أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الأولى















المزيد.....



نقد الاركونية / الحلقة الأولى


رواء محمود حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6690 - 2020 / 9 / 28 - 08:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



تفكيك منهج (نقد العقل الإسلامي)
وتقويم مشروع (الإسلاميات التطبيقية)
عند محمد آركون


تأليف
د. رواء محمود حسين


بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

[النحل: 125].


الإهداء

إلى الدكتور طه عبد الرحمن من أجل (روح الحداثة)
وباقي تفاصيل المشروع النقدي


المقدمة

حمداً لله، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى:
يتضمن هذا الكتاب جدالاً مع الدكتور محمد آركون في مشروعه الذي أسماه: (نقد العقل الإسلامي)، و(الإسلاميات التطبيقية)، ويتوزع جدالنا مع آركون على المباحث الآتية:
المبحث الأول: ناقشنا فيه مفهوم الإسلاميات التطبيقية، وأهدافها، ومنهج آركون النقدي، ومشكل التعقيد في منهج آركون النقدي (أو) إشكالية الفلسفة الوضعية في سياق نقد العقل الإسلامي، ومفهوم الأبستيمي عند آركون ومرجعياته الفلسفية.
المبحث الثاني: قدمنا فيه نقداً على نقد آركون للعلوم الإسلامية، ممثلة ب: أصول الدين، تفسير القرآن الكريم وعلومه، الحديث الشريف وعلومه، اللغة العربية وأصول الفقه.
المبحث الثالث: قدمنا فيه قراءة نقدية لمنهج آركون التاريخي، من خلال التركيز على مفهوم القطيعة التاريخية عند آركون وامتداداته الفلسفية.
المبحث الرابع: ناقشنا فيه القضايا الآتية: نقد العقل الإسلامي في إطار الفلسفة الجدلية الاجتماعية: إشكال منهجي صارم عند محمد آركون، مقدمة موجزة في الفلسفة الجدلية الاجتماعية، إشكالية الفلسفة الجدلية الاجتماعية عند محمد آركون، الفكر والوحي، السيادة العليا في الإٍسلام، معنى كلمة " إسلام " و " مسلم "، إشكالية العقلانية النقدية عند محمد آركون، وغيرها.
ومن الله سبحانه العون والتوفيق.





الفصل الأول

ما الإسلاميات التطبيقية؟


المبحث الأول
الطريق الصعب


يشير آركون أن الفتوحات العلمية والفلسفية التي حصلت في أوربا خلال القرون الثلاثة الفائتة ظلت أمراً مجهولاً بالنسبة للعقل الإسلامي، ولا تزال معرفتنا بها ناقصة أو مشوهة، وبالتالي ينبغي تشكيل معرفة تاريخية كاملة بها في اللغات الإسلامية الأساسية: كالعربية، والتركية، والفارسية... بمعنى أن المرور بالحداثة الكلاسيكية، يمثل ضرورة تاريخية. ويشير إلى حاجتنا إلى تأسيس بيت للترجمة على غرار بيت الحكمة العباسي الذي أسسه المأمون في القرن الثالث الميلادي لنقل الفكر اليوناني، لأننا، كما يعتقد آركون، بحاجة إلى الشيء ذاته من أجل نقل العقل الأوربي. لا بد للعرب، يشدد آركون، من المرور بمرحلة الحداثة الكلاسيكية الأوربية من أجل ممارسة العقل المستقل لأول مرة في تاريخهم، ويحدد آركون مفهوم (العقل المستقل) بأنه: " العقل المستقل عن مسلمات اللاهوت الديني، ينبغي، يذكر آركون، أن يذوق العرب معنى الحرية [هل يقصد آركون أن العرب لا يعرفون معنى الحرية]، وأن يخرجوا من القفص، أو من السجن الذاتي للذات (الخروج من الشرنقة) .... ومن يقل غير ذلك فهو مخطئ. ينبغي أن ينتهي العصر الإيديولوجي العربي يوماً ما، لكي يحل محله العصر الإبيستمولوجي أو المعرفي العميق (أي الهادف إلى البحث عن الحقيقة قبل أي اعتبار آخر)، لقد مللنا من الضجيج والعجيج الإيديولوجي. (ينظر: محمد آركون: " قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ "، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، بدون بيانات أخرى، ص 322. ينظر بحثنا (بالفرنسية) عن محمد آركون:Rawaa Mahmoud Hussain, L’Arkounisme : Le phénomène philosophique et la critique historique, Islamic Wisdom : Working Papers. Depositories of Wisdom (http ://rawaahussain.blogspot.com/, on 12 / 11 / 2013. The full paper could be downloaded through the following site: https://docs.google.com/file/d/0BxMvuzWyFCOgYWVLLVlxbHU1M0k/edit).


يقصد آركون بالحداثة الكلاسيكية الحداثة الغربية خلال القرون الثلاثة الفائتة. ويعرف الان تورين الحداثة، بأنها: "في شكلها الأكثر طموحاً، هي التأكيد على أن الإنسان هو ما يفعله". هناك إذن صلة تتوطد أكثر فأكثر بين الإنتاج الذي أصبح أكثر فعالية بفضل العلم والتكنولوجيا والإدارة من جانب وبين تنظيم المجتمع الذي ينظمه القانون والحياة الشخصية وتنعشه المصلحة وكذلك الرغبة في التحرر من كل الضغوط من جانب آخر. العقل وحده، كما يؤكد تورين، يوطد الصلة بين الفعل الإنساني ونظام العالم، وهذا ما كان يبحث عنه الفكر الديني من قبل ولكنه كان مشلولاً بسبب الغائية الخاصة بالأديان التوحيدية القائمة على الوحي. والعقل هو الذي يهب الحياة للعلم وتطبيقاته، وهو أيضاً الذي يتحكم في تكييف الحياة الاجتماعية مع الحاجات الفردية والجماعية، وهو الذي يضع سيادة الدولة والقانون محل التعسف والعنف. وعندما تتصرف الإنسان وفقاً للقانون تتقدم نحو الوفرة والسعادة والحرية (ينظر: آلان تورين: " نقد الحداثة"، ترجمة أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1997 م، ص 19).

ولكن هل الأنساق المعرفية للحداثة الأوربية تشبه الأبنية الفكرية العميقة للمنظومة الدينية والحداثية في الإسلام؟
يؤكد تورين أن الحداثة (ويقصد بها الحداثة الأوربية بشكل عام) ليست فلسفة تقدم، بل على العكس، هي فلسفة نظام يجمع الفكر اليوناني القديم بالفكر المسيحي، مشكلة قطيعة مع التراث، وفكراً للعلمنة، وتدميراً للعالم المقدس، ومحاولة جديدة وقوية للحفاظ على اتحاد الإنسان بالكون، في ثقافة قد تم بالفعل علمنتها (ينظر: تورين: " نقد الحداثة"، ص 46).

ومن أجل الخروج من إشكاليات منهج التحديث عند آركون نقدم الملاحظات الآتية عن الحداثة في الإسلام:
- إنها تعتمد بالإساس الوحي (القرآن والسنة) والفكر والتاريخ الإسلامي.
- الحداثة في الإسلام لا يمكن أن تشكل قطيعة مع التراث الإسلامي، ولن تعمل على تدمير العالم المقدس، بل هي تستمد من المقدس أسسها.
- الحداثة الإسلامية ليست فقط محاولة جديدة وقوية للحفاظ على اتحاد الإنسان بالكون فقط، بل هي ملتزمة بشكل كبير بالمفاهيم الناتجة عن عقيدة التوحيد.
(قارن مع البحوث الآتية لآركون:
Mohammed Arkoun, « Islam et démocratie.. Quelle démocratie? Quel islam? », Cités 4/2002 (n° 12), p. 81-99. URL: https://www.cairn.info/revue-cites-2002-4-page-81.htm. DOI: 10.3917/cite.012.0081.
Saint-Blancat Chantal, « Mohammed Arkoun, La construction humaine de l islam. Entretiens avec Rachid Benzine et Jean-Louis Schlegel. Paris, Albin Michel, coll. « Itinéraires du savoir », 2012, 221 p.», Archives de sciences sociales des religions 4/2012 (n° 160) , p. 114-114. URL: https://www.cairn.info/revue-archives-de-sciences-sociales-des-religions-2012-4-page-114.htm. ).


علماً أننا قد بحثنا الإشكاليات الكامنة في الحداثة في الفلسفة الإسلامية المعاصرة بشكل مطول فيما سبق. وبينا أن إشكالية الحداثة في الفلسفة الإسلامية المعاصرة تكتسب أهميتها بوصفها ديناميكية ناشئة من داخل البنية الدينية والفلسفية والاجتماعية والفكرية الإسلامية، ولكونها رد فعل على مقولات الحداثة الغربية وفقاً لمنطق الإيجابي والسلبي (ينظر: د. رواء محمود حسين: " إِشكالية الحداثة في الفلسفة الإسلامية المعاصرة: دراسة وصفية"، ط 1، دار الزمان، دمشق، 2010 م، ص 11)، وقدمنا قراءات نقدية عديدة للحداثة الغربية أيضاً (ينظر: د. رواء محمود حسين: " الحداثة المقلوبة – نقد النقد الأوربي حول مفهوم الدين وماهية الفلسفة وإيديولوجيا العلم"، ط1، المركز العلمي العراقي، بغداد، دار البصائر، بيروت، 2011 م، وانظر كتابنا: " صيدلية هوسرل: مقدمة في النقد الوحيوي للفلسفة الفنومينولوجية (أزمة الإنسان ومشكل العلم)"، ط1، دار ناشري للنشر الاليكتروني، الكويت، 2014 م.
وانظر الأبحاث الآتية بالعربية:
1- د. رواء محمود حسين: "طه عبد الرحمن والمراجعة النقدية للعولمة"، ضمن: أعمال المؤتمر الفلسفي الثامن، قسم الدراسات الفلسفية، بيت الحكمة، بغداد، اشراف ومراجعة أ. د. حسام الالوسي، اعداد م. م. هديل سعدي موسى، 2009 م، الصفحات: 449 – 472. وتلاحظ ملخصات ومراجعات نشرت عن هذا البحث في: مجلة "فيض الحكمة"، العدد 2، بيت الحكمة، بغداد، 1430 ه – ابريل / 2009 م، ص 31. ومجلة: "دراسات فلسفية"، قسم الدراسات الفلسفية، بيت الحكمة، بغداد، بيت الحكمة، بغداد، العدد 22، بغداد، 2009 م، ص 158.
2- د. رواء محمود حسين: "نحو علم اسلامي روحي: مساهمة في نقد الأزمة المادية للحداثة والإنسان المعاصر"، مركز نماء للبحوث والدراسات، المملكة العربية السعودية، 24/11/2013، رابط التحميل: http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?ID=321
وبالإنكليزية، تنظر أبحاثنا الآتية:
1- Rawaa Mahmoud Hussain, Iraqi Dogmatism: A Historical and Critical Approach, Middle East Studies Online Journal, Issue N° 5, Volume 2, (2011) https://www.middle-east-studies.net/wp-content/uploads/2011/04/rawaa-iraqi.pdf
2- Rawaa Mahmoud Hussain, Iraqi Model of Pluralism: How Philosophy Can Contribute To Resolving the Ideological Conflict in Iraq, Existenz, No 1, Volume 6, spring 2012. http://www.bu.edu/paideia/existenz/volumes/Vol.6-1Hussain.pdf 3-
3- Rawaa Mahmoud Hussain, Introduction to Iraqi Humanism, ETHOS: Dialogues in Philosophy and Social Sciences, July 2012, 5(2), pp. 72-89. http://www.ethosfelsefe.com/ethosdiyaloglar/mydocs/Ethos%2011-%20Iraqi.pdf

إن مقارنة سريعة بين مقاربة آركون حول الحداثة وأفكار تورين حولها أيضاً تكشف وبسرعة أن آركون يكاد يستنسخ نظرية الحداثة في سياقها الفلسفي والاجتماعي عند الآخر ويطبقها بشكل جذري على العقل الإسلامي.
ينتقد د. طه عبد الرحمن ما يسميه ب (خطط القراءات الحداثية المقلّدة)، وقد اتبعت هذه القراءات في تحقيق مشروعها النقدي ستراتيجيات أو خططاً إنتقادية مختلفة، كل منها تتكون من عناصر ثلاثة يسميها (أركان الخطة):
أولها: الهدف النقدي الذي يقصد عبد الرحمن تحقيقه.
ثانيها: الآلية التنسيقية التي توصل إلى هذا الهدف.
ثالثها: العمليات المنهجية التي يتم التنسيق بينها للوصول إلى هذا الهدف.
ويلاحظ عبد الرحمن أن الهدف الذي تسعى إليه كل هذه الخطط النقدية هو إزالة عائق إعتقادي معين، وهذه الخطط كالآتي:
(1) خطة التأنيس: أو خطة الأنسنة، وتستهدف إزالة (عائق القدسية)، والذي يتمثل في إعتقاد أن القرآن كلام مقدس، والآلية التنسيقية لخطة التأنيس تتمثل في نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، بواسطة عمليات منهجية خاصة، منها: أ. حذف عبارات التعظيم التي يستعملها جمهور المؤمنين مثل: القرآن الكريم، القرآن العزيز، أو القرآن المبين، أو الآية الكريمة، أو قال الله تعالى، أو صدق الله العظيم. ب: إستبدال مصطلحات جديدة بأخرى مقررة، مثل إستخدام مصطلح ( الخطاب النبوي ) مكان مصطلح ( الخطاب الإلهي )، ومصطح ( الظاهرة القرآنية ) أو ( الواقعة القرآنية )، مكان مصطلح ( نزول القرآن )، ومصطلح المدونة الكبرى، مكان القرآن الكريم. ج. التسوية في رتبة الإستشهاد بين الكلام الإلهي والكلام الإنساني: لا يجد القارئ الحداثية حرجاً في أن ينزل الإستشهاد بالأقوال البشرية منزلة الإستشهاد بالآيات، كأن يصدر فصول كتابه بآيات قرآنية مقرونة بأقوال لدارسين من غير المسلمين، بل غير مؤمنين. د. التفريق بين مستويات مختلفة في الخطاب الإلهي: يفرق القارئ الحداثي بين الوحي والتنزيل، ويفرق بين القرآن الشفوي والقرآن المكتوب، أو يفرق بين الوحي في اللوح المحفوظ والوحي في اللسان العربي (ينظر: طه عبد الرحمن: " روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية "، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت، 2006 م، 177 – 179).

( 2 ) خطة التعقيل: أو خطة العقلنة، وتستهدف رفع ( عائق الغيبية )، ويتمثل هذا العائق في اعتقاد أن القرآن وحي ورد من عالم الغيب، وآلية التنسيق التي تتوسل بها خطة العقلنة أو التعقيل في إزالة هذا العائق هي التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، وذلك من خلال: أ. نقد علوم القرآن: يعتقد القارئ الحداثي أن علوم القرآن التي اختص بها علماء المسلمين تشكل وسائط معرفية متحجرة تصرفنا عن الرجوع إلى النص القرآني ذاته كما أنه تحول دون أن نقرأ هذا النص قراءة تأخذ أسباب النظر العقلي الصريح. ب: التوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان، أي نقل المناهج في علوم الأديان المتبعة في نقد التوراة والإنجيل إلى مجال الدراسات القرآنية، معتبراً وضع الكتب المنزلة ومقتضياتها الدينية واحدة، ومن هذه العلوم: علم مقارنة الأديان، وعلم تاريخ الأديان، وتاريخ التفسير، وتاريخ اللاهوت. ج: التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع: لم يجد القارئ الحداثي حرجاً في أن ينزل مختلف مناهج علوم الإنسان والمجتمع على النص القرآني، معتبراً مقتضياته البحثية لا تختلف عن مقتضيات غيره من النصوص، نذكر من هذه العلوم على الخصوص" اللسانيات والسيميائيات وعلم التاريخ وعلم الإجتماع وعلم الأناسة وعلم النفس والتحليل النفسي. د. إستخراج كل النظريات النقدية والفلسفية المستحدثة: لا يترج القارئ الحداثي في الإٍستعانة بكل النظريات النقدية التي تسارع ظهورها في الساحة الأدبية والفكرية في النصف الثاني من القرن الماضي، غير مكترث بمآلات هذه النظريات ولا بتجاوز بعضها ولا بأفول بعضها، منها: إتجاه تحليل الخطاب، والإتجاهات الجديدة في النقد الأدبي، المتمثلة في البنيويات والتأويليات والحفريات والتفكيكية. ه. إطلاق سلطة العقل: لقد قرر القارئ أنه لا آية قرآنية تمتنع على اجتهاد العقل، بل لا توجد في نظره حدود مرسومة يقف العقل عندها، ولا آفاق مخصوصة لا يمكن أن يستطلعها، وإذا كان حال العقل مع الآيات القرآنية كذلك، فكيف حاله مع تفاسير هذه الآيات التي وضعها المتقدمون، فإن لم يجردها من صحتها أو فائدتها، فلا أقل من أنه يثير الشبهات حولها (ينظر: طه عبد الرحمن: " روح الحداثة "، ص 181 – 183).

( 3 ) خطة التأريخ: أو خطة الأرخنة، وتستهدف أٍساساً رفع عائق الحكمية بضم الحاء، ويتمثل هذا العائق في اعتقد أن القرآن جاء بأحكام ثابتة وأزلية، والآلية التنسيقية التي تتوسل بها خطة التأريخ في إزالة هذا العائق هي وصل الآيات بظروف بيئتها وزمنها وبسياقاتها المختلفة، ويتم هذا الوصل بواسطة عمليات منهجية خاصة منها: أ. توظيف المسائل التأريخية المسلم بها في تفسير القرآن: حقاً هناك مسائل اشتغل بها قدماء المفسرين تكشف عن ارتباط بعض آيات الأحكام بالوقائع التاريخية، مثل: مسألة أسباب النزول، ومسألة الناسخ والمنسوخ، ومسألة المحكم والمتشابه، ومسألة المكي والمدني، ومسألة التنجيم، وقد وجد أهل الحداثة في هذه المسائل ضالتهم، فركبوها لتقرير البنية التاريخية الجدلية للآيات القرآنية، وتحصيل المشروعية لممارسة النقد التاريخي على هذه الآيات، متجاوزين الحدود التي وقف عندها المفرسون والفقهاء، بل مبرزين تنقاضات هؤلاء في الإقرار بوجود التأريخية والقول بوجوب الأزلية. ب: تغميض مفهوم الحكم: يرى أهل القرآءة الحداثية المقلدة أنه لا يمكن أن نطابق بين آية الحكم وبين القاعدة القانونية، فإذا كانت القاعدة القانونية عبارة عن أمر صريح باتباع سلوك مضبوط في ظروف معينة تؤدي مخالفته إلى إنزال عقاب مخصوص بمخالفه، فإن الحكم الذي تتضمنه الآية القرآنية ليس كذلك، فإنه قد يأتي تارة بصيغة الأمر، وتارة بصيغة الخبر بحيث لا نعرف على وجه اليقين – كما يزعمون – مضمونه التشريعي، كما أنه قد يتردد بين أن يكون قراراً عاماً وأن يكون قراراً خاصاً، وبين أن يكون قراراً ناسخاً وأن يكون قراراً منسوخاً، كل ذلك يؤدي، في نظرهم، إلى اختلاف شديد في القيمة التشريعية لآيات الأحكام وفي صفتها الإلزامية. ج: تقليل عدة آيات الأحكام: يرى الحداثيون أن آيات الأحكام وهي لا تمثل إلا نسبة محدودة من جملة الآيات القرآنية متأثرة بالأحوال والأوقات الخاصة التي نزلت فيها، حتى أن أكثرها عندهم قد نسخ وبعضها تجاوزه التاريخ بغير رجعة، لذلك دعوا إلى اقتصار على أقل عدد ممكن من هذه الآيات قد لا يتعدى ثمانين آية. نظراً لما يمكن أن يحمله المستقبل من أسباب تجاوز لهذه الآيات (ينظر: طه عبد الرحمن: " روح الحداثة "، ص 184 – 186).

ويضيف د. طه عبد الرحمن إلى منهج التأريخ الحداثي ما يأتي أيضاً:
د. إضفاء النسبية على آيات الأحكام: يذهب القراء الحداثيون إلى أن آيات الأحكام لا تحيل على أسباب نزولها – متعلقة معانيها بهذه الأسباب – فحسب، بل إنها تحيل أيضاً على تاريخ تفسيراتها المتعددة، هذا التاريخ الذي يزيد هذه المعاني تعلقاً بظروفها، بسبب أن الفقهاء والمفسرين قد فهموا هذه الآيات فهوماً مختلفة باختلاف مشاريعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في سياق الظروف التاريخية المتقلبة للمجتمع الإسلامي. وبهذا لا يمكن أن تحمل هذه الآيات معاني مستقرة، ولا بالأولى مطلقة. ه. تعميم الصفة التأريخية على العقيدة: يرى أهل القراءة الحداثية المقلدة أن التأريخية لا تدخل على آيات الحدود والقصاص والمعاملات فقط، بل إنها تدخل أيضاً على آيات العبادات، ذلك أن العقائد التي جاءت بها هذه الآيات هي، بحسبهم، تابعة لمستوى المعرفة في العصر الذي نزلت فيه، وعندها، يكون القرآن قد اعتمد تصورات مرتبطة بدرجة الوعي النقدي درجات، لزم أن تكون بعض هذه التصورات على الأقل ذات صبغة أسطورية (ينظر: طه عبد الرحمن: " روح الحداثة "، ص 185 – 186).

لكن هل نص آركون المتقدم يعني: أن العرب خلال تاريخهم لم يكن لديهم عقلاً مستقلاً، ومن أجل الحصول عليه لا بد أن يمروا بمرحلة الحداثة الكلاسيكية في صياغتها عند الآخر من أجل الحصول على استقلالية العقل؟ وإذا كان العقل المستقل بالمعنى السابق الذي ذكره آركون: العقل المستقل عن مسلمات اللاهوت الديني، هل يكون بهذا المعنى مفيداً للعرب؟ الا يمكن للعرب عقلاً متصلاً بالدين اتصالاً وثيقاً ويكون منفتحاً وإنسانياً وحضارياً؟

يؤكد الأستاذ العقاد أن من مزايا القرآن الكريم الواضحة مزية يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتاً تؤيده آرقام الحسابات ودلالات الألفاظ، وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف. والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، وتأتي الإِشارة إليه في كل موضع من القرآن مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه، وتكرار الإشارة يشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء (ينظر: عباس محمود العقاد: " التفكير فريضة إسلامية"، نهضة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص 3 – 4).

ومن قبل بين ابن تيمية أن " الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلي التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صوف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه، لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلي النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدي والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك، حتى أوضح الله به السبيل، وأنار به الدليل، وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم" (ينظر: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ): " درء تعارض العقل والنقل "، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، ط2 ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، 1411 هـ - 1991 م، 1/ 22 – 23).

يستهل آركون مشروعه في تاريخية الفكر العربي الإسلامي ب (نحو نقد العقل الإسلامي) ليكون، كما يقول، انفتاحاً على الطريق الطويل والصعب لتأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي. أي الانفتاح على كل تجليات هذا الفكر وإنتاجاته التي تتجاوز الحدود والحواجز التي فرضتها الأدبيات الهرطقية (= البدعوية) والتيولوجية. كما أنه منفتح على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب منذ ثلاثين سنة. وهو أيضاً تاريخ تطبيقي عملي في نفس حركة البحث ذاتها لأنه يهدف إلى تلبية حاجيات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر وسد نواقصه منذ أن كان هذا الفكر قد اضطر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، والمركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 1996 م، ص 11).

إذن منذ الفقرة الأولى من كتاب ( تاريخية الفكر العربي الإسلامي ) يشرع آركون بكشف أوراق منهجيته فالمشروع ( نقد للعقل الإسلامي ) والهدف ( تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي) [ وكأن هذا الفكر وقد مر عليه أربعة عشر قرناً غير منفتح ولا تطبيقي ]، والأهم من ذلك أن مشروع نقد العقل الإسلامي منفتح على علوم الإنسان والمجتمع بصياغتها الغربية خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولا ندري لم حددها بصياغتها الغربية أو بالثلاثين سنة الأخيرة، ولكن ندري أن هذا العلوم الإجتماعية والإنسانية التي ينطلق منها آركون في نقده للفكر الإسلامي هي من صياغة مخالفة للبنية المفاهيمية للفكر الإسلامي، وهذه نقطة غاية الأهمية في الملاحظات التي سندرجها في هذا البحث لاحقاً إن شاء الله.
يتحدث اركون عن مستويين من التفكير، وهما:
الأول: مستوى ما يمكن التفكير فيه للمتكلم. وهو متعلق بقدرة المتكلم على استخدام اللغة التي يستعملها، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي يتكلم بها المتكلم. كما أنه يرتبط أيضاً بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1999م، ص 9-10).

الثاني: المستوى المتكلم به، وبالمدة التاريخية من مدد تطور تلك الجماعة، ثم إنه يتعلق أيضًا بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة اللذين يتضامن معهما المتكلم. ويضاف إلى ذلك طبعاً مستوى ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يُفكر فيه بعد مستوى ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة. ويضرب اركون على ذلك المثال الآتي: لم يكن بإمكان أي فقيه أو متكلم أو فيلسوف طيلة العصور الوسطى وحتى فجر الحداثة أن يفكر في المواطنية بالمعنى الذي نعرفه حالياً. أي المواطنيّة كفضاء يتساوى فيه جميع المواطنين بغض النظر عن أصلهم العرقي أو دينهم أو مذهبهم أو جنسهم. إن مفهوم الشخص بقي حتى الآن مقيداً بشروط دينية أو عنصرية أو قومية أو سياسية في الكثير من البيئات والمجتمعات والأطر الفكرية السائدة في السياقات الإسلامية. وما لا يمكن التفكير فيه يعود أيضاً إلى ما تمنعه السلطة الدينية أو السلطة السياسية الدولة القائمة أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدسها وجعلها أساساً مؤسساً لكينونته ومصيره وأصالته (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 10).

لا أبالغ بالقول إن جل فلسفة اركون تتمحور في شيئين اثنين، النص والمتلقي، يقول اركون في مقدمة الطبعة العربية لكتابه: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل":
" لقد حاولت في الدراسات التي جمعتها بين دفتي هذا الكتاب أن ألفت الانتباه إلى مساعي القدماء لتأصيل الأصول وإلى فهمهم لوظائف تلك العملية. ولم يكن مقصودي الأساسي من ذلك وصف أعمالهم أو تتبع خلافاتهم والإشارة إلى من وئق ومن فشل في تأصيل أصول الدين وأصول الفقه، وإنما أردت قبل كل شيء أن أنقد مفهوم الأصل وعملية التأصيل، أو بالأحرى الادعاء بإمكان التأصيل لحقيقة ما، دينية، أم علمية، أم فلسفية، أم أخلاقية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، من تصرفات الأصوليين والأصولويين القدماء والمعاصرين" (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 9).

يسمي اركون القرآن بالخطاب النبوي: " أي ذلك الخطاب الذي يقيم فضاء من التواصل بين ثلاثة اشخاص قواعدية: أي ضمير المتكلم الذي ألف الخطاب المحفوظ في الكتاب السماوي. ثم الناقل بكل إخلاص وأمانة لهذا الخطاب والذي يتلفّظ به لأول مرة. (أي ضمير المخاطب الأول - النبي)، ثم ضمير المخاطب الثاني الذي يتوجه إليه الخطاب (أي الناس). والمقصود بالناس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيط بالنبي والتي سمعت القرآن من فمه لأول مرة. وهي جماعة تكبر أو تصغر بحسب الظروف. وكان أعضاء الجماعة كلهم متساوين وأحراراً فيما يخص عملية الاستقبال: أي استقبال الخطاب الصادر من فم النبي. كانوا متساوين لأنهم كانوا يتشاركون في نفس الحالة الاستقبالية للخطاب النبوي. كانوا يتساوون في نفس الفهم للغة الشفهية المستخدمة، وكانوا أحراراً بمعنى أنهم كانوا يقومون برد فعل عفوي ومباشر وفوري على هذا الخطاب عن طريق الموافقة والتصديق، أو الفهم، أو الرفض، أو الدحض، أو طلب الإيضاح والاستيضاح (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 30).

يرى اركون أن العلم الاستشراقي كان يجهل المفاهيم التالية: بنية شبكة العلاقات بين الضمائر أو الأشخاص المتكلمة كما شرحها عالم الألسنيات إميل بنفينيست “، ومفهوم ظرف الخطاب الذي تحدث عنه أو بلوره ب. زمبتور، أثناء دراسته للأدب القروسطي تحت اسم الظاهرة الشفهية المقلدة حرفياً للظاهرة الكتابية، ومفهوم القوى المهيمنة والقوى المهمشة الذي يشتمل على التفاعل بين الحالة الشفهية / والحالة الكتابية، بين المعرفة ذات البنية الأسطورية والمعرفة التاريخية النقدية، ثم العصبيات الشغالة والكائنة بين تشكيلة الدولة المركزية ، ثم الكتابة ، والثقافة الفصحي أو العالية، ثم رجال الدين الذين ينتجونها ويسيّرون أمورها ، ثم الأرثوذكسية الدينية الرسمية ) . وهذه الأشياء الأخيرة تمثل القوى الأربع الاجتماعية - التاريخية الفاعلة والناشطة والمرتبطة جدلية بأربع قوى أخرى متواجدة في الحقل الاجتماعي العام، أي في مكة والمدينة زمن انبثاق الظاهرة القرآنية)، أو في مجتمعات الدول القومية الحديثة السائدة اليوم " (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 32).
يرى اركون أن هناك طريقة خاصة لقراءة القران الكريم، وهي الطريقة التي يحلم بها، فيقول: " فيما يتعلق بالقرآن بشكل خاص، فإني سأدافع عن طريقة جديدة في القراءة، طريقة محرّرة في آن معاً من الأطر الدوغمائية الأرثوذكسية ومن الاختصاصات العلمية الحديثة التي لا تقل إكراماً وقسراً . إن القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات . . . إنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها، سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة. أقصد قراءة تترك فيها الذات الحرية لنفسها ولديناميكيتها الخاصة في الربط بين الأفكار والتصورات انطلاقاً من نصوص مختارة بحرية من كتاب طالما عاب عليه الباحثون فوضاه»، ولكنها الفوضى التي تحبّذ الحرية المتشردة في كل الاتجاهات. إني أدافع عن هذه القراءة الجديدة". (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 67).

يتحدث اركون عن خياره الاستراتيجي، فيقول: " إن خياري الاستراتيجي الأول يتمثل في قلب الساحة الدينية بالصيغة الموجودة عليها حالياً، وكما لا تزال الأنظمة اللاهوتية الأصولية المتنافسة مستمرة في احتكارها حتى الآن. وكذلك كما لا يزال المقاولون السياسيون مستمرين في استغلال المخيال الديني واستخدامه كأداة أو كقوة لاعقلانية من أجل استنهاض الجماهير المقصود بالمقاولين السياسيين هنا قادة الحركات الأصولية). ولكن عملية القلب أو الانقلاب التي أقوم بها تشمل أيضاً العلوم الاجتماعية الوضعية التي تفرض تقسيمات أو تأويلات اختزالية للظاهرة الدينية. إني أريد القيام بانقلاب معرفي يهدف إلى تسفيه كل الفاعلين (من مؤمنين وغير مؤمنين الذين يستغلون الظاهرة الدينية لغايات مرتبطة أكثر من اللزوم بالإكراهات العابرة لمنعطف تاريخي محدد، أو لبيئة اجتماعية - ثقافية معينة، أو لحالة معنوية ودلالية للغة مهيمنة أقول هذه العبارة الأخيرة وأنا أفكر باللغة العربية الصادرة من قبل أبطال التعريف الديماغوجي). كما أنها مرتبطة بتيار فكري رائج (أو على الموضة)، أو حتى بخيارات وظائفية حيث تنعقد تضامنات مهنية بين العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام الجبارة (وبخاصة التلفزيون). وينبغي على هذا الانقلاب المعرفي أن يصل إلى ممارسات اللاهوتيين كما إلى ممارسات فلاسفة الدين لكي يؤثر عليهم أيضاً. وهنا بالضبط ألاحظ أن مؤلفات جان إيف لاكوست، وبيير جيزيل وباتريك ايفر أرد، وبول ريكور وأندريه كوك تشكل بالنسبة لي أو للنقطة التي تهمني هنا أمثلة حاسمة. فكل هذه الأعمال تغني بطريقتها الخاصة استكشاف مجاهيل الساحة الدينية عن طريق إقامة المقارعة الصارمة بين المكتسبات الأكثر أركون حداثة والأكثر خصوبة للتيارات الفكرية المختلفة التي ما انفكت تتصارع وتنقد بعضها بعضاً، وتصحح بعضها بعضاً، وتتحدى بعضها بعضاً، منذ القرن التاسع عشر. الجميع يعلم كيف أن كل أعمال بول ريكور تهدف إلى توحيد المجالات المعرفية المتشظية وإعادة التمفصل بينها وإعادة استملاكها من جديد. بل إنها لم تكن متشظية فقط، وإنما كانت أيضاً منفصلة عن بعضها البعض حتى درجة العداء المفتوح، وأقصد بهذه المجالات المعرفية هنا علم اللاهوت والفلسفة من جهة، ثم علوم الإنسان والمجتمع من جهة أخرى". (ينظر: محمد اركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، ص 92 – 93).


المبحث الثاني
أهداف الإسلاميات التطبيقية


يبين آركون أن الإسلاميات التطبيقية تريد أن تصل إلى النتائج الآتية:
1- مواجهة فرضيات الموقف الإيماني أو اليقينيات العدواني للخطاب الإيديولوجي بالمسار المضمون للفكر العلمي، مع الأخذ بنظر الإعتبار تعقد الحالة التاريخية المعاشة للمسلمين، وكل قلق العقل المعاصر الذي يبحث عن الحقيقة، في وقت واحد.
2- إن الفكر الإسلامي يستمر في الإرتكاز على المسلمات المعرفية (أبستيمي) للقرون الوسطى، من خلال الخلط بين الأسطوري والتاريخي، وقيامه بعملية تكريس دوغمائية للقيم والأخلاق الدينية، وتأكيد تيولوجي لتفوقية المؤمن على غير المؤمن، والمسلم على غير المسلم، وتقديس اللغة. ثم التركيز على قدسية المعنى المرسل من قبل الله ووحدانيته (معنوياً)، عن طريق الفقهاء، بالإضافة إلى عقل أبدي، فوق تاريخي لأنه مغروس في كلام الله ومجهز بأساس أنتولوجي يتجاوز كل تاريخية. تسأل الإسلاميات التطبيقية السؤال المركزي الآتي: ما الذي يجب على الإسلاميات أن تجيب عنه.
3- إن الإسلاميات التطبيقية تدرس الإسلام ضمن منظورين متكاملين: الأول: كفعالية علمية داخلية للفكر الإسلامي، من أجل إستبدال التراث الإفتخاري والهجومي الطويل، بالموقف المقارن. الثاني: كفعالية متضامنة مع الفكر المعاصر كله. إن الإسلاميات التطبيقية تدرس الإسلام ضمن منظور المساهة العامة للإنثروبولوجيا الدينية. وإخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، والتأمل الفلسفي النتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وإنهدامه (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 55 – 57).

4- إن الإسلاميات التطبيقية، بحسب آركون، هي ممارسة علمية متعددة الإختصاصات. فهي متضامنة مع الفكر المعاصر في نجاحاته ومخاطره. وبسبب إرتباط الإسلام منذ نشأته بالنص فلا بد على عالم الإسلاميات أن يكون متخصصاً بالألسنيات بشكل كامل. والإسلام، كأي دين آخر، هو جسد مؤلف من عدة عوامل: العامل النفساني والسيكولوجي (الفردي والجماعي)، والعامل التاريخي (تطور المجتمعات الإسلامية)، والعامل السوسيولجي (أي محل الإسلام ضمن نظام العمل التاريخي لكل مجتمع، وإنعكاس مصير هذه المجتمعات على الإٍسلام كدين، والعامل الثقافي (فن وأدب وفكر).
5- إن الإسلاميات التطبيقية، من وجهة نظر ابستيمولوجية (معرفية)، تعلم أنه ليس هناك خطاب بري، إنه ترجح في كل مساراتها وخططها نقد الخطاب (أي خطاب كان ) وذلك بالمعنى الذي حدده لوي ماران بخصوص دراسته لفكر باسكال، كما أنها ترجح تعددية المناهج الفاحصة من أجل تجنب أي اختزال للمادة المدروسة (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 57).

إن آركون يستخدم مصطلح الساحة أو الفضاء من أجل التفكير نقدياً بالعقل الإٍسلامي. يعني تجييش المنظور التاريخي والنظرة السوسيولوجية والتساؤل الأنتربولوجي والنقد الفلسفي في آن معاً. فالمثقف يتمايز في الواقع عن الفاعليين الإجتماعيين الآخرين لأنه الوحيد الذي يهتم بمسألة المعنى. وعلى هذا يمكن القول أن رجال الدين هم مثقفون بإمتياز لأنهم يكرسون كل جهودهم وإنتباههم لتفسير معنى الوحي، ولتحديد المعاني الدقيقة للنصوص المقدسة، ولإستبناط الأحكام إنطلاقاً من هذه المعاني. واستنباط الأحكام يمثل الوظيفة الثقافية لهؤلاء العلماء أو الفقهاء (ينظر: محمد آركون: "الفكر الإسلامي : نقد وإجتهاد"، ترجمة وتعليق هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، بدون تاريخ، ص 4).

إن الإسلام بالنسبة لآركون موضوع يقطعونه ويصلونه ويجوهرونه ( أي يجعلونه كياناً جوهرياً جامداً لا يتطور ولا يتبدل ولا يتحول ولا يزول ) ثم يضخمونه لكي يصبح غولاً مرعياً أو وحشاً أيديولوجياً يشبه الأخطبوط المنبعث باستمرار. وإذا ما حاول باحث مسلم أن يحول هذا الموضوع إلى ذات، إذا ما حاول أن يرتفع بنفسه من مرحلة الخضوع السلبي إلى مرحلة السيادة الذاتية، إذا ما حاول أن يصبح محاوراً حقيقياً وشخصاً مندمجاً في تيارات الفكر الحديثة التي صاغت وجه أوربا، فإنهم يرفضونه بحجة أنه تبجيلي يدافع عن دينه كالعادة. إنه يطردونه إلى قريته التي انطلق منها (ينظر: محمد آركون: " الإسلام، أوربا، الغرب"، ترجمة وإسهام هاشم صالح، ط2 ، دار الساقي، بيروت، 2001 م، ص 46).

إن مشكلة اركون في هذا الفهم للإسلام أنه لا يكاد يفرق بين كلمة (إسلام) وبين كلمة ( مسلم)، فالإسلام هو الدين الذي بعث الله به أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، والإسلام يتمثل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المسلم فهو (إنسان) يلتزم بدين الإسلام، لكن لا يعني أنه هو ذاته الإسلام نفسه.

إن رأس الإسلام (شهادة أن لا إله إلا الله) وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} وقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} {إن الدين عند الله الإسلام} . إن أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: " الإسلام علانية والإيمان في القلب" ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم " الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" (ينظر: ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ): "مجموع الفتاوى"، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، 10/ 15).


المبحث الثالث
منهج آركون النقدي: هل هو جديد؟


يضفي آركون على مشروعه في نقد العقل الإسلامي صفة ( شديد الجدة والتعقيد )، وهذا ما سأنقده بعد قليل، إن شاء الله، إلى حد، يضيف آركون، أنه لا يمكن إنجازه منذ المحاولات الأولى. لكن مهما يكن، فآركون يبين أنه حريص على الالتزام بمبادئ المعرفة العلمية مهما يكن الثمن الإيديولوجي والبسيكولوجي والاجتماعي الذي سيدفعه للقيام بذلك باهظاً، لأن الهدف الذي يسعى إليه كبير: توحيد ساحة المعاني المتشظية والمبعثرة، ولمواجهة الآثار المدمرة للإيديولوجيات الرسمية (محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 11).

ويترك آركون هنا مصطلح (الإيديولوجيات الرسمية) مبهماً بدون أن يكشف عنه.
أما كون مشروع شديد الجدة، كما يقول، فلا أرى في المشروع جديداً من ناحية كونه استنساخاً لمنهجية العلوم في صياغتها عند الآخر وتطبيقها على العقل الإسلامي تطبيقاً ناقداً للعقل الأخير. منهجية آركون ليست جديدة إذا ما قورنت بمنهجيات معرفية ونقدية قدمت من قبل مسلمين خلال تطور الفكر الإسلامي، لكنها أخضعت العقل الإسلامي للمنهاج النقدي للعقل على أساس المنهجية مثلاً. فالمنهج بين آركون ومن سبقه من الفلاسفة المسلمين واحد، يقوم هذا المنهج على أساس الاندهاش بنظام التفكير لدى (الآخر)، أي: اليونان بالنسبة للفلاسفة المسلمين القدماء، وعلوم الآخر خلال الثلاثين سنة الأخيرة بالنسبة لآركون. وبالنظر لسعة موضوع (الاندهاش) أو ( التأثر بالآخر ) في الفلسفة الإسلامية فسنكتفي بالإشارة إلى الفارابي بوصفه نموذجاً له.
وإن كان آركون يؤكد أن العقل الاستطلاعي الذي يدعو اليه يكافح على جميع الجبهات، وأنه لا ينحاز إلى الغرب أو للشرق، إلى الدين أو الدنيا، إلى سياسة شرعية لاهوتية أو فلسفة ايجابوية علمانوية، بل إنه ينتمي إلى مذهب الاتهام الفلسفي المنهاجي البناء، هذا المذهب الذي لا يشك في كل ما ينطق به العقل ويحاول تأسيسه كمذهب لا مذهب سواء أو بعده، ثم يفرضه الإنسان بالقوة على الإنسان، ويعلم هذا العقل منذ الكفاح الذي انطلق فيه التيار المعروف بالمعتزلة في قضية خلق القران، أنه لا سبيل البتة للعقل البشري أن يتوسط بين الخطاب الإلهي / والخطابات البشرية، دون أن يضع الأول في السياقات الدلالية والقوانين البلاغية والوسائل الاستنباطية والمبادئ المنطقية التي تتصف بها الثانية (ينظر: محمد آركون: " قضايا في نقد العقل الديني "، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، بدون تاريخ، ص 9).


الفارابي سابقاً آركون:
لو عدنا إلى الفارابي، مثلاً، وبالتحديد في مقدمة كتابه: " الجمع بين رأيي الحكيمين" لأمكن ملاحظة بعد أن يعرف الفلسفة بأنها:" العلم بالموجودات بما هي موجودة" الإجماع على أن أفلاطون وأرسطو هما المرجع الأول للفلسفة، وأنهما الحكيمان المبدعان لها، والمنشئان لأصولها وفروعها، وعليهما المعول في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها. وما يصدر عنهما في كل فن إنما هو الأصل المعتمد عليه، لخلوه من الشوائب والكدر. وبذلك نطقت الألسن، وشهدت العقول. ولم يكتف الفارابي بهذه الشهادة لأفلاطون وأرسطو، وإنما راح يحاول إزالة أسباب الخلاف بين الفيلسوفين في كتابه المذكور كله (ينظر: الفارابي: " كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين"، قدّم له وعلّق عليه الدكتور ألبير نصري نادر، ط2، دار المشرق، بيروت، 1968 م، ص 80).

وذكر الدكتور علي بو ملحم في مقدمة تحقيقه لكتاب الفارابي الموسوم: "إحصاء العلوم"، أن الحافز له لتأليف الكتاب هو إعجابه الشديد بأرسطو والذي تأثر به أشد التأثير، واقتفى أثره في معظم آثاره الفلسفية (ينظر: الفارابي: " إحصاء العلوم"، قدم له وشرحه وبوبه الدكتور علي بو ملحم، ط1، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1996، ص 6).

إذن الفارابي يسير في سياق (اندهاش الفلاسفة المسلمين) من نظام الفلسفة الأرسطية. يؤكد الدكتور ألبير نصري نادر أنه كانت لأرسطو مكانة خاصة لدى الفلاسفة المسلمين، والذي عدّوه معلم البشرية الأول، ومن يتبع نظام أرسطو في التفكير يسير في الطريق القويم (ينظر: من مقدمة تحقيق الدكتور ألبير نصري نادر لكتاب الفارابي الموسوم: " آراء أهل المدينة الفاضلة"، ط2، دار المشرق، بيروت، 1968، ص 17).

فمثلاً بالنسبة للمنطق، يعلن الفارابي في آخر كتابه في المنطق أن التعليم فيه يتم على أٍساس ما حدده أرسطو (ينظر: الفارابي: " الألفاظ المستعملة في المنطق"، حقّقه وقدم له وعلّق عليه د. محسن مهدي، ط2، دار المشرق، بيروت، 1968 م، ص 111).

ويذهب الدكتور فوزي دمتري نجار أن الفارابي في كتابه: " السياسة المدنية أو مبادئ الموجودات " أن للفارابي غاية فلسفية قصوى في معالجة القضايا الإلهية ضمن نظام العلم المدني، كما فعل الفيلسوف أفلاطون. فالآراء الإلهية رغم أنها تقع ضمن الفروع النظرية من الفلسفة، فلها علاقة مباشرة بحياة الإنسان المدنية وسعادته. وبما أن العلم المدني هو الذي يفحص عن أصناف الأفعال والسنن، ويبين ما ينتمي منه إلى السعادة الحقيقية أو السعادة المظنونة، فهو يبحث كل ما من شأنه أن يكون له علاقة بسعادة الإنسان. وهذا لا يعني أن العلم المدني، وهو علم عملي، أرفع مرتبة من العلم الإلهي أو الفلسفة النظرية، وكل ما في الأمر أن العلم المدني يعنى بالمبادئ الأولية والنظريات الإلهية لما لها من علاقة بسعادة الإنسان. فدعوة الفارابي في كتابه: " ارءا أهل المدينة الفاضلة " أهل هذه المدينة أنهم يصلوا السعادة عن طريق الكمال النظري. أذن وسم كتاب " السياسة المدنية " ب" مبادئ الموجودات" ليس اعتباطاً فالفارابي يتبع في ذلك التقليد اليوناني كما عرف عند أفلاطون وأرسطو (ينظر: الفارابي: " كتاب السياسة المدنية الملقب مبادئ الموجودات"، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه الدكتور فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، بدون تاريخ، ص ١٥-١٦. وحول نظرية الفارابي عن السعادة، ينظر كتابه: " رسالة التنبيه على سبيل السعادة"، تحقيق وتحقيق الدكتور سحبان خليفات، ط1، الجامعة الأردنية، عمان، 1987م، ولمزيد من المتابعة عن فكر الفارابي وفلسفته، ينظر: الفارابي: " رسالتان فلسفيتان"، تحقيق الدكتور جعفر آل ياسين، دار المناهل، ط1، بيروت،1407 ه - 1987 م، الفارابي: " كتاب الحروف"، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه الدكتور محسن مهدي، ط2، دار المشرق، بيروت، 1990، سعيد زايد: " الفارابي 259 ه – 339ه"، ط3، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، د. محمد البهي: " الفارابي: الموفق والشارح"، ط1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1401ه، 1981م.
Nicholas Rescher, Al-Fārābī: An Annotated Bibliography (London: University of Pittsburgh Press, 1965)- Joep Lameer, Al-Fārābī and Aristotelian Syllogistics: Greek Theory and Islamic Practice (Leiden: Brill, 1994)- Muhsin Mahdi, Alfarabi: Philosophy of Plato and Aristotle, Foreword by Charles E. Butterworth & Thomas L. Pangle (New York: Cornell University Press, 2001)- Ian Richard Netton, Al-Fārābī and His School (London: Routledge, 2005)- Shukri Abed, Aristotelian Logic and the Arabic Language in Alfarabi (New York: SUNY Press, 1991)- Herbert A. Davidson, Alfarabi, Avicenna, and Averroes, on Intellect : Their Cosmologies, Theories of the Active Intellect, and Theories of Human Intellect: (New York: Oxford University Press, 1992)- Nicholas Rescher, Al-Farabi s Short Commentary on Aristotle s Prior Analytics (London: University of Pittsburgh Press, 1963)- Salim Kemal, The Poetics of Alfarabi and Avicenna (Leiden: Brill, 1991)- Alfarabi, Charles E. Butterworth, The Political Writings: Selected Aphorisms and Other Text (New York: Cornell University Press, 2004)).


المبحث الرابع لماذا التعقيد في منهج آركون النقدي؟
(أو) إشكالية الفلسفة الوضعية في سياق نقد العقل الإسلامي


سأستخدم مصطلح (الفلسفة الوضعية) في هذا البحث بالمعنى العام للكلمة. وأقصد ب(الفلسفة الوضعية ) تلك الفلسفة التي تستثني الالتزام بالمنهج الديني المعروض في الوحي في عملية البحث العقلاني، وترى أن العقل وحده مصدر الفكر، وأن به يحكم على النص الديني بشكل أو آخر.
فالوضعية، كما يعرفها إميل برهييه، " فهي المذهب الذي يسلم بارتباط الذات بالموضوع، على اعتبار أن الموضوع لا وجود له إلا من حيث أنه مضمون الوجدان ومحتواه، وعلى اعتبار أن الذات هي مسرح الموضوع أو ركيزته، وهي تؤكد قابلية التنوع الدائمة لموضوعات الإدراك، وأخيراً فإن العلم في نظرها مطابق للإحساس" (ينظر: إميل برهييه: " تاريخ الفلسفة "، الجزء السابع: " الفلسفة الحديثة: 1850 – 1945"، ترجمة جورج طرابيشي، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1987 م، ص 46).

والعقلانية Rationalism ، كما يوضحها كوتغهام، مرتبطة بالصفة القريبة العقلية rational. والجذر الإشتقاقي الذي تشتق منه كلا الكلمتين هو الإسم اللاتيني ration ومعناه العقل reason. وهذا يفهم من كلمة العقلاني rationalist الشخص الذي يؤكد قدرات الإنسان العقلية تأكيداً خاصاً ولديه إيمان غير عادي بقيمة العقل والمحاجة العقلية وأهميتها (ينظر: جون كوتنغهام: " العقلانية: فلسفة متجددة"، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ط1، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1997، ص 13).

ويذهب روردك تشيزهولم أن هنالك نوعان من الحقائق: حقائق العقل وحقائق الواقع. حقائق العقل ضرورية ونقائضها مستحلية، وحقائق العقل عارضة ونقائضها ممكنة. إذا كانت الحقيقة ضرورية فمبقدورنا معرفة سبب ضرورتها بتحليلها إلى أفكار وحقائق أبسط حتى نصل إلى الحقائق الأولية (ينظر: روردك تشيزهولم: " نظرية المعرفة"، تعريب د. نجيب الحصادي، ط1، الدار الدولية/ مصر – كندا، 1995 م، ص 97).

الإشكال الرئيس الذي نراه في منهج آركون في نقد العقل الإسلامي يكمن في توظيفه مناهج ( وضعية ) في نقد المنهج العقلي المبنى على الإيمان عند المسلمين، أو بمعنى آخر إستخدام آركون مناهج علمية ( غير دينية ) في نقد العقل الإسلامي، وهو المسبب الرئيس للتناقض والتعقيد في منهج آركون النقدي للعقل الإسلامي.
مثال ذلك ما كتبه محمد آركون في مقدمة كتاب: " القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، مشيراً أنه قد بدأ بتطبيق إشكاليات ومناهج اللسانيات والسيميائيات لتحليل الخطاب القراني منذ أوائل السبعينات من القرن العشرين. وكان، بحسب ما يذكر، قد شرح في المقدمة الطويلة للطبعة الأولى من قراءات القران نقطتين هامتين: أولاً : ما يجب على القارئ أن يتزود به من تكوين علمي والإحاطة بالأرضية المفهومية الخاصة باللسانيات والسيميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الابستيمولوجي ، وثانياً أن يتدرب القارئ على التمييز بين الإحتجاج، والإدراك، والتأويل، والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي العقائدي الدوغمائي، وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني. فهذان شيئان مختلفان. فتحليل الخطاب الديني أو تفكيكه يتم لا لتقديم معانيه الصحيحة وإبطال التفاسير الموروثة، بل لإبراز الصفات اللسانية اللغوية وآلآت العرض والإستقلال والإقتناع والتبليغ والمقاصد المعنوية الخاصة بما يسميه آركون ( الخطاب النبوي). وبين أن مفهوم الخطاب النبوي يطلق على النصوص المجموعة في كتب العهد القديم والأناجيل والقرآن، كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيميائية للنصوص، لا إلى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية. إن التعريف والتفهم اللغويين لا يلغيان التعريف والتفهم اللاهوتيين، إلا أن التحليل اللغوي والسيميائي سابق منهجياً وإبستيمولوجياً على التحليل والتأويل اللاهوتيين. وبين آركون أيضاً أن تحليل الخطاب الديني يتبنى تساؤلات الأنتروبولوجيا الدينية والإجتماعية والثقافية للوصول إلى التعرف على المفهومات والتصورات وطرق التأصيل للعقائد والمعاني التي تنبني عليها جميع الأديان المعروفة في تاريخ المجتمعات الإنسانية (ينظر: محمد آركون: " القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 2، دار الطليعة، بيروت، 2005 م، ص 5 – 6).

ويضيف آركون بعداً آخر لما تقدم فيشير أن ما ندعوه ب ( العقل ) لا يمارس دوره بشكل مستقل، على عكس ما أوهمنا تاريخ طويل من الفلسفة واللاهوت في أوربا وفي الإسلام. العقل يمارس دوره فعلاً على علاقة مع الخيال والمتخيل. وهو يشكل أحد الأبعاد الحاسمة لكل وجود إجتماعي (ينظر: محمد آركون: " العلمنة والدين: الإٍسلام، المسيحية، الغرب"، ط3، دار الساقي، بيروت، 1996 م، ص 26).

ويشير آركون أن الحداثة الأوربية قد ربتنا، منذ القرن الثامن عشر على الأقل، على فكرة أن العقل قد تحرر نهائياً من الإكراهات القسرية للتحجر الدوغمائي لكي يخدم المعرفة بذاته ولذاتها. وحدثتنا عن الفصل الجذري بين الدين / الدولة أو بين الكنيسة / والدولة الحيادية. وبالمقارنة، فإن العقل الإسلامي تتراكم عليه الإكراهات القسرية وتتضاعف. وقد خلق هو بالذات هذه الإكراهات لنفسه عندما كان يناضل من أجل الإستقلال وتشكيل دول وطنية لكنها أعنت ذاتها بوصفها المالك للحقيقة الدينية الأرثوذكسية. فهمهة الباحث تكمن في أشكلة كل الأنظمة الفكرية التي تنتج المعاني، وكل الصيغ التي اختفت أو لا تزال حية والتي تنتج بدون تمييز المعنى وآثار المعنى. وهنا يكمن التفريق الأساسي بين الباحث التقليدي والباحث الحديث. وهذا التفريق يحيلنا إلى مشكلنا عديدة لم تطرح أبداً في السابق، أو طرحت بشكل سيء أو لم تلحظ إلى الآن بالكاد. ينبغي أن ننظر إلى القرآن، مثلاً، من خلال مقارنته مع الكتب المشابهة له في الثقافات الأخرى، ( أي مع التوراة والأناجيل ). فالمقارنة هي أساس الفهم والنظر. ونلاحظ أن فعالية الروح البشرية تبلغ ذروتها في هذه النصوص الدينية العليا كلها. إنها تبدو أقرب ما تكون إلى طوباويتها، وآمالها المتكررة غير المشبعة، ونضالاتها من أجل إنحسار أو تراجع عبوديتها والتوصل إلى الممارسة الكاملة ( لإرداتها في المعرفة ) بالإضافة إلى حريتها النقدية والخلاقة (ينظر: محمد آركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي"، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط1، دار الساقي، 1999 م، ص 17 – 19).


المبحث الخامس
مفهوم الأبستيمي عند آركون
ومرجعياته الفلسفية


يشير هاشم صالح أن محمد آركون يستخدم مصطلحات فوكو، وبخاصة مصطلح ( الأبستيمية) Épistémé وإشارة صالح أنه لم يفهم مقصد آركون من هذا الإٍستخدام. يؤكد صالح أن المعنى المصطلحي الذي بلوره فوكو في " الكلمات والأشياء " فهو يعني شيئاً آخر تماماً مختلفاً. في البداية نقل صالح المصطلح كما هو إلى اللغة العربية: أي ابستيمي، ثم يضع عبارة كاملة لشرحه: " مجمل المسلمات الضمنية التي تتحكم بكل الإنتاج الفكري في فترة معينة دون أن تظهر إلى السطح ". إنها اللاوعي المعرفي لفترة بأسرها. وبعضهم فهمها بمثابة رؤيا للعالم في فترة زمنية محددة. وعلى أي حال فإن كتاب فوكو بصفحاته الأربعمائة كله مبني عليها. ولكنني، والكلام لهاشم صالح، بعد أن تقدم في القراءة والبحث رحت أعرب، أي صالح، المصطلح قائلاً: المنظومة الفكرية. وأخيراً استقر رأيه على نظام الفكر. ويؤكد صالح أن آركون قد استخدم هذا المصطلح لتحقيب الفكر العربي – الإسلامي أبستيمولوجياً أي عميقاً، وليس كما هو شائع ( فجر الإسلام – العصر الأموي – العصر العباسي ) إلخ. فقد تتغير السلالات والأنظمة ويبقى الفكر كما هو لا يتغير. والواقع أن مصطلح فوكو يطرح مسألة القطيعة / والاستمراية في تاريخ الفكر. وهي مسألة ابستيمولوجية عويصة، بل وهي من أهم المسائل التي تشغل البيئات الابستيمولوجية الغربية حالياً. وهي مطروحة في مجال الفكر والعلوم الإنسانية ( يطرح صالح هنا مثالاً: بحوث توماس كون عن " النموذج الأعلى " الذي يسيطر على جماعة من العلماء طلية مدة معينة في بلد معين، ويشير أيضاً إلى نظرية الكوارث لعالم الرياضيات الفرنسي رينيه توم ). فهي تدور كلها حول مسألة القطيعة في تاريخ العلوم وكيفية تفسيرها. إن القطيعة المشار إليها هنا بحسب هاشم صالح: أن يتوقف الناس عن التفكير بالطريقة العادية التي ظلوا يفكرون بها سابقاً منذ مئات السنين (ينظر: محمد آركون: " من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإٍسلامي المعاصر؟ "، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط2، دار الساقي، بيروت، 1995 م، ص 6 – 7).

يؤكد آركون ما تقدم مشيراً أن تقديم تحليل تفكيكي أو نقد أبستيمولوجي لمبادئ الفكر الإسلامي وموضوعاته واللامفكر فيه يفرض نفسه اليوم من وجهة نظر التاريخ العام للفكر، أن نطبق على دراسة الإسلام المنهجيات والإشكاليات الجديدة. أي تطبيق المنهجيات والآفاق الواسعة للبحث من ألسنية وسيميائية ودلالية وأنثروبولوجية وتاريخية وفلسفية. ثم البحث عن الشروط الإجتماعية التي تتحكم بإنتاج العقول وإعادة إنتاجها. كل ذلك بغية معالجة نواقص تاريخ الأفكار الخطي المجرد ومخاطره (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 66).
وأكد آركون هذا المعنى في كتابه: " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" إذ أشار إلى أن علم الإنتروبولوجيا الحديث يمارس عمله كنقد تفكيكي، وعلى صعيد معرفي، لجميع الثقافات البشرية المعروفة. وقد أثرت الإنتروبولوجيا عن طريق ما يسميه آركون ( المثلثات الإنتروبولوجية ) وهي مثلثات من نوع ( الوحي والتاريخ والحقيقة) أو ( العنف والتحريم والحقيقة ) أو ( اللغة والتاريخ والفكر ). وهذا ما يعده آركون طفرة معرفية في تحليل الخطاب الديني عامة. وهذه الطفرة لا تستهدف العقيدة في محتواها وممارستها، كما يؤكد آركون، وإنما تحليها إلى مستوى أوسع من النظريات والشروح والتأويلات واكتشاف وسائل الحق والحقيقة، كما يؤكد آركون. وهو يقول ذلك لكي لا يسارع المؤمنون، كما يظن، إلى رفض القراءات التي يقترحها للقرآن لأنها خارجة عن إطار التفسير الموروث. وهناك من يكفّر هذه القراءات بناء لا على ما فهمه واجتهده لإدراك مقاصد المؤلف، ولكن على أٍساس ما غاب عن فكره ومعلوماته إذا كان لم يكتشف بعد تعاليم السيميائيات واللسانيات والأنتروبولوجيا والسوسولوجيا الدينية والثقافية وعلم النفس التاريخي (ينظر: محمد آركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، ص 7).

إن القارئ العادي، فضلاً عن المتخصص حين يقرأ الكلام المتقدم لهاشم صالح حول توظيف آركون لمصطلح ( الابستيمي ) عند ميشيل فوكو من حقه أن يطرح الأسئلة الآتية:
- ما علاقة ميشيل فوكو بالدين الإسلامي بوصفه وحياً؟
- ما علاقة ميشيل فوكو بالفكر الإسلامي بوصفه عقلاً؟
- وهل يمكن أن تستخدم فلسفة فوكو في نقد فكر إسلامي أنتجه أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من علماء ومفكري الحضارة الإٍسلامية؟
ولو عدنا إلى كتاب ميشيل فوكو الموسوم: "إرادة المعرفة" لأمكن بسهولة أن نكتشف أن فكر فوكو محصور جغرافياً في مجال المعرفة الأوربية. فمثلاً في الفصل الثاني: من الكتاب المذكور وعنوان الفصل هو:" الحض على الخطاب" يلاحظ المتأمل لفكر فوكو أنه يتحدث عن القرن السابع عشر بعده، كما يرى فوكو، بداية لعصر القمع اخاص بالمجتمعات البرجوازية، وقد تكون المجتمعات الأوربية لم تتجاوزه إلى اليوم، فقد أصبحت كلمة جنس أكثر صعوبة وأبهظ كلفة. كل شيء يحدث كما لو كان من الضروري إنزاله إلى مستوى اللغة، من أجل مراقبة التداول الحر به عبر الخطاب، وطرده من الأشياء المقولة وإطفاء الكلمات اتي تجلعه حضوراً محسوساً. ويشير فوكو إلى ظاهرة خطابية بدأت تتسع ( بالطبع في الفكر الأوربي) منذ القرن الثامن عشر مشكلة تخمراً خطابياً تسارع منذ القرن الثامن عشر، فظهر تحريض مؤسسي على الحديث عن الجنس، والحديث عنه أكثر فأكثر، إصرار مراتب السلطة على الإستماع إلى الحديث عن الجنس، إلى حديث عن الجنس، إلى حديث الجنس عن الجنس بأسلوب البيان الصريح، والتفاصيل المتراكمة (ينظر: ميشيل فوكو: " إرادة المعرفة "، 1: " تاريخ الجنسانية "، ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، بدون تاريخ، ص 38 - 39. وواضح جداً أن ميشيل فوكو في حديثه المتقدم عن تاريخ الجنسانية في ضوء نظريته الفلسفية عن "إرادة المعرفة"، إنما يتحدث عن مجال معرفي واحد هو الفكر الأوربي والسؤال الأساسي هنا بالعودة إلى الأستاذ اركون إلى حد يمكن الإشتغال على نقد العقل الإسلامي من خلال مرجعية معرفية غريبة عنه ولا تنتمي إلى رهاناته المعرفية. ولمزيد من المتابعة حول البيئة الجغرافية لنظريات فوكو المعرفية، ينظر: بول فيين: " أزمة المعرفة التاريخية: فوكو وثورة في المنهج"، ترجمة وتقديم إبراهيم فتحي، ط ، دار الفكر، القاهرة - باريس، 1993 م. لا بل ينتهي فيين مثلاً في الفصل الثاني ، أنه طبقاً لنظرية فوكو التاريخية، وبما أن " كل الأشياء تاريخية... إذن التاريخ لا وجود له"، ينظر: ص 37 وما بعد.
وانظر:
Michel Foucault, History of Madness (Oxford: Taylor & Francis, 2013)- Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge (New York: Knopf Doubleday Publishing Group, 2012)- Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of Human Science (New York: Knopf Doubleday Publishing Group, 2012)- Abnormal: Lectures at the Collège de France, 1974-197 (New York: Macmillan, 2007)- Michel Foucault, Discipline & Punish: The Birth of the Prison (New York: Knopf Doubleday Publishing Group, 2012)- Michel Foucault, The Birth of Clinic (New York: Knopf Doubleday Publishing Group, 2012)- Michel Foucault, The History of Sexuality, Vol. 3: The Care of the Self (New York: Knopf Doubleday Publishing Group, 2012).

إن البنية الثقافية اتي يتحدث عنها ميشيل فوكو هي البنية الثقافية الغربية حصراً. فيشير فوكو، مثلاً، أنه حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي لعب التشابه دور الباني في المعرفة الثقافية الغربية، فهو الذي قاد ف جزء كبير تفسير النصوص وتأويلها، وهو الذي نظم لعبة الرموز، وسمح بمعرفة الأشياء المرئية واللامرئية، وقاد فن تمثيها وتصورها. كان العالم ينطوي على نفسه، فالأرض تكرر السماء، واعشي يطوى في أوراقه السرية اتي تخدم الإنسان، وكان الرسم يقلد الفضاء. والتمثيل والتصور كان يتبدى كعملية تكرار، مسرح الحياة أو مسرح العالم، كان ذلك هو عنوان كل أسلوب، وطريقته في الإعلان عن نفسه، وصياغة حقه في الكلام. علينا أن نتوقف في هذه اللحظة من الزمن، حيث سيفك التشابه إنتمائه المعرفي ويختفي، على الأقل في جزء منه، من أفق المعرفة. إن النسيج الدلالي للتشابه في القرن السادس عشر شديد الثراء: الصدق والمساواة، ( الإجماع والتعاقد و الزواج والتشارك وما شابه ذلك)، والتجاوز والتراضي والمماحكة، والتشابه والإتصال والرابطة. وهناك الكثير من المفاهيم التي تتقاطع على سطح الفكر أو تتشابك أو تتحد أو تتدعم (ينظر: ميشيل فوكو: " الكلمات والأشياء"، الفصل الثاني: " نثر العالم"، ترجمة بدر الدين عروكي، مراجعة جورج زيناتي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990 م، ص 39).

وواضح أيضاً أن عمل فوكو في " المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن"، يتجه إلى بحث قضية العقاب والسجون في البيئة الثقافية الأوربية حصراً (ينظر: ينظر: ميشيل فوكو: " المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن"، ترجمة د. علي مقلد، مراجعة وتقدية مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990 م، كل الكتاب).
يقول فوكو في كتابه: " تاريخ الجنسانية ":
" لزمن طويل نكون قد تحملنا نظام التشدد الفكتوري، وقد لا نزال نخضع له حتى اليوم. فقد يكون التعفف الأمبراطوري لا يزال ماثلاً على لوحة جنسانيتنا المتحجرة، الصامتة، والمنافقة. فحتى مطلع القرن السابع عشر، كانت بعض الصراحة لا تزال سارية، كما كان يقال. فالممارسات لم تكن تبحث عن التستر إلا في القليل النادر، والكلمات كانت تقال دون تكتم مفرط، والأشياء دون إفراط في التنكر، لقد هناك نوع من الألفة المتساهلة مع المحظور وغير المشروع. وقد كانت قوانين المجنون والفحش والبذاءة أكثر ليونة إذا ما قورنت بقوانين القرن التاسع عشر. حركات مباشرة وخطابات غير مخجلة، خروقات مرئية وتشريحات معروضة ومختلطة بسهولة، وأطفال وقحون يجولون دون مضايقة ولا فضيحة وسط ضحكات الكبار: لقد كانت الأجساد " تتبختر " (ينظر: ميشيل فوكو: " تاريخ الجنسانية: 1: إرادة العرفان"، ترجمة محمد هاشم، أفريقيا الشرق، المغرب، 2004 م، ص 5. ولمزيد من المتابعة لفلسفة ميشيل فوكو، ينظر:
عبد العزيز العيادي:" ميشال فوكو: المعرفة والسلطة"، ط1، المعرفة الجامعية للدرسات والنشر، 1414ه - 1994م. ولمزيد من المتابعة لفلسفة فوكو، ينظر:
Abélès Marc, « Michel Foucault, l’anthropologie et la question du pouvoir. », L Homme 3/2008 (n° 187-188), p. 105-122. URL: https://www.cairn.info/revue-l-homme-2008-3-page-105.htm- Grenier Jean-Yves, Orléan André, « Michel Foucault, l économie politique et le libéralisme. », Annales. Histoire, Sciences Sociales 5/2007 (62e année), p. 1155-1182
URL: https://www.cairn.info/revue-annales-2007-5-page-1155.htm.

ويبقي الهدف النهائي للإسلاميات التطبيقية، كما يشير آركون، خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة، والميثولوجيات البالية، ومن الإيديولوجيات الناشئة حديثاً. ويحدد آركون نوعين أو قطبين من الإهتمامات، هما: القطب الذي يدعوه العرب ب(التراث)، والذي ما أنفك الوعي العربي والإسلامي عن الحنين إليه أو (أدعائه) حتى اليوم، والمدعو أحياناً بالعصر التأسيسي (الزمن المليئ بالوحي – زمن السلف – النماذج) ثم قطب الحداثة. يقول آركون: " من وجهة نظر منهجية، ينبغي إذن كشف العلاقة المتبادلة ما بين المصير التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية وتقدم الحداثة في الغرب" (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 58، 59).



#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في اللعب
- خاطرة في الأدب (2)
- خاطرة في الأدب (1)
- خاطرة في الطوفان
- خاطرة في صبر أيوب
- خاطرة حول ابن خلدون
- خاطرة جوزية
- خاطرة في الحنين إلى الوطن
- خاطرة في الفرح
- خاطرة في معرفة النفس
- خاطرة في الهجرة
- حنة آرندت ونقد التوتاليتارية
- خاطرة في التاريخ (2)
- خاطرة في التاريخ (1)
- خاطرة في الفلسفة (4)
- خاطرة في الفلسفة (3)
- خاطرة في الفلسفة (2)
- خاطرة في الفلسفة (1)
- خاطرة في الحب
- خاطرة في الصداقة


المزيد.....




- رحلة -ملك العملات المشفرة-، من -الملياردير الأسطورة- إلى مئة ...
- قتلى في هجوم إسرائيلي على حلب
- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الأولى