|
تنوير أهل العراق ..... هل يعرف العراقيون بعضهم ؟ الجزء الرابع
علي وتوت
الحوار المتمدن-العدد: 1590 - 2006 / 6 / 23 - 11:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فقد أدت عمليات التحديث، أيضاً، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب. وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحية معدمة في الأرياف. بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي. وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي. عملية التحضر هذه انقطعت في حقبة الحكم العسكري "الثوري" (1958-1968)، وتشوهت تماماً في حقبة الحكم الشمولي (1968-2003). لكن عملية التحضر هذه ستنسحب من المدينة في العراق، لتفسح المجال لقيم التريّف (متمثلاً بفاعلية العصبية القبلية ونوازعها، ووجود الجماعات ما قبل الحديثة، والفاعلة في حياة الأفراد، مثلما هو وجود الاقتصاد المتخلف). فقد دخلت متغيرات الريف إلى المدينة العراقية مع موجات الهجرة إلى المدن الكبرى في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. ذلك أن عملية التحضر في العراق تحولت من عملية تمدين الريف وتحضيره، إلى عملية ترييف المدينة. ويعود ذلك إلى أن (مدينة الخدمات Service City) التي يفترض أن تسع للمهاجرين من الريف، لم تستوعبهم في منظومتها الديموغرافية، ولم تستوعبهم في نسيجها الاجتماعي، بل تركتهم (متذرّين Atomized) خارج ثقافة المدينة، وأيضاً خارج البنى الريفية في الوقت ذاته. إن عجزُ الدولة عن توفير العمل أو الخدمات الأساسية اضطر مئات الآلاف من البشر المتكومين بعضهم فوق بعض إلى التماس النفوذ لدى جذورهم التقليدية من جماعات فاعلة (العائلة والعشيرة والقبيلة)، ومرجعيات فاعلة (الدين والطائفة والإثنية). لقد حدثت هجرة واسعة في القرن الماضي من الريف إلى المدينة، لكن بسبب غياب عوامل الصهر والاندماج في المجتمع المدني ظل (البدوي/الريفي) الذي تحول إلى (مدني) مرتبطاً بالعشيرة وشيوخها وتقاليدها ارتباط قوياً ومهيمناً. غير أن الأزمة التي احتدمت في أعقاب الحرب العراقية - الإيرانية، ثم في أعقاب حرب الخليج (1990-1991)، والحصار الاقتصادي على العراق، أدَت إلى نشوء وضع فريد: دولة شمولية ضعيفة، ومجتمع مدني منهك، بل محروم من مؤسساته. في هذا الوضع من الفراغ النسبي، نمت شبكات القرابة، وأشكال التنظيم القبلي، لتسدّ مسدّ مجتمع مدني مغيَب. وبرزت شبكات التضامن المحلي في صورة إعادة تنظيم للدين الشعبي حول الجوامع والشخصيات الدينية. قامت هذه الشبكات، التي شجعتها الدولة، على ملء الفراغ وتقديم خدمات الأمن (الحماية الذاتية)، والقضاء القائم على الأعراف (بعد انهيار أجهزة القضاء والشرطة)، علاوة على التعاضد الاجتماعي (إسعاف الفقراء، الأيتام، العاطلين الخ...). ارتبطت هذه المؤسسات التقليدية بإحياء القبائل، وهي جزئية تقوم على فكرة الانتساب بالدم (أيديولوجيا النسب) لا على فكرة المواطنة، وبات شيخ القبيلة شخصية اجتماعية بارزة من جديد، بعد أن كاد النسيان يطويها في بلد كان يعدّ، منذ القرن التاسع عشر، مقبرة القبائل. وارتبطت المؤسسات التقليدية أيضاً بالشيوخ الدينيين وأئمة الجوامع والمجتهدين (الشيعة)، وهي أيضاً تقوم على الروابط المحلية، والدينية، وتقترن بنشر رؤى اجتماعية - سياسية ذات منحى أصولي في بعض الأحيان (كالوهابية والخمينية). وهكذا أصبحت المدينة في العراق عبارةً عن (قرية منتفخة Distended Village)، فهي لم تنقطع عن علاقات وجماعات ومرجعيات القرية والريف، ولم تستبدلها إلا بأسوأ منها، كما إنها من جانب آخر جعلت أفرادها متصارعين ثقافياً فيها، أو كما وصفهم لنـا الأستاذ د. علي الوردي (متناشزين اجتماعياً ومزدوجي الشخصية). فقد تريفت المدن (العودة إلى قيم الريف)، وأصبحت لمعظم شيوخ ورؤساء العشائر أو القبائل مضايف في بيوتهم، الموجودة الآن في مدن العراق ! ... إذْ زحفت القيم الاجتماعية البدوية إلى الريف، ومن الريف إلى المدينة، وما زالت مضايف القرون الماضية منصوبة في صميم المدينة. لقد كانت عملية تريّف المدينة هذه نتيجة منطقية للثقافة الانتقالية التي تعيشها المدينة في البلدان النامية ومنها العراق، وهي الثقافة الناجمة عن وسائل الاتصال الحديثة على الرغم من عدم الانقطاع عن البنية الثقافية التاريخية للأفراد، مثلما هي ناتجة عن استمرار أدلجة الأفراد مباشرة من دون المرور بوساطة الجماعة العضوية ما قبل الحديثة (مثل العائلة، المحلة،...)، وعن تذرية (أو تذرير) الأفراد (من دون إعادة صيانة العلاقة بينهم عبر سيادة القانون)، وعن عملية توسع الأحياء الشعبية باستمرار. وفي جميع الحالات، سواءً حرم أبناء المدينة من الخدمات لعوامل سياسية أو اقتصادية، فإن ذلك يشكل انتهاكاً لحقوقهم الإنسانية. ومن جانبٍ آخر، شهدت المدينة العراقية التي انقسمت إلى محلات أو أحياء عدة، ظاهرة انتماء الأفراد فيها إلى هذه المحلات. إذ كانت الانشقاقات الحضرية في المدينة ظاهرة معروفة في التنازع بين (محلات) أو (أحياء) في مختلف مدن العراق. فالمجموعات الاجتماعية في هذه المدن، والتي كانت تنتمي في الغالب إلى عقائد دينية أو طوائف أو طبقات أو فئات اجتماعية مختلفة، أو كانت من أصول إثنية (عرقية) أو حتى عشائرية مختلفة، كانت تميل إلى أن تعيش في (محلات) منفصلة. فالمدينة العراقية كانت مقسمة إلى عدة أحياء أو (محلات) منفصلة عن بعضها البعض، ومتنافرة فيما بينها. (فالمحلة) في المدينة، مثلما هي العشيرة في الريف، كانت تشكل ملاذاً للإنسان الفرد يحتمي بها وتعبيراً جزئياً عن النزعة الفطرية للحصول على الحماية خلال الاندماج الوحدوي في داخلها. وفي جميع الحالات فإن تريّف مدينة الخدمات سوف يحرم أبنائها من حقوقهم الإنسانية.
#علي_وتوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنوير أهل العراق ..... هل يعرف العراقيون بعضهم ؟ الجزء الثال
...
-
تنوير أهل العراق... هل يعرف العراقيون بعضهم ؟ الجزء الأول
-
في المضمون الاجتماعي للفن....قراءة أولية في سوسيولوجيا الفن
...
-
في المضمون الاجتماعي للفن.... قراءة أولية في سوسيولوجيا الفن
...
-
المؤسسة العسكرية في الدولة العراقية السابقة 1-2
-
المؤسسة العسكرية في الدولة العراقية السابقة 2-2
-
عراق (واحد) أم (موحّد)...... عن أيّ مجتمع عراقي نتحدث ؟
-
في الاجتماع السياسي للعراقيين ....عن أيّ مجتمع عراقي نتحدث ؟
-
في أبعاد العولمة ومستوياتها
-
انتهاكات حقوق الطفل في العراق 1-2
-
بيئة الإنسان من منظور الثقافة والمجتمع
-
2-2 انتهاكات حقوق الطفل في العراق
-
في مفهوم المواطنة ... وحقوق الإنسان
المزيد.....
-
محمد رمضان يثير الجدل مجددا بفيديو ساخر.. -رمضان أحلى-
-
نتنياهو يغادر إلى واشنطن ومكتبه يوضح الهدف من الزيارة
-
بوتين: ترامب سيعيد النظام بسرعة كبيرة والنخب الأوروبية سترضخ
...
-
الشرطة البريطانية تعتقل رجلا حرق القرآن في بث مباشر غداة مقت
...
-
ترامب وزوجته ونائبه -يرثون- حسابات أسلافهم على السوشيال ميدي
...
-
مكالمة السيسي وترامب في الإعلام المصري: -التوتر يتراجع ودعوا
...
-
اتفاق مصري جيبوتي على استعادة الأمن وحركة الملاحة في باب الم
...
-
لبنانيون يحاولون العودة إلى بلداتهم رغم وجود الجيش الإسرائيل
...
-
بوتين: ترامب سيعيد النظام بسرعة كبيرة والنخب الأوروبية سترضخ
...
-
إسرائيل تستأنف الإثنين المفاوضات مع حماس بشأن المرحلة الثاني
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|