عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6620 - 2020 / 7 / 16 - 13:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفكر السياسي باعتباره منظومة متكاملة من القواعد والأسس والمرتكزات التي تشكل منسجمة ومعا موضوعا قابلا للتعايش مع واقعه ومنتجا للهدف والغايات التي يطمح صاحب الفكر من وراء الممارسة السياسية المعتمدة على هذه المنظومة ومحتكمة لها وعليها , وبالتالي فكل خروج عن دائرة الفكر هو خروج عن الأسس المنطقية التي تستمد موضوعيتها من مبررات مهمة وأساسية كانت قد صاغت الفكر وبلورة اتجاهاته , وبدون اسس الفكرية الواضحة والمحددة والموصوفة يكون العمل السياسي مجرد تخبط وأنتقائية وأعتماد كلي على فعل ورد فعل قد لا تنسجم فيما بينها ولا تترابط وتتوحد في مجموعة أهداف أو في وحدة الوسائل .
تميز العمل السياسي فيما بعد 2003 بالارتجالية والتخبط وعدم التخطيط المستند على فكر أو مجموعة أفكار تنتمي إلى روحية معينة يمكن التنبؤ بما يأت في مرحلة لاحقة ولا قراءة توقعية محددة يمكن أن تساهم في رسم إستراتيجية مقبلة للواقع العراقي , برغم أن جميع من مارس السياسة بعد هذا التأريخ أما ينطلقون من فكر سياسي أيديولوجي أو هم من بقايا أيديولوجية فكرية كانت سائدة في الفترة السابقة , لكن التحولات الدراماتيكية وتضعضع الرؤى وتواضع القراءات وافتقاد الكفاءة السياسية والمنهجية وتضارب المصالح الفئوية وتداخل مع هو سياسي بما هو أجتماعي وفكري وديني غيب على الجميع فرصة حقيقية لصياغة رؤية سياسية عراقية تستند لمنهجية محددة ومرتبطة بجملة من الأهداف البعيدة المدى والقصيرة .
إن غياب الوعي السياسي ورسوخ فكرة الإقطاع السياسي وغياب منهجية تترافق مع أستقرار سياسي وتنازع المصالح بين أطراف الصراع التي وصلت حد التناقض الفكري والديني ألقت بضلال ثقيلة على مجمل الفكر السياسي وغاب الوعي العلمي والممارسات التطبيقية للنظريات السياسية الواقعية والعلمية وأصبحت المعالجات مجرد ترقيعات أنية وحلول مرتجلة الهدف من ورائها أمتصاص حالة التذمر أو كسب القاعدة الجماهيرية قليلة الأهتمام إلا بالمصالح المطلبية المعيشية الآنية التي يمكن تحقيق نتائج أفضل منها لو أعتمد المنهج العلمي والتخطيط السياسي وإدارة الأزمات وفق فن متكامل مع منهج إداري متكامل يعيد للمجتمع القدرة على المواصلة والتواصل مع العالم الخارجي والإقليمي وفق مصالح متبادلة ومتزنة.
ان تحديد موضع الإشكالية واكتشاف العيب التكيفي والتكويني لها وإقرار ذلك واحدة من أهم المعالجات التي يمكنها أن تعيد للواقع السياسي العراقي أهميته الجادة ومنه ينطلق الدور لاكتشاف المعالجات المهمة والجذرية لأزمة السياسة والفكر السياسي العراقي ,كما أن الأعتماد على أهمية الخبرة المتأتية من التجربة الحسية والعملية لا تغني من أهمية بناء مؤسسات تعليمية وتدريبية وتطورية واستشارية للسياسيين ولعالمين بالحقل السياسي بل أن الفكرة الثانية هي الأشد توعيا وأكثر تحفيزا للوعي السياسي وخاصة في حالة أعتماد السياسيين على المستشارين المدربين الذين يملكون قاعدة غنية من المعارف والعلوم السياسية والفكرية من الأكاديميين والباحثين وتجنب الاستماع للهواة ومتزلفي رجال السياسية من الأقارب والمعارف , فهؤلاء لا يمكن أن يضيفوا شيئا بقدر ما يضيفوا الوهم والإصرار على تملق السياسي والإيقاع به في خانة الوهم والنفخ الكاذب .
السياسة اليوم علم متشعب وتخصص كامل يمارس عبر الكثير من النظريات والأفكار والمناهج وليس مجرد هواية ممكنة لكل من هب ودب أو أنتمى لجهة سياسية من خلال آليات فوضوية يصبح قادرا على التعامل الحقيقي والناجح مع عالم السياسة , قد تنجح أن تكون إداريا سياسيا أو تكون سياسي تنفيذي أم كونك سياسي تتعامل بمجموعة مركبة ومتشابكة من العلاقات المتشابكة والمتناقضة أحيانا بل والمتصارعة التي تحتاج إلى عقلية قادرة على التجاوب والاستجابة , والتعامل مع الكثير من المزالق والمنحنيات والمتعارضات التي تعترض عمل السياسي بحس توفيقي أو بروح العلم المجرد , وبالتالي على السياسي أن يجيد فن التعامل مع هذا الكم من المشاكل ليخرج منها بأقل الخسائر الممكنة ليس على الصعيد الشخصي بل على المصالح والأهداف والفكر الذي يمثله وهذه العملية ليست سهلة لمحدودي التجربة ومحدودي الوعي العقلي .
إن التركيز على أهمية الحلول الأساسية للكادر السياسي قبل أهمية البحث في شكلية وكونية ذات الفكر الهدف من ورائها أن نضع العربة بعد الحصان ومن ثم تهيئة قواعد التعامل الصحيحة مع إشكاليات القيادة والريادة , والحقيقة اليوم أن قواعد الفكر السياسي في الواقع العراقي لا تتعدى في منشأها القواعد الرئيسية لكل الفكر السياسي العالمي فهي أما نتيجة خيارات ونتائج للفكر القومي المدني الذي يتدرج بين الشيفونية العنصرية مرورا إلى المتأثر بالتاريخ الديني والمتبني لعودة المجتمع إلى الصبغة القومية التي يمكنها التعامل مع شروط العصر وإرهاصات التحديث .
أما القاعدة الثانية والتي تسيدت المشهد السياسي العراقي فهو الفكر الديني السلفي في عمومه سواء اليساري الثوري المرتكز على مظلومية تأريخية كانت في روحها وجوهرها حركة ثورية عقلانية أنتجت مقاومة ذاتية لمكونها الفكري الذي تحدى طلية القرون الماضية الفكر التقليدي المحافظ والذي سيطر طيلة قرون عديدة على واجهة الفكر السياسي الإسلامي وما زال مصرا على التواجد , بالرغم من أن هناك جانبا مهما وأساسيا اليوم منه يتبنى الخيار السلفي التكفيري العنيف والمسلح , والذي لا يؤمن بأحقية أي جهة أو فكر سياسي للتصدي للقيادة الأجتماعية وبين هذا وذاك هناك أصوات خافتة وخجولة لما يسمى الإسلام الليبرالي المتأثر بالفكر السياسي الفلسفي الإيراني والعربي عموما من دعاة عصرنة الدين .
الفكر السياسي الثالث والذي يرسم بعض ملامحه على الواقع العراقي هو التيار الليبرالي والتقدمي والعلماني وهي مجموعة غير متجانسة من الأفكار والأطروحات والمناهج التي لا جامع بينها سوى فكرة العداء لما هو ديني وقومي معتمدة على فكرة الرفض التأريخي لقواعد العمل السياسي المتصف بالخصيصة الوطنية ومحاولة استيراد الحلول الخارجية أو تطبيق النظريات السياسية التي لاقت نجاحا في مجتمعات ما ومحاولة زجها داخل المنظومة الفكرية العربية وفرضها بالقوة التنظيمية دون مراعات للخصوصيات المحلية وشروط النشأة والتوافق .
الحقيقية أن هذه التيارات الفكرية التي تعشش في الواقع السياسي العراقي كل منها تحمل خصيصة معينة وكل منها تحمل مجموعة أفكار ترتبط بواقع أو تهدف لصنع واقع وبالتالي لا يمكن لفكر محدد ولا برنامج واحد أن يستوعب عالم متمدد غير منقطع عن جذوره وساعي للإنطلاق في رحاب عالم كبير متنوع ومتعدد خالي من الفردية ولكنه متمكن من التعدد والأختلاف الإيجابي الذي يثري الفكر ويزيد من دفق المعرفة في ثنايا المجتمع , ولو ألقينا نظرة بسيطة على مجتمع في رأس قائمة المجتمعات المدنية في عالم اليوم مثل المجتمع الأمريكي الذي يوصف بالمجتمع الإمبريالي الاحتكاري ذو النظرة الاقتصادية الحرة نجد هذا المجتمع ومن ضمن فاعلياته الفكرية الحزب الشيوعي الأمريكي المناقض لأساس فكرة المجتمع والساعي للانقلاب على فكرة الرأسمالية ولكن ما يضبط هذا الواقع هو التوافق الأجتماعي على حفظ القانون وأحترام الديمقراطية السياسية كمنهج حياتي متكامل يحفظ للفكر حقه وللمجتمع خياره .
أذن المجتمع العراقي وعموم الفكر السياسي فيه والساسة لا بد أن ينحازوا إلى واحد من هذه الخيارات الفكرية الثلاث وهي تستوعب كافة التفرعات والتوصيفات سواء ما كان منها ينتمي لفئة فكرية أو اجتماعية أو دينية محددة , هنا على المنظومة الفكرية السياسية أن تعتمد على ما يسمى بالتوافق الفكري بين أهدافها والواقع العراقي ومحاولة ترقية العمل والممارسة السياسية وتطوير مناهجها التي تحافظ على التوازن الاجتماعي من جهة واستحقاقات الإيمان بالديمقراطية ومنهجها التكاملي التشاركي لحماية أمن المجتمع وتطوره ومحاولة ترويض الأفكار الهدامة والإقصائية بما يحمي العمل السياسي من العبث والتشرذم والتناقض المؤدي إلى تشظي المجتمع وتفتيت البناء الأجتماعي كما هو حاصل الآن نتيجة غياب أساسيات العمل السياسي المتطور والذي قاعدته الأختلاف السياسي والفكري علامة صحة للمجتمع في إطار الديمقراطية وليس مدعاة للتناحر والتقاتل المؤدي لضياع الفرصة من تحقيقي التطور والتحديث للمجتمع .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟