالغ في طبع النقود لمواجهة العجز في ميزانيتها لتجنب مخاطر التضخم الجامح آثاره السيئة على الفقراء. وكما المحنا سابقا فإن النمو التضخمي هو أحد الأعراض الواردة في الاقتصاد الكينزي وهو عرض غير موجود حتى الآن في الغرب بسبب ضعف الطلب الكلي بشكل عام وميل الناس للادخار عكس الوضع لدينا حيث يرتفع الميل الحدي للاستهلاك لدينا بشكل كبير بسبب الفقر وتركيبة السكان التي تتسم بارتفاع نسبة الشباب وصغار السن عكس الحال في الغرب. والخلاصة أن الاقتصاد العالمي بعد أزمة الجائحة أمام تحديات كبيرة وخطيرة ومعقدة والحكومات على مستوى العالم تستدين بمعدلات كبيرة وغير مسبوقة لأنها تواجه مخاطر عدم الاستقرار المجتمعي وخطر السقوط بسبب عدم قدرتها على السيطرة على الفيروس وزيادة معاناة الناس من جراء قيود ومخاطر الاغلاق. وحسبما تعلمنا في الاقتصاد فإن البديل عن الاقتراض هو إجراء إصلاحات هيكلية شاملة تتمثل في ترشيد الإنفاق العام والاقتراض من أجل الاستثمار فقط والذي يساعد على خلق وظائف بالإضافة إلى محاربة الفساد وفرض ضرائب عالية على الأغنياء واصلاح المنظومة الصحية ... إلى آخره. ولكن مثل هذه الإجراءات والاصلاحات تحتاج إلى وقت طويل والحديث عنها في ظل هذه الأزمة يكون نوعا من الترف لأننا أمام مسألة حياة أو موت ولا توجد بدائل أخرى حاليا سوى المزيد من الاقتراض. ولكن طالما انه لا بديل عن الاقتراض فإنه يتعين أن يتم بضوابط ونظم حوكمة ورقابة جيدة تضمن حسن وعدالة استخدام الأموال المقترضة لحماية حقوق اجيال المستقبل التي سترث هذه الديون الثقيلة. ولأن دول العالم كلها تطبق الآن النظام الرأسمالي فإننا نعتقد أن الدول التي ستنجح قي اجتياز هذه الأزمة غير المسبوقة ستكون هي الدول التي تستطيع أن تجمع بين مزايا نظام السوق غير المنفلت وبين مرونة وقوة التدخل الحكومي عند الضرورة، ومن ثم فإن كينز كان محقا في أن آليات السوق وحدها لا يمكنها تحقيق التوازن المطلوب في وقت الأزمات الكبيرة. مستشار اقتصادي
#محمود_يوسف_بكير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمثلة للاشتراكية الديمقراطية والاستبدادية
-
مراجعات وأفكار
-
مفارقات محزنة فيما يحدث في فلسطين ولبنان
-
لماذا ننصح بالادخار في الذهب
-
أوهام وآمال الإصلاح الديني
-
نحن والعالم والأزمة النقدية القادمة
-
صالح كامل الانسان والمفكر ورجل الأعمال
-
كتاب اللامساواة لبيكيتي-ماركس الحديث
-
الديموقراطية وحقوق الإنسان ما بعد الكورونا
-
الكورونا ومستقبل النظام الاقتصادي العالمي
-
مستقبل الدولار وما يحدث حاليا
-
محمود يوسف بكير - كاتب وباحث في الشئون الاقتصادية والإنسانية
...
-
هل لازال هنآك أمل؟
-
من روائع الفكر الفلسفي
-
كيف تؤثر الثقافة في الاقتصاد
-
لماذا يكرهون المسلمين؟
-
ماذا يريد سفاح السودان الجديد
-
في نقد العقل الأيديولوجي
-
المشكلة الكبرى في الاقتصاد العالمي
-
تطور هام في نظام التحويلات الدولية
المزيد.....
-
الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة
...
-
عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير
...
-
كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق
...
-
لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟
...
-
مام شليمون رابما (قائد المئة)
-
مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
-
مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة
...
-
إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا
...
-
نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن
...
-
وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|