|
مشكلة الفرنسيين مع الإسلام
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6717 - 2020 / 10 / 28 - 13:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن لأحد أن ينكر وجاهة السؤال المتكرر: لماذا يعتبر نقد الرواية الشائعة عن الهولوكوست في فرنسا خرقاً للقانون وليس حرية تعبير؟ أو بصيغة أخرى: لماذا لا تتم حماية المقدسات الدينية بقانون شبيه بقانون حماية الرواية "الرسمية" عن الهولوكوست، فيغدو من يتجاوز على هذه المقدسات مخالفاً للقانون؟ لكن من ناحية أخرى، لا ينبغي أن يغيب عن السائل أن قضية الإسلام والمسلمين، وهي المعنية أولاً وأساساً في السؤال السابق، تختلف، على نحو جوهري، عن بقية القضايا الدينية الأخرى، من حيث أن الإسلام ينطوي على تهديد سياسي لا تنطوي عليه الأديان الأخرى. مصدر التهديد هو أن الإسلام يعي نفسه على أنه الدين العالمي الأخير وأن قضيته هي السيادة على العالم وأن من واجب المسلم الملتزم أن يكون جندياً في سبيل هذه القضية. وحين يضاف إلى هذا التصور حقيقة أن تيار المسلمين العام يرى في الإسلام ناظماً ليس فقط للعلاقة الروحية مع الله، بل وللعلاقات الدنيوية مع البشر (فيما بين المسلمين كما مع غير المسلمين)، وأن المسلمين في العالم يعدون بمئات الملايين وأن الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلدانهم شديدة السوء، أي إنهم يمتلكون مخزوناً هائلاً من الذل والبؤس الذي يدفع إلى الفعل، حين نلحظ كل ذلك، يمكن أن ندرك لماذا يكون ارتكاس الدول عموماً، الغربية وغير الغربية، تجاه النشاط الإسلامي أشد منه تجاه نشاط أي مجموعات دينية أخرى. بكلام آخر، يطرح الإسلام نفسه كبديل "سياسي" دائم وكوني، ومن هنا منشأ مقابلة الأنشطة الإسلامية في الدول الغربية، وفي غير مكان، بتشنج وحساسية لا نجدها إزاء الأنشطة الدينية الأخرى. والطريف أن المصدر الحقيقي للخوف من الأنشطة الإسلامية هو بالضبط عكس ما صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأسماه "الانعزالية الاسلامية" التي قرر مواجهتها بمجموعة قوانين وإجراءات جديدة ستكون قليلة القيمة على الغالب. مصدر الخوف من الإسلام هو أنه غير انعزالي، بل هو بالأحرى غاز للأوساط الأخرى وذو نزوع توسعي متأصل، ليس من حيث سعيه لكسب أتباع جدد، فهو ليس الدين التبشيري الوحيد، بل، الأهم، من حيث ميله للسيطرة السياسية. وإذا كان ثمة انعزالية إسلامية شرحها الرئيس الفرنسي بأنها "خلق مجتمع مواز"، فهي، والحال هذه، مرحلة أولية في مسار السيطرة المأمولة والمنظورة. وهذا ما لا يخفى على الفرنسيين ولا على المسلمين، غير أن الطرفين لا ينظران إلى المشكلة في عينيها، أو لا يواجهان الفيل الذي في غرفة المعيشة، كما يقول الانكليز. لا يمكن فهم الاهتمام الفرنسي الكبير الذي يصل إلى حدود الاستنفار على كل المستويات، في قضية مقتل مدرس التاريخ، ما لم نأخذ في الحسبان التهديد الإسلامي المستبطن الذي يشكل المنصة الأساسية لانطلاق اليمين الفرنسي المتطرف. الخطير في الأمر أن الشعور بهذا التهديد يتغلغل في الأوساط الشعبية الفرنسية على نحو متزايد، ما يجعل السياسيين الفرنسيين (الذين يحركهم البحث عن ناخبين) يتبارون في مستوى حدة ردود الفعل على مثل هذه الجرائم ذات الخلفية الإسلامية. هذه الموجة تمحو الفروق بين التيارات السياسية وتغذي "انعزالية فرنسية" لا يستبعد كثيرون أن تكون خطوة باتجاه حرب أهلية. أطلق الرئيس الفرنسي على مدرس التاريخ الذي راح ضحية الجريمة البشعة التي ارتكبها المراهق الشيشاني في 16 أكتوبر/تشرين الأول، وصف "البطل الهادئ"، وأرسل التحية له ولكل المدرسين الذين "يصنعون الجمهوريين". من الواضح أن صناعة الجمهوريين توضع هنا في مقابل صناعة الإسلاميين. كما أقامت الدولة الفرنسية تكريماً مهيباً للمدرس الضحية، وخرج إلى الشوارع والساحات آلاف الفرنسيين تضامناً مع الضحية وعرفاناً بدفاعه عن حرية التعبير واستنكاراً للجريمة. وقررت المناطق الفرنسية في مبادرة مشتركة أن تنشر كتاباً للكاريكاتور السياسي والديني يجمع أبرز رسوم الكاريكاتور التي نشرت سواء في صحف المناطق أو في الصحف الوطنية، ليتم توزيعه على المدارس الثانوية. كما صرح وزير الداخلية الفرنسي بوجوب إغلاق أقسام (الحلال) في المتاجر الفرنسية. كما لو أن المشكلة في وجود من يمتعض من الكاريكاتور أو من يأكل (الحلال). في رد الفعل الفرنسي على العملية الإرهابية ضد مدرس التاريخ ما يصعب فهمه دون رده إلى استشعار الخطر السياسي الإسلامي، وفي تساؤلات المسلمين عن المبالغة في رد الفعل الفرنسي براءة حقيقية أو مصطنعة. يتقصد الجانبان عزل العملية الإرهابية، الجانب الفرنسي يعزلها ويركز عليها لتبدو هذه الجريمة الشديدة القبح واجهة تحتمل أقسى ردود الفعل، ولكنهم يعلمون أو يستشعرون، بلا شك، أن وراء هذه الواجهة "الفردية" تكمن عناصر حلم جماعي إسلامي يحتمي بالجمهورية لكي يقوضها. أما الجانب المسلم فإنه يعزل الجريمة لكي تبدو مجرد جريمة فردية لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهو جاهز لإدانتها أيضاً، لكي لا تبدو جزءاً من مشروع سيطرة إسلامية يتحدى الزمن ولا يهادن إلا لكي يتمكن. قبل جريمة المراهق الشيشاني، أحدث مجرد وجود فتاة محجبة (هي رئيسة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بجامعة السوربون) في اجتماع للبرلمان الفرنسي موجة احتجاج وانسحاب عدد من النواب من القاعة. الذين انسحبوا قالوا إن مبرر انسحابهم هو الدفاع عن حقوق المرأة وقيم العلمانية. في هذا الانسحاب تشنج "علماني" يصعب الدفاع عنه، ولا يقره القانون الفرنسي نفسه، على علمانيته الصلبة. لا نظن أن ردة فعل النواب ستكون على هذه الشاكلة لو كان الرمز الديني لهذه السيدة غير إسلامي. الرموز الإسلامية فقط هي ما ينتمي إلى مشروع سياسي غير معلن، على الأقل في فرنسا، ولكنه معروف ويولد لدى الفرنسيين قدراً كبيراً من عدم الثقة وعدم الاطمئنان، فلا يبدو الحجاب مجرد رمز ديني، بل نذيراً بتغيير مضاد للجمهورية. هذه هي الخلفية التي يمكننا من خلالها فهم رد الفعل الفرنسي على جريمة باريس. لتجاوز الانحدار إلى صراع أهلي في فرنسا، من المهم أن لا تنزلق السياسة الفرنسية من مستوى مواجهة (الإسلام السياسي) إلى مستوى مواجهة المسلمين. ومن المهم أن يشارك المسلمون الفرنسيون في عزل نزعة السيطرة أو النزعة المضادة للديموقراطية التي تتوفر عند فئة منهم. تعزيز الاطمئنان المتبادل بين الطرفين مسؤولية مشتركة، وفي غياب الاطمئنان المتبادل تتحول التباينات إلى كراهيات تنبت على تربتها القذرة كل الشرور.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل العلة في الطريق أم في -الهرولة-؟
-
عن رهينة فرنسية اعتنقت الاسلام
-
سورية بعد موجة التطرف الإسلامي
-
لا حقوق وطنية بدون حقوق يومية
-
سورية المدمنة على النقصان
-
حضورنا المباشر في السياسة
-
العدو الصديق وأزمة مياه الحسكة السورية
-
الحرية والاختيار
-
مسؤوليتنا عن انفجار بيروت
-
توحيد الروايات الذاتية للجماعات السورية
-
مناهج تعليم غير وطنية في سورية
-
نجوم لسماء، أقحوان لمرج
-
خفايا انتخابات مجلس الشعب السوري 2020
-
مجلس نواب للنظام في الشعب السوري
-
قصة صباح السالم وضرورة العمل المدني
-
هوس اللامركزية في سورية
-
جواب بسيط لأسئلة قلقة
-
لكم أحلامكم ولنا الواقع
-
في فرادة العقود الثلاثة الأخيرة
-
-إعلان الوطنية السورية- بين الوطنية والقومية
المزيد.....
-
كوبا تندد بإعادة واشنطن تفعيل -سجل القيود- وتصفه بـ-الاستفزا
...
-
من القاهرة.. بيان عربي يرفض تهجير الفلسطينيين ويؤكد ضرورة إع
...
-
إستونيا تحذر واشنطن و-الناتو- من خسارة أوكرانيا مكامن المعاد
...
-
السودان.. عشرات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صاب
...
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر: أول رئيس ألماني دون
...
-
تسليم الرهينتين بيباس وكالديرون للجيش الإسرائيلي
-
الرهينة ياردين بيباس يعانق عائلته بعد 484 يوما في الأسر
-
الجفاف يدق ناقوس الخطر في لبنان. بحيرة القرعون في مشهد مخيف
...
-
الملف الفلسطيني والتهجير على طاولة -السداسية العربية- في الق
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونتسك
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|