|
تحت سماء دمشق: اللعب الحافي
سمر يزبك
الحوار المتمدن-العدد: 1608 - 2006 / 7 / 11 - 09:58
المحور:
الادب والفن
كرة قدم قماشية ملونة، شبه كروية، ملفوفة حول بعضها البعض بالشرائط الممزقة؛ الخضراء، والصفراء، والحمراء، والتي تحولت إلى اللون المغّبر، تتخلله مشحات من الشحم الأسود، وبقع مالحة رطبة، سرعان ما تجف تحت أشعة الشمس، بقع تنزّ بروائح أقدام الأطفال الذين يرفعونها عالياً تحت سماء دمشق، وتحلق قلوبهم الوجلة، الخائفة من تفتت الأشرطة، وانفلات الشكل الكروي وتبدد الوهم الذي يحلمون به، ويعيشونه مع الهياج البشري في كل أنحاء الكرة الأرضية، الكرة التي لا تشبه لعبتهم الخرافية، حلمهم في أنهم الأن، وغير بعيد عن أزقتهم المتراصة، يلعبون كرة القدم، ويشبهون كل أطفال العالم، الأطفال الذين يحرقون عيونهم تحت الشمس، ويضحكون لانفلاتهم من عملهم اليومي بين مصانع الزجاج، وورششات صيانة السيارات، وحاويات القمامة التي يتدلون منها كأغصان برتقال محروق. ينطّون خلف الكرة، ويصيحون قبل أن يرموا صدروهم العارية للتراب في نهاية اللعبة، صارخين بفرح غريب عنهم: لقد فزنا يحملون كرتهم القماشية التي لاتحمل ماركة "أديداس، نايكي" ولا يرتدون في أرجلهم الحافية حذاء من ماركة شركة "بوما" التي دفعت سبعة ملايين وثلاثمائة ألف دولار، لكل فريق تأهل للمشاركة في مباريات كأس العالم، وهو نفس المبلغ الذي دفعته أيضاً للدعاية في البلدان المشاركة، كما أنهم لم يكونوا على درجة من الجرأة، للحلم بشراء كرة قدم من ماركة "بوما" نفسها، لأن الكرة القماشية أكثر قرباً إلى حياتهم، تعودهم القناعة، والصبر، وتجعلمهم يعملون كثيراً من أجل الحصول عليها، فبعد جهودهم في انتقاء القماش المناسب،من حاويات القمامة التي يعملون بها، بعيداً عن مقاعد الدراسة، ينظفونها، ويعرضونها لشمس نهار كامل، ثم يمزقونها إلى شرائط طويلة، وذلك عبر قطعها بأسنانهم، أو بموس حاد، يحتفظون بها خوفاً من سرقة تعبهم آخر النهار، أو احتمال اغتصاب ممكن، كل دقيقة في ظلمة الأزقة، ثم تأتي مهمة الفتيات بالحياكة العشوائية، ذات الغرزات الكبيرة. الفتيات الصغيرات، اللواتي يحلمن بالخروج، ولعب كرة القدم مثل أقرانهم الصبيان، لكن ذلك محرم عليهم، لأن الصراع من أجل البقاء، ولعبة الفوز والقوة هي من اختصاص الرجال فقط، وعلى الفتيات التزام البيت فقط، أو الخدمة في المنازل، ربما سيكون على تلك الفتيات الانتظار سنوات قليلة حتى المونديال القادم، فربما صرن حاجةً مهمة للمونديال، حيث ذكرت وسائل الاعلام الشعبية في مدينة برلين سنة 2005 في شهر حزيران، أنه تم استيراد 40 ألف امرأة إلى السوق الألمانية من أجل المونديال، فزبائن ألمانيا، وأصحاب العضلات المفتولة، بحاجة للجنس أيضا إلى جانب التشويق، وقد ذُكر إن أغلب النساء المستوردات، هن من المهاجرات، ومن فتيات الدول الاشتراكية سابقا. الفتيات "اللواتي لن يحظين حتى بفرصة الدخول في تجارة الجسد الأبيض، لأنهن أكثر هزالاً مما يمكن أن تحققه فتاة لمتعة زبون" يحولن الشرائط ذات النسج المختلفة إلى مشروع كرة قدم رائعة لأطفال الأحياء الفقيرة المحيطة بدمشق، والتي تزنرها مثل حزام ينمو كل دقيقة ويلتهم قلب دمشق، وقلب ساكنيه في آن واحد،غرف مصطفة وازقة ضيقة تزحف بأطفالها وكراتها وأعلامها نحو موتها المتجدد، في تلك الأحياء وحيث تتطاير كرات قدم قماشية، تنتشر أعلام الدول المشاركة في المونديال على أسطح البيوت المكونة من غرفة واحدة في الغالب، لا ترتفع عالياً على الشرفات، فتلك البيوت بلا شرفات، لكنها تنوء فوق أوتاد خشب منزوعة من غصون أشجار يابسة، وبألوان باهتة، وغريبة لقمصان خضراء، والتي تعني، أن هذا البيت من مشجعي فريق البرازيل، وليس مهما أن تكون باقي تفصيلات علم البرازيل مرسومة عليه، فاللون الأخضر يعني قطعاً البرازيل، فقط بالنسبة لعيون أهالي الأحياء الفقيرة، والتي لا تشبه أعلام الأحياء النظيفة غير البعيدة عن حزام الفقر المحيط بدمشق. أعلامها ترفرف بحرية على الشرفات الواسعة النظيفة، والأطفال يحضنون كرات "البوما" و"الأديداس" وهم يرتاحون في المقعد الخلفي للسيارت السوداء الفارهة التي تأخذهم لملاعب خضراء نظيفة، لا يعرفها أغلب أطفال دمشق، وأغلب الأعلام ( القمصان) المتثاقلة فوق بيوت أطفال الكرات القماشية هي للبرازيل، أو الأرجنتين، أوايطاليا، ومن النادر العثور على علم انكلترة، واالمستحيل هو العثور على العلم الأمريكي، لكن أعلاماً أمريكية، وانكليزية ترفرف على شرفات أطفال كرات "الأديداس" الذين يرقصون على نغمات أغاني "السبايس غيرلز" كرمى لعيون نجم انكلترا "بيكهام" وهذا التقسيم غريب من نوعه، لكنه حقيقة واقعة، وخاصة في الأحياء التي تضم غالبية من الفلسطينين، حيث تتحول كرة القدم الى لعبة سياسية، والويل لمشجع يُضبط وهو يساند الفريق الأمريكي، أو الانكليزي، سيتحول بلمحة بصر الى خائن، ويُفرك رأسه بالتراب، وسط تصفيق الجميع، وهم أثناء انتقال العدوى إليهم وسط مظاهر الاحتفال بمباريات كأس العالم لكرة القدم، تصبح متابعة مباراة بالنسبة إليهم حلما آخر، لأنهم وكأغلب فقراء العرب لم يتابعوا مباريات المونديال، وحسب الإحصائيات، فهناك مليون عربي فقط يتابعون، أو يقدرون علىمتابعة المباريات، بعد أن قام راديو وتلفزيون العرب"art" باحتكار البث لثلاثة مواسم قادمة من المونديال ورغم أن الصحون اللاقطة تنتشر على الأسطح بكثافة، ورغم أن أحداً من أهل الحي جازف واشترى من شركة الاتصالات ثمن الاشتراك والذي يعادل"150 دولار" لأنهم وبغالبية ساحقة، لا يجدون كفاف خبزهم اليومي، وقبل أيام قليلة من بدء المونديال، كانت طفلة صغيرة ماتت جوعاً، في نفس الحي الذي تتطاير فيه الكرات القماشية مثل العصافير، وأثيت الطبيب أن سبب الوفاة هو سوء التغذية، ورغم الموت جوعاً،غير بعيد عن خاصرة دمشق، فإن عائلة واحدة استطاعت الحصول على اشتراك في القناة المحتكرة، وكانت مصيبة عليهم، بعد أن تحول بيتهم إلى ملعب لسكان الحي بأكلمه، ورغم أن المطاعم والمقاهي، قامت ببث المباريات على شاشات عرض كبيرة، جذباً للزبائن، إلا أن هؤلاء الأطفال لم يكونوا ليحلموا بالحلوس يوماً في مقهى او مطعم، فأغلبهم يعملون في حاويات القمامة، وينزلون بين الأوساخ للحصول على الأواني الزجاجية الفارغة، ليقبضوا أجراً زهيداً، لكنه كاف، ليسدوا به رمقهم، آخر النهار. و الحالة لم تتغير أيام المونديال، فيعمدون إلى شتى الحيل، للوصول إلى أقرب مكان يستطيعون أن يشاهدوا فيه المباريات، وقد يتجمعون خلف زجاج أحد المقاهي، محملقين بالشاشة الكبيرة، خائفين، مذعورين، لكنهم يحتاجون لبضعة دقائق فقط، لأن صاحب المقهى، أو أحد العاملين، فيه سيخرح صارخاً بهم ليبتعدوا عن المكان، فيطلقون سيقانهم العارية، والموشومة بخرائط من الجروح والدمامل، للريح، وهكذا يعودون في أخر النهار إلى أزقتهم الضيقة، وكراتهم القماشية، وكل منهم يحلم أن يكون، رونالدينو، أو كاكا، أو زين الدين زيدان، فهم بكافة الأحوال، مجرد أشياء تمشي، وأدوات تُستهلك، لكن الأمر يختلف عندما يكون الواحد منهم سلعة باهظة الثمن تقدر بالملايين، وليس مجرد قطعة خردة لا تساوي شيئاً، وحلمهم الأقصى في ذلك هو، كرة قدم لامعة لايعرفون اسم الشركة المصنعة لها، لكنها بالتأكيد ليست كرة قماشية، تتحول إلى مزق قماش مع أول ركلة قوية باتجاه المرمى.
#سمر_يزبك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نجوم أمطار الصيف
-
كاميرا نوال السعداوي
-
غابة اميرتو ايكو
-
كاميرا حالمة
-
مستعمرة العقاب
-
الكاميرا والموت
-
عودة المثقف الحر
-
وثيقة بصرية عن الاعتقال السياسي
-
عقول خلف القضبان
-
المرأة في المؤتمر الموازي لمنتدى المستقبل
-
إنهم يقتلون النساء
-
قانون الأحوال الشخصية في سوريا: بين التعسف والمصادرة
-
المثقفون وحراس الكراهية
-
حكي النساء
-
هل نترك الباب مفتوحاً لاحتواء الثقافة إلى الأبد؟
-
من ينقذ التلفزيون السوري من الشعوذة؟
-
سمير قصير ودموع اميرالاي
-
الاعلام العربي: قلق الهوية وحوار الثقافات
-
نحن السوريون:مالذي سنكتبه
-
دمشق تدعوك
المزيد.....
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|