|
ندامة الأرمني
ملهم جديد
الحوار المتمدن-العدد: 6585 - 2020 / 6 / 6 - 23:13
المحور:
الادب والفن
سيتذكر آغوب سركسيان اليوم الذي انتظره لمدة ستين عاما ، كواحد من أسوء الأيام التي مرت في حياته . و لسوف يتذكر أيضا ، و بأسى مضاعف ، ما صرفه من نقود على آلاف الشموع التي حرص ، و منذ كان في العشرين من عمره ، على إيقادها كل يوم في الكنيسة الأرذوذكسية الأرمنية في حلب التي ولد و تربى فيها ، و مئات الساعات التي قضاها راكعا أمام صورة المسيح طالبا منه أن لا يقبض روحه قبل أن يشهده . و مع بلوغه سن الخامسة و السبعين ، بدأ يفقد الأمل بأن يبقى حيّا ليحتفل بذلك اليوم ، لكنه ، و في ظهيرة يوم 12 أيلول من عام 1991 ، و بينما كان مستلقيا في غرفة النوم لأخذ قيلولته المعتادة ، دخلت عليه زوجته أولغا و هي تنفض عن يديها ما علق عليهما من حشوة الرز و اللحمة التي كانت تعدها لطبخة ورق العنب من أجل يوم الغد ، و أخذت بتحريكه بقوة ، فاستيقظ مرعوبا ، و هو الذي اعتاد ، في الخمسين سنة التي قضاها معها ، أن لا توقظه إلا لتسمعه خبرا عن مصيبة وقعت أو عن مصيبة على وشك الوقوع ، صلَّب آغوب ، و قبل أن يفبرك عينيه ، و يمد يده لتناول نظارته ، بدأت بالصراخ " استقلت أرمينيا يا آغوب " " استقلت أرمينيا يا آغوب " ، و مع أن حديثهما دار باللغة الأرمنية ، إلا أن خادمتهما الأمية أم أحمد حدست بأن في الأمر شيئا مفرحا ، فبدأت بزغرودة قوية ، لم تلبث أن أتبعتها بزغرودة أقوى ، فاجتمع أهل البناية ، و أغلبهم من الأرمن ، ليباركوا لآغوب ، و ماهي إلا نصف ساعة حتى اجتمع أهل الحارة أمام بيته ، فوجد من واجبه أن يخرج إلى الشرفة و يلقي خطابا بهذه المناسبة التي قضى عمره بانتظارها ، فألقى خطابا مرتبكا بالأرمنية التي يتقنها و العربية المكسرة ، و لأن في الحماس مقتلة الحكمة ، فقد أقسم أن لا يمضي شهر حتى يغادر إلى أرمينيا ليقضي فيها ما بقي عمره ، و التزاما بوعده المعلن هذا ، سارع آغوب و باع على عجل محل قطع تبديل المحركات الذي ورثه عن أبيه ، و كاد أن يبيع المنزل ، لولا حكمة زوجته التي نظرت إلى عجوزها ذي الشاربين الكثين ، و قالت " طوّل بالك يا آغوب ، روح جرّب ، و شوف شو بيصير معك بأرمينيا ، و بعدين منفكّر نبيع البيت " ، و لم يكن ليقتنع لولا تضامن أولاده مع أمهم ، و نصائح أصدقائه بالتريث . في أرمينيا ، التي وصلت طائرته إلى مطار عاصمتها " يريفان" مع حلول الغسق ، هرول آغوب نحو باب الطائرة مخالفا تعليمات المضيفة التي صرخت به أن يبقى في مكانه فلم يستجب لها ، و ما أن فتح باب الطائرة حتى هرول نازلا الدرج من غير أن يشعر بألم الركبتين المزمن الذي رافقه منذ دخوله سن الكهولة ، و عندما أصبح على الأرض التي طالما حلم بوطئها ، خَر ّساجدا ليقبلها ، فلم يلحظ ، بسبب حماسه أيضا ، بأن طعمها كان مثل طعم أية أرض أخرى . قضى اليومين الأولين عند أقارب كان قد حرص على التواصل معهم طيلة سنين وجوده في سوريا ، و ما أن مضى شهر، حتى اشتاق لسماع آذان الفجر الذي تعود على الإسيقاظ على صوته في حارة الأرمن حيث كان صوت المؤذن يتهادى رخيما و هو يتسلل من الحي الإسلامي المجاور ، و تذكر أصدقاءه الذين كانوا يمازحونه " جيب كم تعويذة من عند أبونا قبل ما تصير مسلم " ! فكان يرد ضاحكا " لو اقتصر الإسلام على الآدان كنت أسلمت من زمان " . و لم يمض شهران ، حتى اكتشف بأن أرمينيا ليس لها حدود بحرية ، أزعجه الأمر في البداية ، و استغرب كيف أنه لم ينتبه إلى ذلك ! ، ثم حدّث نفسه " كيف راح تجي البضاعة ! النقل البري بطوّل و بِكَلِفْ أكتر من النقل البحري ! " لكنه أبعد هذا الخاطر المحبط ، و ركن إلى فكرة أنه لا يوجد حب من دون ثمن ! . و كي يبقى في أرمينيا ، كان عليه أن يواجه خفوت الحماس بالتجاهل ، و بعناد ليس من طباعه ، افتتح محلا لقطع تبديل المحركات ، و حرص على أن يكون شبيها بمحله في حلب ، ثم قعد ينتظر . مضى الآن عام على وجوده في أرمينيا التي تحولت إلى مكان عادي ، يفتقد إلى ميناء بحري ، و حركة السوق فيها شبه ميتة ، و فجرها ناشف لا أذان فيه ، لكنه في مكالماته مع زوجته و أولاده في حلب ، كان يروي لهم حكاية أخرى عن النهارات الجميلة ، و الأمسيات التي تعبق برائحة الوطن ، و بسؤاله عن سير العمل ، كان يبلع ريقه ، و يتظاهر باللامبالاة قائلا " الحياة ما بس بيع و شري " . فكان أول من انتبه إلى أنه ليس على ما يرام هي زوجته ، التي أخبرت ابنهما الأكبر سركيس ، بأنها تعرف وضع أبيه النفسي من صوته ، " أبوك حزين يا سركيس ، احمل حالك و روح شوف شو قصتو "! . في الطريق من المطار إلى المنزل ، عبثا ، حاول آغوب إخفاء الحقيقة ، فنحافته ، و السواد تحت عينيه ، و صوته المرتبك ، و الإبتسامات المصطنعة ، تضافرت كلها لفضحه أمام ابنه الذي لم ينتظر كثيرا حتى سأله " اشتقت لحلب !؟ "، و كانت هذه المرة الثانية التي يرى فيها سركيس دموع والده ، المرة الأولى كانت عندما توفت جدته أم آغوب . " و مضى وقت ليس بالقصير ، قبل أن يجيب آغوب " آخ اشتقت و بس ! " ربت الإبن على كتف الأب الذي أصبح صوت بكائه مسموعا الآن ، ابتسم الإبن ، و سأل " و لشو اشتقت أكتر شي "؟ مسح الأب دموعه بكم قميصه "اشتقتلكن و اشتقت لأمكن ، اشتقت للهجة الحلبية ، و الكباب الحلبي ، و الأدان عند الفجر ، و الغنا الحلبي ، و الزباين و البيع و الشري " ابتسم الإبن " صحيح ، كيف البيع و الشري هون " ! " خرى يا سركيس خرى ، يللي ما باع واشترى بحلب لا باع و لا اشترى ، فكرت أنو متل ما عملت مصاري بحلب قادر اعمل هون بأرمينيا ! بس في مثل عربي بقول " حسابات ألح ألح ، آخ ذكَّرني يا آغوب ، هدا أكتر مثل بحبو ، بس عمري ما فيني احفظتو " فقال الإبن " حسابات الحقل غير حسابات البيدر " ثم أضاف الإبن " الشي يللي غاب عن ذهنك يا بابا أنو نحنا أقلية بحلب ، و سمعتنا كويسة و معروفة من زمان ، يعني مجرد تحط آرمة على محل ، و يشوف الناس أنو الإسم أرمني ، هي لحالها دعاية ، أما هون بأرمينيا ، أنت فاتح محل بين تلاتة مليون أرمني ، يعني بدك خمسين سنة تيصير عندك الزباين يللي ممكن يصيرو عندك بخمس شهور بحلب " اتسعت حدقتا عيني آغوب ، نظر إلى ابنه و قد أخذته الدهشة " العمى ، كيف ما انتبهت أنو أرمينيا كلها أرمن !، صحيح الحب بيعمي " و قُدِّر لسركيس أن يرى دموع أبيه للمرة الثالثة .
#ملهم_جديد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل حر ، لكن! / قصة قصيرة
-
صديقي الفأر
-
الفك
-
رجل حر ، و لكن ! / قصة قصيرة
-
هل يستحق المجد الأدبي عناء السعي إليه / ترجمة ملهم جديد عن م
...
-
صديقي الأميريكي
-
دور النخب الثقافية و السياسية في الأزمة السورية وفي صياغة أس
...
-
دور النظام السياسي الحاكم في الأزمة السورية
-
الصغيرة و الحرب
-
وداعاً يا قرطاج/ قصة قصيرة
-
في مكتب السيد الرئيس / قصة قصيرة
-
قصة قصيرة
-
حكاية ليست للروي / قصة قصيرة
-
على الجبهه الشمالية
-
على باب السيد الرئيس / قصة قصيرة جدا
-
الحبل
-
الرأس المقطوع
-
الشرق
-
العاشق / قصة قصيرة
-
القنَّاص
المزيد.....
-
مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور)
...
-
إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر
...
-
روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال
...
-
زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
-
-الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ
...
-
عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع
...
-
تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر
...
-
المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
-
عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو
...
-
الشارقة تختار أحلام مستغانمي شخصية العام الثقافية
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|