|
هل للسعادة من باب … ؟! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6693 - 2020 / 10 / 3 - 14:15
المحور:
الادب والفن
هل السعادة في : الغنى ، الصحة ، الجمال ، الجاه ، السلطة … ؟ ام في كل هذه التفاصيل مجتمعة ، وهو من سابع المستحيلات ؟ صاحبنا وبطل حكايتنا هذه لا يمتلك واحدة من هذه العوامل ، ومع ذلك فهو سعيد ، بل سعيد جدا … ! الاحداث في العهد الملكي في العراق ، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي … ( نعيم ) وهذا هو اسم بطلنا … ! شاب قد تجاوز الثلاثين باشواط ، وشارف على الاربعين ، ولم يتزوج لعدم امتلاكه لمقومات الزواج المكلفة … اما عن شكله فهو ابيض البشرة … يعاني مما يسمى بشق الارنب في شفته العليا … متوسط القامة نحيف محدودب الظهر قليلا هزيل البنية شعره اجعد يميل الى الاحمرار مع صلع خفيف في اعلى الجبهه . اما عمله … فهو يعمل ( كنّاس ) في احد اهم الاحياء في مدينتنا ، المسمى بحي الضباط ، وهو حي راقٍ ، وحديث في زمانه … بيوته كبيرة وحدائقها واسعة ، غنّاء … ضاحكةً بازهارها ، وورودها … يقطنه كبار الضباط الانكليز ، وعوائلهم ، والمسؤولين الكبار من باشوات ، وغيرهم في العهد الملكي البائد قبل انهاء الملكية في العراق … من امثال الكابتن موريس الذي وجدوه في المغطس داخل حمام بيته ميتا ، او منتحرا كما تطايرت الانباء … عندما نجحت الثورة ، وسقط النظام الملكي الاقطاعي بعد ذلك بسنين … ! المهم … ! ياتينا ( نعيم ) وبشكل شبه يومي باخبار الانكليز وعوائلهم بحكم عمله هناك … كيف كانوا يعيشون في رغد ، وبحبوحة اسطورية متمتعين بكل مسرات الحياة ولذائذها … يثير دهشتنا واستغرابنا بحكاياته … ونتعجب مما نسمع ، ولا نستطيع مهما اطلقنا العنان الى مخيلتنا الصغيرة المحدودة ان نتصور شكل الحياة عندهم ، ونقارن بين ما كنا نعيشه من بؤس وشقاء وعدم ، وبين ما يسرده على اسماعنا من اشياء خيالية ، وغريبة لا تتحملها عقولنا البكر الصغيرة ! كانت المرافق الصحية مثلا في ذلك الزمان الاغبر ترفا ما بعده ترف … لا تتوفر في كل البيوت … لهذا كنا في معظمنا نقضي حاجتنا في الازقة الضيقة كالبهائم ، وباختصار … كان اكثرنا يعيش كما تعيش الحيوانات المنفلتة ، وربما اسوء … ! وكان ( نعيم ) بالرغم من كل ذلك ، يسرد علينا بالتفصيل ما يشاهده من مناظر تسر العين ، وتنعش القلب ، وتفتح النفس ، حتى كنا نحسده على مهنته ككنّاس التي تتيح له كل هذه الاطايب والمسرات ، ويصور لنا باسلوبه المرح كيف يختلس النظر بحذر شديد الى الفاكهة المحرمة … الى الجنة بدون آدم … الى بنات وزوجات الانگليز الشقراوات الفاتنات ، وهن يلعبن التنس نصف عاريات ، او يسبحن في مسابح منزلية واسعة في حدائق البيوت الكبيرة … عاريات الا من ورقة التوت ، ويقفزن في الفضاء ، وكأنهن فراشات ملونة ، وكيف ان كل حديقة من هذه الحدائق كانت اكبر في مساحتها من حينا البائس كله . ربما كانت هذه المناظر ، وتلك الحياة فوق الخيال كانت تشكل الما ، وحسرة من نوع ما الى المسكين ( نعيم ) والتي سيكون لها اثرا مدمرا في نفسيته مستقبلا كما سنرى ! وتنعكس علينا ايضا فتجعل رؤوسنا تغلي بالاحلام الطفولية الفارغة … ! كما كان يسرد لنا كيف ان الضباط الانكليز كان عندهم سينما خاصة بهم تعرض افلاما عن الحرب ، والحب ، والغرب الامريكي … وغيرها يشاهدونها وهم نصف سكارى ، او كاملي السكر ، اما الطعام فمما لذ وطاب من زيتونٍ واعناب … يلقون الفائض منه دون مبالاة في حاويات الزبالة ، يجمع نعيم وزملائه الصالح منه وياكلونه ، وباقي فضلات الطعام يأتي بها الى بيت شقيقه ليتناولونها وجبة دسمة … وهكذا ! اما الغنى … فهو في واد والغنى في واد اخر … ! يعطي ( نعيم ) راتبه الضئيل كله تقريبا الى شقيقه الاكبر حتى يفرد له من بيت الطين الذي يقاسمهم العيش فيه غرفة صغيرة بالكاد تكفيه ، ولا تتوفر فيها اي وسيلة من وسائل الراحة والترفيه … ! ولكنه سعيد ، بل في غاية السعادة ، او هكذا اقنعنا ! لا تراه الا وهو مبتسم … ابتسامة لا تفتر … يصفر بلحن جميل ، ويقفز سرورا ، وكأنه يرقص في الهواء دون ايقاع ، ولا يحدد سروره شئ ، ولا ينغصه شئ مهما كان … متفائل على طول الخط ، وكأن الدنيا والحياة سهلة ، وبسيطة ما عليك الا ان تعيشها ، وتتمتع بما متوفر بين يديك من سعادة ، مؤمنا بانه يمارس حقا طبيعيا منحته اياه الحياة برغبتها او رغما عنها … لا فرق ! هذه هي فلسفته التي يؤمن بها ! فهو يبدو لنا سعيدا دائما مقبل على الدنيا غير مدبر ، ولا اعتقد ان احدا منا كان يعرف سر هذه السعادة الدائمة … هل هي حقيقية تنبع من اعماق اعماقه ، ام مفتعلة يداري بها ما يعتلج في داخله من الم ومكابدة … ؟ لا احد يدري … ! فعلى الرغم من كوننا صغارا الا اننا تصورنا بعقولنا البسيطة الطيبة ان سعادته حقيقية ، وفوق مستوى الشك ! كثيرا ما كان يأتي باشياء تبهرنا ، وتشعل خيالنا المحدود الفضاء بنار الخيال … نتحلق حوله ، وهو يعزف لنا على قيثارة مكسورة ، او هارمونيكا مكسورة ايضا ، او كمان بدون اوتار … قد قام باصلاحها جميعا بمهارة ، وحولها الى الات صالحة للاستعمال … كما يعرض علينا معايدات وصور مليئة بالالوان ، والرسومات الجميلة لفتيات شقراوات يافعات يحتفين باعياد الميلاد وراس السنة … كل هذه الاشياء يجمعها مما تلقيه عوائل الضباط الانكليز من اشياء مستهلكة ، او تالفة في حاويات القمامة ، ونحن ننظر الى هذه المشاهد فاغري الافواه ، وكأننا مصعوقين بمس كهربائي ! يُسلمْ ( نعيم ) نفسه لشيطان الرقص … على انغام القيثارة ، والهارمونيكا فرِحا سعيدا … ربما متخيلا نفسه واحدا من الضباط الانكليز … ! ويصيبنا من سعادته ومرحه نصيب فتسري عدوى الرقص والغناء بيننا ، على امعاء خاوية ، واجساد هزيلة تسترها اسمال بالية … تصوروا ! في بلدنا يتنعم غيرنا بخيراتنا على حساب جوعنا ، ونحن نعيش الحرمان ، هذه هي الدنيا … قاسية لا قلب لها ! ولكنه يفاجئنا احيانا بقهقهات عصبية ، ويطلق ضحكات لا معنى لها كأنها طرقعات سياط ! حتى قال احدهم يوما ان نعيم يعاني اكثر مما نتصور ، وقد ياتي اليوم الذي ستقذف به هذه المعاناة الى غياهب الموت او الجنون … ! وما سعادته ومرحه الا بخارا حبيسا لابد ان يجد له متنفسا ، والا انفجر بوجه صاحبه وانهاه … ! لقد زلزلت هذه النبوءة ايماننا الراسخ في ( نعيم ) وفي سعادته التي وصفها البعض منا بانها حتما مزيفة … وصَدَقوا ! لاحظنا ان ( نعيم ) بدء يتهرب منا ، وعندما كنا نمسكه في طريق ما لانراه الا عابسا قانطا مطأطأ حتى نكاد لا نعرفه … ينظر بعينين لا تريان شيئاً ، يحاور نفسه كمجنون ، وازداد نحولا وشحوبا حتى فقد الوعي بما حوله … هل اصاب ارادته مرض ، فانكر الدنيا ، ولم يعد يعرفها … وتغلب يأسه على امله ، وحزنه على فرحه ومرحه … ؟! قال البعض ان نعيم قد سقط في قبضة الكآبة التي لا ترحم فنالت منه كل منال ! حتى كان يوما باردا من ايام كانون استيقضنا على اصوات موحشة تنعي ( نعيم ) وتعلن خبر موته المفاجئ ، ويقولون ان ابتسامة جميلة طيبة كانت تُشع من وجهه ، وكأنه كان يحلم حلما ورديا من احلامه التي تنسجها مخيلته المعدمة في نفس اللحظة التي خرج فيها السر الالاهي … فبقيت ابتسامته ساكنة مطمئنة على وجهه الطفولي البرئ ، وكأنها تعكس ما كان عليه يوما سعيدا مسرورا ! لقد كان شعلة من جمر فاصبح رمادا … ونسيا منسيا ! هكذا عاش ، وهكذا مات … فهل كان سعيدٌ حقا ؟!
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )
-
ابن زنا … ! ( قصة قصيرة )
-
ما موقف الاخوان في حال وقوع صدام بين مصر وتركيا ؟!
-
ماذا بعد الضم ان حصل … ؟!
-
الاخوان … والنفخ في صورة مرسي !
-
هل العقوبات الاقتصادية تُسقط نظاما … ؟!
-
هل ( صدق الله العظيم ) بدعة … من صنع بشر ؟
-
الاسلاميون … والمتاجرة بكورونا !
-
هل يستطيع الاردن مواجهة اسرائيل عسكريا ؟!
-
الاخوان … اعداء الاوطان !
-
امريكا : الجوهرة … المدفونة في العفن !
-
امريكا … نار تحت الرماد !
-
الاخوان عصا في الدولاب … الغنوشي نموذج !
-
القضية الفلسطينية … وقبلة الحياة !
-
يكاد المريب ان يقول خذوني … !
-
الأخوان … وأطروحاتهم الجديدة للوصول إلى الحكم !
-
هل كورونا آخر المطاف … ؟!
-
كورونا … درس باهض الثمن !
-
من سيحسم الانتخابات الامريكية المقبلة لصالحه … ؟
-
اخيرا تمخض الجبل فولد حكومة : ( ليس بالإمكان أفضل مما كان )
...
المزيد.....
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|