|
نفسية الحاكم : بين ابن خلدون و مكيافيلي.
عبد الكريم بولعيون
(Abdelkarim Boulaayoun)
الحوار المتمدن-العدد: 6639 - 2020 / 8 / 7 - 02:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نفسية الحاكم : بين ابن خلدون و مكيافيلي.
لعلّ قوام "الواقعية" ينبني على رؤية الأشياء و الأحداث و العلاقات، كما هي موجودة في الواقع لا كما نتصورها. إنّ النزعة الواقعية كما عند مكيافيلي رافضة لكل ما له علاقة بما هو مثالي أو متخيل، و مقبلة على قراءة الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية لحل كل الإشكالات العالقة بالتمردّ عن كل مبدأ أخلاقي أو ديني، امتثالا لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" مقام كل الوسائل المشروعة أو المقبولة قيميا. سؤالي الإشكالي المطروح في هذه الورقة هو: هل الرهان فقط على الظروف السيوسيو-سياسية القاسية التي عاشها مكيافيلي المتمثلة فيما عرفته إيطاليا في القرن السادس عشر من تشتت و وهن مقارنة مع بقية دول أوروبا، و ما تولّد عن الاستبداد الكنسي المجحف من محاولات النخبة العالمة و المثقفة التخلص من قبضة سيطرتها، وما عاناه هو نفسه من عزلة و وحدة جرّاء نفيه و معاقبته؛ أقول، هل هذه الشروط المريرة هي التي أرغمت مكيافيلي على كتابة " الأمير" أم هنالك دواعي أخرى هي التي بصمت على نصائحه "الشيطانية"؟ إننا نراهن، بالإضافة إلى هذه الشروط الواقعية على خاصية في غاية الأهمية، و هي نظرته الحيوانية إلى طبيعة النفس الإنسانية. و لتأكيد هذه الأطروحة سنحاول أن نقرأ بعض ما جاء في "خطابه السياسي"، و ندعم رأينا بمقابلته مع تصور أحد أعمدة الفكر الاجتماعي العلامة ابن خلدون من خلال كتابه " المقدمة"، لإثبات إمكانية تجاوز الشروط السياسية التي تنعكس على طبيعة الفرد الحاكم النفسية من خلال نظرته إلى طبيعة النفس البشرية. نفسية الأمير عند مكيافيلي: بغض النظر عن الطبيعة النفسية لمكيافيلي و التي ينعتها الكثير ب"الشيطانية"، و مدى تأثرها بالظروف القاسية، فإن محتوى الكتاب، يؤِكد بصريح العبارة على أن النفس البشرية كما يتصورها شريرة و متمردة بطبيعتها، و لأنها كذلك كانت نصائحه للأمير مخيفة وسافلة: -أن لا يكون الأمير" طيبا و لا خيرا، و إنما بخيلا مقترا، شحيحا و طماعا ، قاسيا و فظيعا ، ناقضا للوعد، متكبرا ومتعجرفا، داعرا و فاسقا، كافرا و ملحدا" و لأن هذه الصفات الفظيعة سيترتب عنها فضائح كثيرة ستؤدي لا محالة إلى ضياع دولته ، كان لزاما عليه ممارستها دون أي تشهير حفاظا على استقرار و أمن دولته. -أن لا يكون الأمير "وفيا بعهوده، و إنما شخصا محتالا و ماكرا و داهية يتمكن سريعا من الضحك على عقول الناس و إرباكها، لذلك فهو دائما يحاكي الثعلب و الأسد معا، ثعلب ليتجنب الفخاخ و أسد لتخاف منه الرعية، لا يحافظ على وعوده عندما يرى في ذلك ضررا بمصالحه، أو الأسباب التي حملته على ذلك لم تعد قائمة". -أن لا يكون الأمير" رحيما بل قاسي القلب، غليظ الطبع، لا يعبأ بوصمه بتهمة القسوة إذا أراد وحدة رعاياه و ولاءهم" لم تكن هذه الصفات التي يدعو الأمير إلى التحلي بها لتكون على هذه الوضاعة، لولا نظرته إلى الطبيعة البشرية المتسمة بالشر و الأنانية، لأن بالنسبة إليه " كل الناس سيئون وهم بدورهم لن يحافظوا على عهودهم"، و مادام البشر " ناكرون للجميل و متقلبون و مراؤون و شديدو الطمع فلا ينتظر منهم المحبة و الإخلاص، لأن الحب يمكن أن يتحطم بالنظر إلى أنانية الناس عندما يخدم تحطيمه مصلحتهم. لذلك كان لزاما على الأمير أن يفرض الخوف منه، فالناس يخافون من العقاب و يترددون في الإساءة إلى من يخافونه." إنّ البنية النفسية المتمردة التي يدعو الأمير إلى اقتفاء أثرها، و التي لا تعرف للقيم الإنسانية مكانا و لا للدين موطنا، من المفترض جدّا أنها تشكلت في واقعه النفسي قبل أن يأخذه القلم لكتابتها و الدعوة إليها. إن الإعلان و الجهر بمثل هذه الخصال، لا يمكن اعتباره مجرد تصور فلسفي أو علمي حول الطبيعة البشرية. فلا يمكن مقارنة ترغيب مكيافيلي في انتحال السلوك العدواني، بالتصور الفلسفي الذي يعتبر التكوين السيكولوجي الأناني و العدواني هو من قوام الطبيعة الإنسانية كما عند (توماس هوبز) المعبّر عنه في كتاب "اللفياتان" في القرن السابع عشر، أو التصور العلمي للنمساوي (سيجموند فريود) في بنية النفس " اللاشعور" في القرن العشرين. إن تأصيل النفس فلسفيا أو علميا على أنها شريرة و خبيثة، لا تفكر سوى في مصلحتها و لا يهمّها من تقدير الآخر إلا ما يجلب لها من منفعة أو مصلحة، قد يصل إليه الدارس عبر تجاربه و أبحاثه و مجهوده الفكري، فيأخذ بعين الاعتبار هذه الخاصية لإقامة علاقات و تحليل نفسيات و الخروج بنتائج؛ أما تجاوز هذه القراءة على نحو يتمّ دعوة الغير إلى الاتصاف بالرذائل و الموبقات، فذلك يخرج عن التحليل العلمي و الفلسفي إلى اعتبارات أخلاقية محضة تتسم بها حالته النفسية. إنه واقع نفسي مخيف عاشه مكيافلي، أو لنقل تشكل نفسي كان ينتظر من يتقاسم معه نفس هذه الخصائص إذا ما توفرت نفس القابلية. لذلك ليس غريبا أن نرى تعلق هتلر بمكيافيلي الذي عبر عن ولعه الشديد بقراءة كتابه كل يوم قبل النوم، أو تعلقّ موسوليني باختيار كتاب "الأمير" كموضوع لأطروحته الجامعية؛ إنّ من المفترض بقوة أن نصائح و توجيهات "الأمير" قد لقيت مرتعا خصبا للنازية و الفاشية و هو ما يؤكده ما عرف على هتلر و موسوليني من تماثل إلى حد كبير في الطبع المتسم بالحدة و الشدة. عموما يمكن القول أنّ مكيافيلي يحاول أن يصنع شخصية لحاكم يقترف جرائم في حق كل من يحاول مخالفة سياسته تعبيرا عن آرائه، فاقد للشفقة والرحمة، منكر للعهود، منغلق على ذاته، يفتقر إلى أي حسّ أو ضمير يجعل منه إنسانا يستشعر آلام و معاناة الآخرين، كما يمكن أن نتخيل مدى حرص" الأمير" على تمسكه بمنصبه، ومدى القلق الذي يعتريه و حالته النفسية الحذرة و المترقبة لكل يحصل داخل محيطه أو خارجه، و مدى الخوف الذي يأكل روحه تجاه كل معارض ينادي بتغيير الوضع أو يطالب بمحاسبته على المسؤولية التي تحملها تجاه شعبه. إنها شخصية عنيدة و متكبرة، كما يرسمها مكيافيلي، لا يقبل أن تأتيه الإهانة من أي جانب، فهو ليس ندا لأحد و لا يقارن بأحد، قوته في مكره و ماله و جبروته. إن تحقيق هاجس الاستقرار و الاستمرار في الحكم، و لو بطرق منحطة، هو هدف مكيافيلي في تسييس الشأن العام، لتصوغ لنا شخصية خطيرة، أقل ما يقال عنها حيوانية الطبع في حلة إنسان. هذا إذا ما استحضرنا، موقف مكيافيلي السلبي من الكنيسة الكاثوليكية في شخص البابا، يتضح أكثر مدى التخلي عن كل التزام أخلاقي و ديني في نظرته إلى العلاقات الإنسانية، بما فيها العلاقة التي تجمع الحاكم بالرعية. إن صحّ كون طبيعة النفس المكيافيلية بهذا الطبع الخطير هي التي دعته إلى تقديم نصائح في غاية الرعونة و خالية من كل قيمة إنسانية، فإن تعريف النفس البشرية عند ابن خلدون بالخيرية هو الذي حمله على دعوة الحاكم إلى التحلي بالمحاسن، على الرغم من من دراية الكاملة بتطبع نفسية الحاكم مع شروط و واقع السلطة و الدولة.
نفسية الحاكم عند ابن خلدون. إن ّ جوهر الفلسفة الخلدونية تتميز بالدراسة الواقعية للتاريخ البشري، فالتاريخ بالنسبة إليه نظر و تحقيق، و ليس سردا لأخبار الملوك و المعارك و الأجناس، و إنما هو معرفة واقعية تنطلق من معرفة علل الأشياء و الأسباب وراء الأحداث، و صولا إلى التحكم في القوانين المفسرة لحركة هذا التاريخ .و يعتبر مفهوم العصبية (القدرة التي تملكها الجماعة البدوية و قوتها المتجلية في خصوصيتها النفسية و المادية و التاريخية)عند ابن خلدون العنصر الأساس لممانعة الجماعة والحفاظ على السلطة. زادت معرفة ابن خلدون بتاريخ العمران البشري دراية فائقة في التوغل إلى طبيعة النفس البشرية للقائمين على الدول و المسيرين لشؤون الرعية. و لأن الخُلق تابع لمزاج الحال الذي هو فيه، و أنّ الدولة لا يمكن لها إلا أن تنتقل من طور لآخر، فإنّ أصحاب السلطة تجدهم في كل طور يحملون خُلقا من أحوال ذلك الطور، و بنية نفسية تشكلت كانعكاس للظروف التي يعيشها الحاكم في كل مرحلة من مراحل السلطة، وهي عموما خمسة أطوار: - الطور الأول هو:" الظفر بالبغية و غلب المدافع و الممانع و الاستيلاء على الملك و انتزاعه من بين أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة أسوة قومه في اكتساب المجد و جباية المال و المدافعة عن الحوزة و الحماية" . - و الطور الثاني: طور البناء و تمكين السلطة لنفسه، " و يكون صاحب الدولة في مَعنيا باصطناع الرجال و اتخاذ الموالي و الصنائع و الاستكثار ممن ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته و عشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه". - الطور الثالث: طور الازدهار و الأوج، حيث " الفراغ و الدّعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال و تخليد الآثار و بُعدِ الصيت ". - الطور الرابع: " طور القنوع و المسالمة، يكون صاحب الدولة في هذا قانعا بما بنى أولوه (...)مقلدا للماضين من سلفه( ...)ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره ". - الطور الخامس فهو طور الإسراف و التبذير " و يكون صاحب الدولة في هذا الطور مُتلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات و الملاذ والكرم على بطانته و في مجالسه " . من هنا يمكن القول، حسب ابن خلدون، أن أخلاق الحاكم النفسية و الفكرية رهينة بالتحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية للدولة و تتغير معها باستمرار في علاقتها مع حركة التاريخ التي تسري و فق منطق واقعي تحكمه قواعد اجتماعية مركزها الأساس حضور العصبية من عدمها في كل طور من أطوار الدولة. لكن على الرغم من هذه الدقة و "الواقعية" في تتبع الأحوال النفسية حسب أطوار السلطة فإن طبيعة النفس البشرية الجوهرية يعرفها العلامة بالطيبة و الخيّرة والأقرب في الأصل إلى الخير من الشر، و في ذلك يقول: " و كان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته و قُوته الناطقة العاقلة، لأن الشر إنما جاءه من قبل القُوى الحيوانية التي فيه، و أما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير و خلاله أقرب" و مادام الأمر كذلك ، فإن مسلك الخير هو من ينبغي أن يدبر به شأن السلطة ، لأن هذه الأخيرة شأن إنساني و ليس حيواني ،"و الملك و السياسة إنما كانا لم من حيث هو إنسان ، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان ، فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة و الملك، إذن الخير هو المناسب للسياسة". إنّ هذه الطبيعة الخيّرة التي يراها في النفس البشرية كأصل، دفعته إلى إمكانية مغالبة كل الظروف المحيطة بالسلطة و بالتالي إمكانية تجاوز هذه الخصوصيات التي تتميز بها أطوار السلطة و معها الأحوال النفسية لممارسيها، فكان على كل حاكم الانطلاق من هذه الخيريّة لينميّ فيه الطابع الإنساني و يربيه، حتى يختار أمثل طريقة في تسيير شؤون العباد و هي أن: " يتنافسوا في الخير و خلاله من الكرم و العفو عن الزلات و الاحتمال من غير القادر، و قِرى الضيوف، و حمل الكلّى، وكسب المعدم ، والصبر على المكاره، و الوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض و تعظيم الشريعة و إجلال العلماء الحاملين لها(...)و الحياء من الأكابر و المشايخ و وتوقيره و إجبارهم ، و الانقياد إلى الحق مع الداعي إليه ، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم(...)و الانقياد للحق و التواضع للمسكين و استماع شكوى المستغيثين(...)و الامتناع عن الغدر والمكر و الخديعة و نقض العهد و أمثال ذلك..." يظهر من خلال ما سبق مدى الاختلاف القائم بين التصور القيمي لابن خلدون و التصور الواقعي لمكيافيلي، تباينا كامنا في تصور طبيعة النفس البشرية. فإن كان مكيافيلي يؤمن بسيطرة النفس الحيوانية على الطبيعة الآدمية و التي لا تكنّ لا للأخلاق و لا للدين أية صلة، فإنّ طبيعة النفس الطيبة عند ابن خلدون حثّته على اختيار التصور الأخلاقي الذي على الحاكم اتباع مقاصده في تدبير الشأن العام ما سيضمن حماية الأفراد و صون حقوقهم، حاكم رحيم وشفيق له من الحس و الضمير ما يجعله يستشعر هموم و آلام الآخرين. المراجع : عبد الرحمان ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، 1993. نيكولا ميكيافيلي، الأمير، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا للطبع و النشر، 2004.
#عبد_الكريم_بولعيون (هاشتاغ)
Abdelkarim_Boulaayoun#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوراق في الاستشراق
المزيد.....
-
شركتا هوندا ونيسان تجريان محادثات اندماج.. ماذا نعلم للآن؟
-
تطورات هوية السجين الذي شهد فريق CNN إطلاق سراحه بسوريا.. مر
...
-
-إسرائيل تريد إقامة مستوطنات في مصر-.. الإعلام العبري يهاجم
...
-
كيف ستتغير الهجرة حول العالم في 2025؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي في عملية إطلاق ن
...
-
قاض أمريكي يرفض طلب ترامب إلغاء إدانته بتهمة الرشوة.. -ليس ك
...
-
الحرب بيومها الـ439: اشتعال النار في مستشفى كمال عدوان وسمو
...
-
زيلينسكي يشتكي من ضعف المساعدات الغربية وتأثيرها على نفسية ج
...
-
زاخاروفا: هناك أدلة على استخدام أوكرانيا ذخائر الفسفور الأبي
...
-
علييف: بوريل كان يمكن أن يكون وزير خارجية جيد في عهد الديكتا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|