نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1592 - 2006 / 6 / 25 - 08:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وجدتـُني، أخيراً، مضطراً، ومرغماً، بآن، للقبول بنظرية المفكر الأمريكي، الياباني الأصل، فرانسيس فوكوياما التي تتحدث عن نهاية التاريخ، وتوقف هذا التاريخ ها هنا، عند الحضارة الغربية كما نراها الآن، بهذا الشكل التكنولوجي البارع، والمفرط في الدقة، والمراقبة، والتنظيم. وأن البشرية قد وصلت لذروة انتاجها الإبداعي، والتقني، وأخذت شكلها النهائي، الذي سيمضي وقت طويل، ربما، قبل أن ينطوي على أية تغييرات محتملة. هذا هو فحوى هذه النظرية بشكل عام، وسريع. ولسنا هنا بصدد مناقشة ما جاء بها، بقدر ما نحن بصدد أخذ المفيد منها، ورغم أنها أثارت كثيراً من اللغط والجدال حولها، بين مستهجن، ورافض، وقابل، بل ربما معجب بها. وربما بسب ارتباطها، ولحد كبير، بنهج، وعقلية، وتفكير المحافظين الجدد، حاملي راية العهد الإمبريالي الأمريكي الجديد. ورغم أنني لست مولعاً بأي شكل من الأشكال، بأي نوع من أنواع التنظير الفذلكي، وأصحابه، أوبأي من تلك القوالب الجامدة التي اعتدنا على سماعها هنا وهناك. إلا أن في هذه النظرية، شيئاً من الصحة، فيما لو سحبناها على تاريخنا الذي تعطل، وتوقف، تماماً، في مرحلة ما من هذا التاريخ البشري، ولا يريد أن يتحرك قيد أنملة إلى الأمام. وهو لا ينفك يعيد انتاج ذاته بنفس الأدوات، والمؤثرات، وإن اختلفت المسميات، والشخصيات، كما أنه لم يقدم للبشرية بعد ذلك الوقت أي شيء جدير بالتوقف، والدراسة، والاهتمام.
إلا أن إيماني العميق، ثانياً، وهو الأهم، بأن حركة التاريخ لن تتوقف يوماً عن المسير باتجاه إنساني عظيم، وخلاق، ستبقى في مكانها، ولن يزحزحها لا فوكوياما، ولا فوكويابا. وطالما أن العقل البشري يعمل، فإن التاريخ سيتحرك، ولن يتوقف، طالما أن هذا الجهاز البشري العظيم هو الدينامو، والقوة الدافعة impetus والمحرك الحقيقي وراء مسيرة التاريخ. وجاء مبعث إيماني العظيم بهذه النظرية, وعذراً من كل الأخوة الأصوليين، عندما أراقب هذا الوضع العربي الجامد، والشاذ، والمهين، والمخالف، جوهرياً، لكل النواميس والقوانين المتعلرف عليها. ويترسخ هذا الإيمان بشكل فعلي حين يتم إسقاط هذه النظرية على هذا الواقع الأليم الذي تعيشه شعوب المنطقة، وحين يتم النظر إليها من شقها العربي، وليس الكوني، والعولمي الذي لا يمكن في الواقع اعتباره أنه توقف عند حد معين، بل هو آت كل يوم بشيء جديد. وحين أستطلع هذا المشهد العربي السوريالي العجيب، وأسترجع في ذاكرتي كل تلك الأسماء، والأفكار، والوجوه المؤبدة التي تحتل مساحاته بجدارة من أبد الآبدين، أدرك تماماً أن عجلة التاريخ لم تتوقف عن الحركة والدوران فحسب، بل "بنشرت"، وتبسمرت تماماً، وأصابها الكساح في مكان موغل في القدم من دروب التاريخ الطويل. وأن عملية كتابة، وإنتاج تاريخ جديد تصطدم بتلك النغمة المعهودة بأنه لا مجال مطلقاً لمحاكاة، وتقليد ذاك التاريخ العظيم، والتليد الذي أنتج يوماً ما، وكان مصبوغا بلون الدم، ومجبولاً بصراعات لن تنتهي حتى ولو انتهى فعلاً التاريخ نفسه. والأنكى من ذلك، أن هناك من يقف، وبقوة، ضد أية محاولة لتخطي تلك الأيام الخوالي. نعم لقد توقف تاريخ هذه المنطقة عند كليشيهات، وقوالب متشنجة، وأطر متكلسة عفا عليها الزمن، ولم يستطع هذا الإنسان الخروج من تلك الشرانق الفكرية، والإيديولوجية التي وجد نفسه فيها من زمن بعيد، لا بل إن مجرد تفكيره بالخروج منها يعتبر سبباً وجيهاً، ومقنعاً، لإخراجه بأقصى سرعة من هذه الحياة نفسها.
فحين لم يستطع هذا العقل أن يتحرر من نمطيته المعهودة، وبقي يلف، ويسبح، ويدور في نفس تلك الأطر، والثوابت، والدواهي، والبلاوي الجامدة، ويكرر نفسه بملل مقيت فهو يكون قد توقف، وتوقف معه التاريخ فعلاً. وحين تتملكنا جميعاً، كبيرنا، وصغرنا، نفس التوافه، والصغائر، والعصبيات القبلية، والجاهلية البغضاء، ونعيش في عصور الانحطاط السياسي، والاجتماعي، والأخلاقي، ولا نستطيع الخروج منها، فيكون فعلاً التاريخ قد توقف عندها بما لا يدع مجالاً للشك أبداً. وحين نطالع نفس نشرات الأخبار, ونسمع نفس السوالف، والقصص، والمخازي المكررة، وحين لا يتجدد أي شيء في الحياة، بدءا من منصب الفراش، وانتهاء بمنصب صاحب النفوذ، والجاه، والجلال، طويل العمر، حماه الله ورعاه، يكون فعلاً التاريخ قد توقف وكفت عجلة الحياة عن الدوران. وحين ترى نفس العقول وهي تجتر نمط تفكير القرون البائدة، تدرك أنها مازالت تعيش في عهد منقرض، ولا وجود له مطلقاً على خريطة الحياة، وتدرك أن كل شيء، وليس التاريخ فقط، قد توقف بالنسبة لهؤلاء الذين لا يعرفوا كيف ينفضوا عن كواهلهم غبار السنين، وصدأها الذي تراكم عليهم. وحين تدخل إلى تلك العقول المحنطة، والتحف الفكرية، وتقرأ لصعاليك الفكر المهزوم التي تهذي بافكار، أكل عليها الدهر، وشرب، و......، وتتخندق بمواقع هجرتها البشرية وإلى الأبد، تؤمن، فعلاً، بأن التاريخ في ثلاجة متجمدة، ولا ينقصك إلا أن تقوم ببعض الطقوس الأخرى، لتدخل في مراتب القديسين، والأولياء، لشدة ورعك، وتقواك، وإيمانك بهذه النظرية الخالدة.
أنظمة الحكم برمتها، في المنطقة، توقفت عند النمط القبلي، الأبوي، الهيراركي، الوراثي القديم. ولم تفلح في إدخال أي نمط من التعديل عليه. وطرائق قيادة الناس، والتحكم بها لم تتغير منذ أزل السنين، حيث القطعان السائبة، الخائرة، والجائعة تهلل، وتسبح وتمجد للسجانين، وتعود في المساء لتنام في نفس الزنازين، ولا تستطيع مبارحة مساراتها إلا بمشيئة الحاكم، المنعم، المذّل شمس الواعظين، وأمير التابعين. أشكال الاقتصاد، والإدارة، توقفت عند مفهوم العطاء، والتكرم، والتمنن على الآدميين، وعبقرية صاحب الشأن الذي هو مرجع علمي، واقتصادي، وصناعي، وتجاري، وديني، وهو الذي يحي ويميت. ولا يوجد هناك اقتصاد يدار بعقلية تكنوقراطية تراعي مناخات الأسواق العالمية بل بحكمة، ورؤية صاحب الشأن، ورؤيته، وهو المرجع الوحيد في كل شيء.
وحين يستشعر الجميع استفحال، وعمق، واستشراء الأزمات التي يعيشونها، وما وصلوا إليه من قصور، وتخلف مزرٍ، وانحطاط مهين في مختلف الميادين، يطلبون العودة لنفس التاريخ القديم لاستنباط الحلول الناجعة، لرزمة المشاكل المستعصية، التي تواجه هذا الإنسان التعيس بسبب العجز الواضح، وعدم القدرة الفعلية للعقل المشوّه على التكيف مع مفاهيم العصرنة، والحداثة، وقبول أي شكل من أشكال التغيير. وإذا كانت نظرية فوكوياما قد لحظت أن توقف التاريخ قد تم عند مرحلة إيجابية، ومثمرة، وفيها الكثير من الإنجازات التي انعكست خيراً، ورفاهاً على الجنس البشري، بحيث أصبحت أمثولة تريد تطبيقها كثير من الأمم، فإن التاريخ، ها هنا، قد توقف عند مراحل مخجلة، ومقرفة، مؤسفة من التشظي، والافتراق، وعمليات الانقسام والتشطير، وبوجهه الأكثر سوءاً وقبحاً، وانعكس بؤساً، وشؤماً، وفقراً على شعوبه، ولم يقدم ما يفيد.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟